المقال رقم 10 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

نعود مجددا لسلسلة خواطر في أنجيل يوحنا، وربما في أتصال مع مقالنا الأخير الذي فرضته علينا كلمة لأسقف في حفل وداع طيب الذكر الأب ، وأيضا تصريح لكاهن معروف بخصوص موضوع الإيمان والعقيدة.

بين الإيمان والعقيدة في حديث الرب مع نيقوديموس

كان أقصي ما يتصوره الإنسان الحكيم – مُمثَّلاً في – عن كيفية إصلاح الله للخليقة الساقطة، أن المسيح سيأتي بتعليم إلهي:

«يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً، لأن ليس أحدٌ يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه»

فأوضح الرب يسوع المسيح  لنيقوديموس أن ما جاء به المسيح ليس تعليما، بل ولادة من فوق لتجديد خليقة الإنسان:

«الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله »

وأن إرسالية التجسد الإلهي لتجديد خليقة الإنسان هي تدبير إلهي لا يمكن إخضاعه للفحص ولكنه لا يتعارض مع العقل مثل هبوب الريح:

«الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح»

إن التعليم يرتبط عادةً بأصحاب العقول أما الولادة فارتباطها بالحب وليس الفهم… حب الأم أن يكون لها مولود، وحب المولود لأمه التي سبق فأحبَّته وأرادته قبل أن يوجد. هكذا هي العلاقة بين الله والإنسان.  هي حبٌ لا سبيل لعقل أن يسبر أعماقه بالفهم رغم أنه لا يتعارض مع الفهم. هذا أوضحه المسيح بتشبيه الريح التي تهب. لذلك كان الإيمان بالمسيح له الأولوية علي تعليم العقيدة التي تتمايز فيها العقول بين الطوائف المسيحية في العالم، ولكن يبقي الإيمان بالمسيح واحداً وموحِداً للمؤمنين مهما تناحر رؤساؤهم علي حروف في  تفسيرهم للإيمان الواحد.

ولقد احتدمت محنة العقل والعلم والتعليم أمام عظمة الإيمان أثناء الحوار بين نيقوديموس والمسيح عندما أعترض الأول قائلاً:

أجاب نيقوديموس وقال له: «كيف يمكن أن يكون هذا؟»

حينئذ صادق الرب يسوع المسيح علي حقيقة أن الإيمان هو فوق العقل دون تعارض. وأشفق علي نيقوديموس وعلمه اللاهوتي (وعلي كل الذين يتعالون علي إيمان البعض رافعين في وجوههم راية حماية العقيدة) لأنه أخفق أن يصل إلي أبعاد حب الله المطلق نحو الإنسان وقصد الله من جهة خلقه وخلاصه للإنسان:

أجاب يسوع وقال له: « أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا!»

ولم يكِّل رب المجد أو يتعب في افتقاده لعجز وقصور فهم الإنسان ونيقوديموس، لذلك أستحضر حادثة ”الحية النحاسية“ وكيف كان الإيمان بقدرة الله من خلالها علي الشفاء من الموت الناتج من لدغة الحيات لبني إسرائيل في برية سيناء عندما أخطأوا وضلوا فضربتهم الحيات المميتة. هذا كان مثالاً مما حدث في دنيا الإنسان وتاريخ بني إسرائيل كنموذج صغير لخلاص الله للإنسان مِن الموت. وهو يتطلب الإيمان الذي فوق العقل دون تعارض. من هنا كانت أولوية الإيمان علي العقل والتعليم دون تعارض.

إن شفاء الذين لدغتهم الحيات المميتة في برية سيناء من الموت، كان بمثابة ولادة وحياة جديدة لهم، وتحقق هذا بالإيمان في الله والنظر إلي الحية النحاسية التي رفعها موسي وأوصاه ربه أن كل من لدغته الحيات ونظر إلي الحية النحاسية مؤمناً في خلاص الله فإنه يغلب الموت ويحيا.

ثم أستعلن الرب يسوع المسيح لنيقوديموس وللعالم أجمع أن ما حدث من شفاء من موت جسدي بسبب لدغ الحيات المميتة في سيناء هو ”الأرضيات“ التي كانت بمثابة تحضير لذهنية الإنسان وتعليم  لهم ليفتح الطريق للعقل المستنير  أن يؤمن ”بالسماويات“ التي سيأتي بها أبن الله في تجسده عندما يرفعونه علي خشبة الصليب ويغلب الموت واهباً الحياة للجالسين في ظلال الموت بسبب لدغة ”الحية القديمة“. وأوضح الرب – بكل أسف – كيف أخفق عقل الإنسان أن يؤمن بالسماويات علي الرغم من شهادة الأرضيات الدامغة والشاهدة للإيمان  في كل تاريخ الله مع الإنسان:

“إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟“

إن عجز الإنسان في التعرف علي الله وقصوره في رؤية الله والإيمان به رغم افتقاد الله للإنسان علي مدي التاريخ، كان أحد أسباب التجسد الإلهي وظهور الله في جسدٍ مشابه لجسد الإنسان القديم، دعاه الكتاب بلقب ”الإنسان الثاني الرب من السماء“. وهو ”أبن الإنسان“ الذي سيَقبَل خلاص الله بل ويؤسس في شخصه خلاص الله الذي لا يزول بتحرير  الإنسان من العبودية لسلطان الشيطان الحية القديمة الذي بدأ منذ سقوط .  هذا هو تجديد وتأسيس الخليقة الجديدة للإنسان في المسيح يسوع. وهي خليقة لا تشيخ ”يجدد مثل النسر شبابك“. لأنها خليقة نالت الخلود والأبدية، فلا يطالها موتٌ ولا شيخوخة بَعد، مثلما كان الحال في الإنسان بعد و تغرَّبه عن حياة الله فدبَّت فيه شيخوخة الموت، موت الخطية. فأستحال عليه أن يتجدد بقدراته الذاتية.  ولقد ظهر جلياً هذا اليأس لدي البشر في النجاة من الموت في كلمات نيقوديموس:

