الدراسات الكتابية:
استطاعت المصادر الأركيولوجية أن تحدد مواقع خمس مدن يعود تاريخها إلى الحقبة البرونزية والتي غالبًا مرتبطة بشكل أو بأخر بمدن السهل التي تضمنت سدوم وعمورة وصوغر [1]. هذه الاكتشافات تظل غير محسومة نظرًا لصعوبة تأريخ الأدلة الأركيولوجية التي تعود للحقبة البرونزية. ويُوجد في تلك المنطقة تكوينات جيولوجية مصنوعة من الملح يربط البعض بين أحدها وبين امرأة لوط التي صارت عمود ملح [2]. إلا أنه لا يوجد أي طريقة علمية حديثة لإثبات أن هذه التكوينات الجيولوجية كانت يومًا ما إنسان بشري. فهم السياق القانوني لقوانين سدوم هي عنصر أخر مهم في فهم هذه القصة تقدمه لنا الدراسات الكتابية الحديثة. تقدم التقاليد اليهودية والمسيحية كل العلاقات الجنسية خارج الزواج كرجس أو خطية. كذلك اعتبرت قوانين سدوم العلاقات الجنسية المثلية جريمة قانونية [3]. لذا، فإن رجال سدوم كسروا القانون الديني والمدني حين رفضوا الاستماع لنصيحة لوط، الرجل البار بينهم.
التفسير اليهودي:
نظرًا لمركزية إبراهيم في الديانة اليهودية، تركز التفاسير اليهودية للسرد أولًا على المقارنة بين إبراهيم ولوط. الفروق بينهما تتضمن الدور الأساسي الذي يقوم به إبراهيم في التفاوض مع الله بالمقارنة بالدور الثانوي الذي يقوم به لوط حتى في اتباعه للوصية الإلهية حتى أن الملائكة اضطروا أن يأخذوه باليد لكي يتبع الوصية. يرى إبراهيم الرب والملاكين بينما يرى لوط الملاكين فقط. يركض إبراهيم نحو زواره بينما لوط يقف فقط لاستقبالهم. يقدم إبراهيم وليمة وعجل مسمن إلا أنه يسميها “كسرة خبز” (تكوين 18: 5) بينما “وليمة” لوط لم تحتو إلا على خبز غير مختمر (تكوين 19: 3) [4]. وبالرجوع لشعب سدوم، نجد الكتاب المقدس الدراسي اليهودي يلقي الضوء على كون خطيتهم لم تكن فقط الشذوذ الذي اعتبره الناموس خطية بل فاقت ذلك بتعاملهم الفظ مع ضيوفهم الذي كان من الواجب عليهم أن يحسنوا ضيافتهم [5]. ومن العجيب أن اختيار لوط الأناني لمدينة صوغر كموضع لجوئه صار سببًا في خلاصهم؛ الأمر الذي لم تشفع فيه تضرعات إبراهيم غير الأنانية لأجلهم. ويهدف ذلك للتأكيد على أنه أحيانًا يكون من المستحيل أن نفهم حكمة الله. بشكل مشابه للدراسات الكتابية، ربط المفسرين اليهود بين تكوينات الملح في منطقة البحر الميت وموت امرأة لوط [6]. والعنصر غير المفهوم في هذا النص هو كيف أن اختيار لوط لمدينة صوغر كموضع هروبه خلص المدينة ككل إلا أن بناته ظنن أنه هو الرجل الوحيد الباقي على وجه الأرض ولذا رأوا أنه لابد أن يعتمدوا عليه لإقامة نسل.
