الدراسات الكتابية:
كانت مصر أرض خصبة زارعة للقمح بشكل مستديم نظرًا لوجود النيل في وسطها وفيضانه بشكل سنوي. أحيانًا كانت تمر مصر بمجاعة لكن هذه المجاعات لم تستمر لسبعة سنوات إلا في حالة يوسف [1]. ونظرًا لوجود يوسف في ذات السجن الذي كان فيه اثنين من عمال الفرعون، كان أغلب الظن أنه في السجن الملكي الذي كان سجناؤه من المسجونين السياسيين [2]. ولحكمته وقدرته على تفسير الأحلام، حرره فرعون من قيوده جاعلًا إياه الرجل الثاني في المملكة. فرعون مصر آنذاك غير معروف ومن الصعب تحديد وقت وجود يوسف في مصر. ترجح السجلات التاريخية احتمالية ورود هذه الأحداث “إما في عهد الهكسوس (1750 – 1550 قبل الميلاد) أو عهد العمارنة (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) بينما يرجح الكرونولوجي الكتابي (أي التاريخ الكتابي) حدوث هذه القصة في أوائل المملكة الوسطى في زمن الأسرة الثانية عشر (1963 – 1786 قبل الميلاد) في مصر [3]. بدور سياسي يشابه دور رئيس الوزراء في زمننا وباسم مصري جديد، بدأ يوسف مشروع الحفاظ على مصر والمناطق المحيطة من خطر المجاعة الآتية. في النهاية، يظهر يوسف كمخلص لمصر والمناطق المحيطة من مجاعة استمرت سبعة سنين.
التفسير اليهودي:
تركز التفاسير اليهودية على التشابه في السرد بين عناصر قصة يوسف حيث يروا بيع يوسف للعبودية مقابل أنه كان سيخدع أخوته بادعائه أنه سيتخذهم كعبيد له، وحلميه بالسلطة على أخوته مقابل حلمي فرعون فيما يخص الدمار الآتي مع المجاعة، وارتدائه الثوب الملون الذي أعطاه إياه أبيه وارتدائه الثياب الملكية التي أعطاه فرعون إياه مقابل خلع أخوته ثيابه قبل بيعه كعبد ومحاولة امرأة فوطيفار خلع ملابسه لتوقعه في الخطية [4]. بخصوص المجاعة التي أنبئت بحلمي فرعون، نجد أمرين هامين. الأول هو أنه لا يوجد أي إشارة لكون المجاعة آتية من قبل الله. بل على العكس، الله هو من حفظ العالم خلال حلم فرعون وحكمة وتفسير يوسف. الأمر الثاني هو أنه على الرغم من أن الحلم أشار السنوات الضعيفة ستغضي على السنوات القوية، إلا أن يوسف يقدم لفرعون الطريقة التي بها سيُحفظ العالم من المجاعة [5]. ومع أنه من الممكن أن يربط الشخص بين الخصب والخير وبين المجاعة والشر، إلا أن في حالة يوسف كانت المجاعة سببًا في لقائه بأبيه وإخوته مرة أخرى بينما الغنى الذي أتى بعد هذه الأحداث كان وقت اعتلاء كرسي الفرعون ملكًا جديدًا لم يعرف يوسف واستعبد الإسرائيليين [6]. بالتالي، فالنظرة الإنسانية أو التوقع البشري لا يتلاقى دائمًا مع الحقيقة. وقد ينطبق ذلك أيضًا على الشر الذي صنعه أخوة يوسف به حين باعوه. من ناحية، قد كان هذا شرًا اقترفوه (تكوين 45: 4)، ومن الناحية الأخرى، كان الله هو المدبر للأحداث حتى لا يكن الدمار صاحب الكلمة الأخيرة وحتى تنتصر الحياة على الموت [7].