“قال له نيقوديموس: «كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ ” . ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ »

لقد بدأ نيقوديموس يفهم أن الرب لم يأت بتعليم ولكن بخلق جديد للإنسان. ولكن نيقوديموس توقف أمام كيفية تحقيق ذلك، إذ أنحصر ذهنه في رحم الأم كوسيلة الله في خلق الإنسان. لذلك رجع به الرب إلي أصول الخليقة وكيف بدأت ”وكان علي الغمر ظلمة وروح الله يرف علي وجه المياه“ (سفر التكوين)، وأوضح له أن نعمة الخلق وكذلك نعمة تجديد الخليقة كانت وستظل من خلال عمل روح الله القدوس كما منذ البدء عندما رفرف الروح القدس علي وجه المياه في بدء الخلق، كذلك سيكون بأن يعود وبرفرف روح الله القدوس علي وجه مياه المعمودية المسيحية بسرٍ عظيم لتجديد الخليقة:

“أجاب يسوع: «الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله“

وهنا نطلب أن يفتح الرب قلوبنا لنتكلم عن أعماقٍ في حديث الرب إلي نيقوديموس، ربما لم نسمع بها في الوعظ المسيحي حالياً. فنلفت نظر القارئ أن الرب عندما قال ”إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله“، فإنه كان يتكلم عن ملكوت السموات وليس عن جنة عدن التي وضع الرب آدم فيها عندما خلقه ”علي صورة الله“ أولاً، بانتظار الانتقال بآدم إلي السماء / ملكوت الله في السموات. والذي كان سيتحقق إذا أختار آدم – بحرية إرادته – وجوده وخلقه من العدم الذي أنعم به الله عليه. فبحسب حرية أختيار آدم كان يمكنه أن يثبت محتفظاً بصورة الله فيه بحرية إرادته، عندئذ يحقق الله له ما وعده به من خلود وحياة أبدية في ملكوت الله، فيكون ليس فقط علي “صورة الله” بل وعلي “شبه الله” في الخلود حتي يتسنى له أن يحيا مع الله إلي الأبد: ”نخلق الإنسان علي صورتنا كشبهنا

إن ما قاله الرب في (عدد ٦) من أن المولود من الجسد جسد هو، إنما يختص بآدم في جنة عدن الذي كان في انتظار أن ولادة روحية  لكي يدخل ملكوت الله في السماء:

“المولود من الجسد جسدٌ  هو، والمولود من الروح هو روح“

وتأكيداً لهذا المعني يقول الوحي في موضع آخر ”هكذا مكتوب أيضا: «صار آدم، الإنسان الأول، نفسا حية، وآدم الأخير روحا محييا».. الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرب من السماء.” (١كورنثوس ١٥)

هذا توضيح ما بعده توضيح أن دخول آدم إلي ملكوت الله لم يكن ليتم إلا إذا أختار هو بإرادته أن يتحد بصورة الله التي خلقه الله عليها. والمسيح أبن الله وكلمته وحكمته هو صورة الله ورسم جوهره (عبرانيين ٣:١). وأشار الكتاب أن المسيح هو ” التي في وسط فردوس الله“ بانتظار أن يأكل (يتحد) منها آدم بإرادته ويحيا إلي الأبد. ولكنه سقط بغواية الحية. فجاء ”نسل المرأة“ الموعود به وسحق رأس الحية (تكوين ١٥:٣). هذا هو آدم الأخير يسوع المسيح، الله الذي ظهر في الجسد. وباختصار فإن التجسد الإلهي كان لتحقيق تأله الإنسان في المسيح يسوع لينال الخلود ويحيا إلي الأبد مع الله في ملكوت السموات وليس جنة عدن .

إن حيرة نيقوديموس ليست بمستغرَبة عليه وعلي كل ذرية آدم الأول الذي وبسبب أختياره أنحصر كل نسله في تراب الأرض فغمرته الظلمة بتغربه عن نور السماء – لذلك أشار الرب علي  نيقوديموس أن يرتفع برؤيته إلي آدم الأخير .. الرب يسوع المسيح ”ابن الله / وابن الإنسان“:

“وليس أحدٌ صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء“ 

والصعود والنزول هنا هو عن  السماء  وليس مجال لحديث عن جنة عدن بَعد. فالسماء لا يدخلها إلا المتحدون بالمسيح والذين تحقق لهم الخلود الأبدي في شركتهم ب من خلال أتحادهم بناسوت المسيح الإله.

ولقد  وضع الرب في حديثه مع نيقوديموس تلخيصاً للمضادة العظمي بين محدودية معرفة الإنسان وبين حب الله المطلق الذي هو موهبة الإيمان بالمسيح  لكل من يؤمن:

“لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد، لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية“ 

إن أهمية العقل تظهر بوضوح إذ إنه وسيلة الإنسان  في رفض كل المعروض عليه من آلهة تتعارض تعاليمها مع أصل الإنسان المخلوق عليه من حب الخير والحياة وكراهية  الشر والموت . و التعرف علي الإله الحق  يتطلب قبول افتقاد الروح القدس لعقل الإنسان الذي انحسر في ظلمة طالت  للأسف بسبب طول تغربه عن الله . وقد أشار الرب في أسي إلي ذلك قائلاً:

“إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟“

ومن له أذن للسمع فليسمع ما يقوله الروح.

أؤمن يا رب فأعن ضعف أيماني

بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٢)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٤)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٣) 1
[ + مقالات ]