التفسير المسيحي:
نظرًا لمركزية المسيح للمسيحية، يركز التفسير المسيحي بالأساس على وجود الرب بين الملاكين باعتباره الأقنوم الثاني من الثالوث. يؤكد المفسرين المسيحيين على أن إبراهيم سجد لواحد منهم فقط كرب وإله بينما الآخرين دعاهم ملائكة. حتى حين رأى لوط الملاكين، قدم لهم الاحترام لكنه لم يسجد لهم. يعلق امبروسيوس أسقف ميلان على استقبال إبراهيم للثلاثة ملائكة كرمز للثالوث [7] :
رأى إبراهيم، إذ كان فرحًا باستقبال الغرباء، أمينًا لله ولا يمل من خدمته لله، مسرعًا لتنفيذ واجبه، رمزًا للثالوث. فأضاف تقواه الدينية على إضافته للغرباء لأن على الرغم من رؤيته لثلاثة، لم يعبد إلا واحد، وبينما حفظ التمايز بين الأشخاص، دعا واحدًا منهم الرب، معطيًا الكرامة للثلاثة لكن مشيرًا لقوة واحدة.(Mark Sheridan, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Genesis 12-50, 85)
قديسون مثل أثناسيوس وباسيليوس وأمبروسيوس وهيلاري رأوا في الآية: “فأمطر الرب على سدوم وعمورة… من عند الرب من السماء” إشارة للثالوث حيث يؤتي الابن نارًا من عند الآب.[8](Neslosn, The Orthodox Study Bible, 25)
يستطيع المرء أن يتعلم الكثير عن طبيعة شفاعة القديسين من حديث إبراهيم مع الله. على الرغم من علم الله من نتيجة الحديث وأنه سيخلص لوط، إلا أن الله يفتح الباب أمام إبراهيم حبيبه ليشترك في خلاص لوط [9]. يتوسع يوحنا ذهبي الفم في هذا المفهوم موسعًا إياه ليتضمن شفاعة المنتقلين لأجل الأحياء وليس فقط صلوات الأحياء لبعضهم البعض في إطار الصلاة كما كان الحال مع إبراهيم ولوط، فيقول [10] :
للتأكيد على أن حسن سيرة الأشخاص هي طريقة لكسب طول الأناة لأجلنا، انظر لهذه القصة عينها التي يقول فيها للأب [أي إبراهيم]: “إن وجدت عشرة أبرار، لن أدمر المدينة”. لماذا يقول عشرة أبرار؟ لأنه لم يوجد في المدينة أي إنسان خالي من التمرد إلا الرجل الجيد لوط وبنتيه. زوجته، إذا تذكرتم، غالبًا هربت من عقاب المدينة لأجله إلا أنها فيما بعد دفعت ثمن عقوبة عدم اكتراثها. الآن، ولأن من محبة الله زاد المؤمنين، كان هناك كثيرين بشكل ظاهر في قلب المدن قادرين على استعطاف الله، آخرين في السهول والكهوف، وفضائل هؤلاء القلائل نجحت في موازنة شرور الأغلبية. فصلاح الله هائل وكثيرًا ما يجد طريقة لخلاص الأغلبية من أجل [صلاح] الأقلية. لماذا أقول الأقلية؟ كثيرًا، حين لا يمكن أن يوجد شخصًا صالحًا في الحياة الحاضرة، يرحم الله الأحياء من أجل فضائل الراقدين، صارخًا بهذه الكلمات: “سأحمي المدينة لأجل ذاتي ولأجل عبدي داود”. فحتى ولو لم يستحقوا أن يخلصوا، فهو يخلص. وهم لا حق لهم في المطالبة بالخلاص؛ على الرغم من ذلك، لأن من المعتاد أن أُظهر محبتي فسأسرع لأرحم وأخلص من الهلاك، لأجل ذاتي ولأجل عبدي داود فسأكون كدرع الوقاية: فمن ينتقل من هذه الحياة للأخرى منذ سنين عديدة سيسبب خلاص من سقطوا فريسة عدم اهتمامهم.(Sheridan, Ancient Christian Commentary on Scripture 12-50, 97)
الله دائمًا ما يبحث عن عذر يخلص الإنسانية لأجله من عدله الصالح سواء صلوات الأبرار، الأحياء منهم والأموات، أو صلاح الأحياء أو صلاح الذين سبقوا فرقدوا. فلابد أن نجد راحة في علمنا أن الله لا يصدر الحكم على هذه المدن إلا بعد الكثير من الصبر والرجاء في عودتهم وتوبتهم. وحتى حين تصير العقوبة حتمية، يستخدمها الله لتعليم وتهذيب أبناءه فيما بعد. يقول كليمنضس السكندري [11] :
الله ينظر بشكل خاص للدافع الداخلي، كما كان الحال لما كانت زوجة لوط هي الوحيدة التي التفتت بحرية إرادتها نحو شرور العالم. فجعلها بلا إحساس بأن صارت عمود ملح تاركًا إياها بلا قدرة على التحرك للأمام، كصنم، لكن ليس [صنمًا] بلا رسالة مفيدة بل بالحري [رسالة] موجهة لتصلح وتملح الشخص القادر على الرؤية الروحية.(Sheridan, Ancient Christian Commentary on Scripture 12-50, 104)
على الرغم من الترابط بين خطية سدوم والمثلية إلا أنها تضمنت العديد من ألوان الانحلال الأخلاقي بما فيها الولع بالأطفال الصغار والاغتصاب المثلي، بالتالي، لم يعاقب الرب بلاد بريئة اختار البعض فيها أن يخطئ بل بالحري بلاد اختار سكانها أن يؤثروا على حرية وأمان من اختاروا ألا يخطئوا.