التفسير المسيحي:
حين بيع يوسف بعشرين شاقل، الثمن المتعارف عليه آنذاك للعبيد [8]، كان هذا سببًا في اهتمام الآباء بالنظر ليوسف كرمز ليسوع الذي بيع بثمن العبد في زمنه، أي ثلاثين من الفضة. بهذا المنظور، رأى معظم المفسرين المسيحيين الأوائل في حياة يوسف رمزًا حياة يسوع على عدد من المستويات. فيعلمنا أمبروسيوس أنه من كانوا في زمن يوسف كانوا سيهلكون جسديًا، كذلك من لم يطعمهم المسيح لن ينالوا الحياة الأبدية [9]. على المستوى التاريخي الذي يحاول أن يبحث عما إذا كان الله هو سبب المجاعة أو سبب بيع يوسف كعبد، نجد يوحنا ذهبي الفم في عظاته على التكوين معلقًا على تعيين فرعون ليوسف، قائلًا [10] :
انظر في هذه الحالة كيف أنه حين أراد الله ذو الوسائل العديدة أن يحقق قراراته، لا يجد صعوبة أمامه في الأحداث الجارية في نفس الوقت. انظر على سبيل المثال كيف أن قتل يوسف على يد أخوته كان على وشك الحدوث، والبيع [كعبد]، والاتهام الذي أدى به إلى الخطر الشديد، أي السجن لمدة طويلة، وكيف أنه بعد كل ذلك يمكننا أن نقول أنه ارتفع للعرش الملكي.(Sheridan, Ancient Christian Commentary on Scripture: Genesis 12 – 50, 292)
فالله له الكلمة الأخيرة في كل ما يحدث في حياة يوسف محولًا كل الشر بطريقة تجعل من يوسف مخلصًا للناس في زمنه. ونسمع صدى هذه الفكرة مرة أخرى في كلمات يوحنا ذهبي الفم حيث يقول الكلمات التالية معلقًا على كلمات يوسف عندما أعلن هويته لأخوته [11] :
يقول يوسف: “لا تكونوا شديدي اللوم على أنفسكم، ولا تظنوا أن هذه الأشياء حدثت لي حسب مشيئتكم. لم تكن هذه الأشياء بسبب حسدكم بقدر ما كانت من حكمة الله وحبه غير الموصوف أنني جئت إلى هنا والآن أصبحت في مكانة مرموقة لأعطي الغذاء لكم ولكل البلد.(Sheridan, Ancient Christian Commentary on Scripture: Genesis 12 – 50, 313)
وبعد رقاد يعقوب، يتحدث يوسف وأخوته مرة أخرى عن الشر الذي قام به أخوته وضده في نهايات سفر التكوين. ومرة أخرى نجد يوسف مؤكدًا أن الله حول شرهم إلى خير. يقدم لنا يوحنا ذهبي الفم سرد وافي لعناية الله التي تحول الشر إلى خير قبيل نهاية عظاته على سفر التكوين فيقول [12] :
إذن ليريهم مرة أخرى النعمة التي نالها من الله، يقول يوسف: “قد قصدتم بي شرًا لكن الله حوله إلى خير لي”. لذا يقول أيضًأ بولس: “كل الأشياء تعمل معًا للخير”… ماذا يعني بـ”كل الأشياء”؟ حتى المخاصمات والإحباطات، حتى هذه الأشياء تتحول إلى خير وهذا بالضبط ما حدث مع هذا الإنسان الرائع [أي يوسف]. في الحقيقية، ما حدث من قبل إخوته أدى مباشرة لمجيئه إلى الملك، فشكرًا لحكمة الله الخلاقة التي حولت كل شرورهم إلى خير.(Sheridan, Ancient Christian Commentary on Scripture: Genesis 12 – 50, 375-376)
أخيرًا:
من الممكن أن نستنتج من التفاسير السابقة أنه من الممكن أن تحدث كارثة طبيعية دون أن يكون الله المسبب لها. وفي الحقيقة، يمكن أن يكون دور الله خلال أشخاص مثل يوسف هو السيطرة على الكارثة. فلا يوجد أي ذكر لله كمسبب للمجاعة في القصة كنتيجة لغضب أو حكم على الخطية. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر بطريقة قريبة من ذلك هي كلمات يوسف: وأما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين، فلأن الأمر مقرر من قبل الله، والله مسرع ليصنعه
(تكوين 41: 32) إلا أنه حتى ذلك لا يوحي بأنه كان ناتج عن غضب أو شر. علاوة على ذلك، على الرغم من أنه لا يمكن أن يظن أحدهم أن الله هو الذي جعل أخوة يوسف يبيعنه، إلا أن يوسف يقول: فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وليستبقي لكم نجاة عظيمة
(تكوين 45: 7). حقًا، الله لم “يرسل” يوسف عن طريق شر أخوته، بل بالحري أحضر إلى الواقع أفضل نتيجة ممكنة من شرهم.
وبالنظر لأن العالم قد خلص بوجوده في مصر، لا يستنكف يوسف من نسب وجوده في مصر لسبب إلهي بالرغم من أن الله لم يكن هو المسبب لشرور أخوته. لو ظن يوسف أن الله كان سببًا لبيعه بشكل مباشر، لما حاول أن يخيف أخوته بسجن شمعون أو تهديده بسجن بنيامين لو أنهم لم يصنعوا شرًا وكانوا فقط منفذين لخطة الله. نسب الضعفات البشرية لله كمسبب لها يعد تجديف على صلاح الله واستخفاف بحرية الإرادة البشرية. في ضوء نسب يوسف بيعه لمشيئة الله على الرغم من أن إرادة الله لم تكن أن يبيعه أخوته، يمكننا أن نفهم تكوين 41: 32. من الممكن أن يقال إن الله هو سبب المجاعة فقط للإشارة لكونه المعلن عنه ولاستخدامه إياه لاعتلاء يوسف عرش الرجل الثاني في مملكة مصر ولحفظ النسب الإبراهيمي الذي سيأتي منه المسيح. على الرغم من كل ذلك، لا يمكننا أن نقول أن الله قرر بطريقة عشوائية أن يؤتي مجاعة على كل الأرض دون سبب.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- [٧] الطوفان العظيم فيما سبق، حاولت في إيجاز وضع الخطوط العريضة لإيمان الكنيسة فيما يتعلق بمن هو الله؟ كيف نفهم الصفات المنسوبة له؟ كيف نتكلم عن الله؟ كيف نتكلم عن العناية الإلهية، هدف الخليقة، سقوط الخليقة، مركز الإنسان في الخليقة، وإعادة بعث الحياة في الإنسانية والخليقة من خلال تجسد الكلمة؟ هذا الجزء يتحدث بشكل مباشر عن بعض الأحداث......