أخيرًا:
ينبغي أن ننظر بعناية لمن نجوا من النار والكبريت، أي لوط وامرأته وبنتيه. فعلى الرغم من أن لوط كان بارًا نوعًا ما، إلا أنه كان رجلًا مستعدًا لأن تصير بنتيه ضحيتان للاغتصاب الجماعي لينجي غريبين. حتى وإن قام بهذا الفعل ليحافظ على أصول الضيافة، إلا أن هذا ليس عذرًا لاستعداده للتضحية ببنتيه لمثل هذا الفعل المشين. إذا قال بولس: وإن كان أحدًا لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو أشر من غير المؤمن
(2 تيموثاوس 5: 8)، فكم يكون الرجل الذي يؤثر على سلامة أهل بيته بهذا الشكل أسوأ من الوثني وغير المؤمن؟ أما زوجته، فنهايتها شهادة لارتباطها بحياة سدوم على الرغم من امتلائها بالخطية. ينتهي الأمر ببنات لوط ليجدا ذواتهن ساقطتين تحت نير خطية زنا المحارم باغتصابهما لأبيهما الذي أسكرتاه. على الرغم من خطايا هؤلاء إلا أن الله اعتبرهم بارين أمامه بما يكفي لاستعداد الله لتخليص هذه المدن لأجل عشرة مثل هؤلاء. لذا فمن الصعب أن نرى الله في هذه القصة إلا كونه إله رحيم. فعلى الرغم من علمه السابق بميل قلوبهم نحو الشر، إلا أنه يحفظ أسرة لوط لأجل “برهم” وبر إبراهيم.
يبدأ سرد الأحداث بشفاعة إبراهيم لأجل سدوم وعمورة ويبدو أنه ينتهي بخطية بنتي لوط الشنيعة التي ينتج عنها الشعب الموآبي والعموني اللذين طالما كانوا أعداء لشعب إسرائيل فيما بعد. لكن بالرغم من بداية هذين الشعبين المخزية إلا أن الله سيكرم هذه الشعوب من خلال إكرامه لامرأة موآبية وامرأة عمونية صارتا أمهات في سلسلة أنساب السيد المسيح، أي راعوث الموآبية ونعمة العمونية التي ولدت رحبعام بن سليمان الملك (متى 1: 6).
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- [٧] الطوفان العظيم فيما سبق، حاولت في إيجاز وضع الخطوط العريضة لإيمان الكنيسة فيما يتعلق بمن هو الله؟ كيف نفهم الصفات المنسوبة له؟ كيف نتكلم عن الله؟ كيف نتكلم عن العناية الإلهية، هدف الخليقة، سقوط الخليقة، مركز الإنسان في الخليقة، وإعادة بعث الحياة في الإنسانية والخليقة من خلال تجسد الكلمة؟ هذا الجزء يتحدث بشكل مباشر عن بعض الأحداث......