المقال رقم 11 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

”14 وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان،
15 لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.
16 لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.

17 لأنه لم يُرسِل الله أبنه إلى العالم ليدين العالم بل ليُخلِّص به العالم.
18 الذي يؤمن به لا يُدَان، والذي لا يؤمن قد دِين، لأنه لم يؤمن باسم أبن الله الوحيد.“

هل هناك تناقض في النَّص (عدد ١٧) أن المسيح لم يأتي ليدين العالم، مع النَّص (عدد ١٨) أن الذي لا يؤمن بالمسيح يُدان؟

إن الدينونة ليست بسبب عدم الإيمان بالمسيح، ولكن عدم الرغبة في الخلاص من الشر. والدينونة بذلك هي كاشفة لوضع أختاره الإنسان لنفسه فجعله لا يهتم أن يطلب التخلص منه بالإيمان بالمسيح. إن كل من لا يرغب في الخلاص من الشر والمصير الذي يؤدي إليه الشر والخطية – وهو الموت وبالتالي العودة إلي حالة العدم، أي الفساد – إنما هو قد أختار لنفسه وحكم علي نفسه بالتغرب عن الحياة – الله – وبالتالي الرجوع إلي عدم الوجود الذي كان قبل الخلق. هذا يوضِّح أن الإيمان بالمسيح هو الطريق الوحيد للنجاة من هذا المصير.

ولقد شرح الرب هذا التعريف للدينونة:

”19 وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة.“

فبحسب لغة القانون فإن الدينونة هي ”تكييف“ قانوني ومنطقي لحالة الإنسان التي أختارها لنفسه وهي عدم الوجود. لأن الشر ينتهي بالعدم. فالشر هو غياب الخير الذي مصدره الله أصل الوجود. لذلك فإن الخير هو دليل انتماء إلي الله لأنه يحمل صفات الله – الوجود والنور. هذا الوجود/النور/ الحياة أُظِهرَت في يسوع المسيح (١يو :١) عندما تجسد في دنيانا ”لِيُضِيءَ  علي الجالسين في الظلمة وظلال الموت“ (لو١).

فهل قول الرب عن الناس الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور أن ” أعمالهم كانت شريرة “ هو عذر للإنسان عن موقفه السلبي الرافض للخلاص من مصير الموت والعدم؟

الحقيقة أن حالة الشر المؤدي إلي مصير الموت والعدم والذي أنتهي إليها وذريته ليست عذراً بقدر ما هو وصف لعجز الإنسان بعد . فالبشرية بعد السقوط صارت مثل موتي القبور بلا حول ولا قوة ولا قدرة علي النجاة من مصير الموت و العدم . فلم نسمع في تاريخ البشر عن ميتٍ أقام نفسه من القبر” لأن الأجنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة “( أشعياء ٣٧).

لذلك فإن خلاص الإنسان لم يكن ليتحقق بتوبة الإنسان، لأنه فَقَدَ تذوق وحب الحياة، مثل الموتي في القبور، ولا رجاء في خلاص الإنسان إلا بفعل قيامة و حياة تخترق الموت الذي تملَّكه وتبدده. إن فعل القيامة والحياة بعد موتٍ هو غريبٌ عن طبيعة الإنسان ومسامع البشرية وتاريخها. وقد أدخله المسيح رب المجد إلي العالم كطبيعة جديدة في الإنسان. وبذلك فإن الخلاص أساساً هو نعمة مِن بدايته وإلي كماله. بل وحتي الجهاد الناتج عنه هو كذلك.

ولهذا كشف المسيح إلهنا عن دور الروح القدس في تدبير الله الواحد الثالوث من جهة خلاص الإنسان وقال أن الروح القدس”يبكت العالم علي خطية وعلي بر وعلي دينونة “:

”لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة : أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين“
( يوحنا١٦)

إن عمل الروح القدس هو عمل إيجابي يبني ولا يهدم. لذلك فإن التبكيت ليس دينونة ولكنه فعل سِرِّي لروح الله القدوس يستعيد به وعي الإنسان ويقوده لما هو لخيره ومصلحته العليا التي كان غافلاً عنها في غربته التي طالت عن الله.
لذلك أعلن المسيح أنه لم يأت ليدين العالم بل ليرسل الروح القدس ليبكت العالم:

”يبكت العالم علي خطية فلأنهم لا يؤمنون بي“

الروح القدس ينخس قلب الإنسان ليرجع ويتطهر ويتبرأ مجاناً من خطيته = نعمة التطهير. فالمسيح جاء كطبيب يعالج ويشفي العالم من مرض الخطية، وليس كقاضي يمسك سيفاً يقطع به رقاب الخطاة. إن المسيح صالحنا مع الآب بتكفيره عن خطايانا وفدائنا من موت الخطية. لذلك أنفتح باب السماء وسكب الآب روحه القدوس علي الإنسان ليبكته وينخسه لكي لا يبقي في قبضة الخطية والموت، بل يحثه أن يقوم لينال نعمة التطهير بالإيمان بالمسيح والفداء من مصير الموت.

”يبكت العالم علي بر، فلأني ذاهب إلي أبي ولا ترونني أيضا“

الروح القدس ينخس قلب الإنسان عندما يري نفسه  أنه خالي ومفتقد للبر الذي سبق أن خلقه الله عليه أولاً. فإن المسيح بعد تطهير الطبيعة البشرية (فيه) من خطاياها، صعد بطبيعتنا الجديدة (فيه) إلي ملكوت السموات حيث قدَّمنا (فيه) إلي أبيه الصالح فقَبِلَنا الآب (في) المسيح. فبعد تطهير المسيح ننال فيه نعمة التبرير = أقتناء البر كطبيعة.

إن الخليقة الجديدة للإنسان والتي أسسها المسيح في بشريته كإله وصعد بها إلي السماء ودخل بها إلي ملكوت الله هي عودة بالخليقة إلي حالتها الأولي قبل سقوط آدم. هذا هو عمل التبرير الذي يقوم به الروح القدس إذ ينقل للإنسان بر المسيح مجاناً إلي كل من يؤمن. فعندما أكمل الرب يسوع المسيح عمل الفداء علي الصليب،  دخل بالبشرية (عندما قام وصعد إلي السماء) إلي تلك الحالة التي طال غياب الإنسان عنها منذ سقوط آدم. إنها حالة تبرير الإنسان. لأنه قد تسَّجل في البشر أول إنسان بار بالحقيقة منذ خلق ثم سقوط آدم. هذا الإنسان هو يسوع ابن مريم. وصار وسيظل ”المسيح أبن الإنسان“ بمثابة مصدر ومنبع تبكيت للعالم يقوم به الروح القدس في قلوبنا، لأن الله قد أسس الخليقة الجديدة البارة للإنسان لنا في شخص يسوع المسيح وقبلها الآب فحل وسكن فيها الروح القدس، وما تبقي علي الإنسان أن يعمله هو أن يقبل بر المسيح ونعمة التبرير. تماماً كما في حالة الحية النحاسية التي أمر الرب موسي أن يرفعها في البرية. فإن الدور الذي حققته الحية النحاسية لم يكن فقط شفاء وتطهير الذين لدغتهم الحيات المميتة، ولكن الحية النحاسية كانت أيضاً أيقونة مرفوعة تنخس الذين يصارعون الموت من لدغ الحيات ليطلبوا الحياة لأنهم قد رأوا وعاينوا كيف يبرأ ويتبرر الآخرون أمامهم. كذلك الروح القدس ينخس القلب باشتياق التبرير والحياة بعد أن كان مداناً وميتاً بلدغ الحيات. هذا هو المفهوم الذي أشار إليه المسيح بالتبكيت علي البر. فإن الحية النحاسية كانت إشراقة حياة هي بمثابة تبكيت لكل من لدغته الحية لكي يشتاق إلي الشفاء والعودة إلي الحياة.

”وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين“

ويستمر توضيح الرب أنه لم يأتي ليدين العالم بل ليدين ويخلِّص العالم.

وقد يظن البعض أن هذه الآية تتعارض مع ما قاله الرب أن الروح القدس سيبكت العالم علي دينونة. لذلك شرح الرب أكثر أنه لم يأتي ليدين الإنسان بل الشيطان ”رئيس هذا العالم قد دين“، حتي عندما يري الإنسان تحقيق النبوة أن المسيح ”نسل المرأة يسحق رأس الشيطان“ (سفر التكوين) ينخسه قلبه بسبب دينونة المسيح للشيطان فيتشجع ويفتح قلبه بالإيمان للمسيح الواقف بالباب يقرع حتي نسمع و نقبل المسيح مخلصاً شخصياً لنا. آمين.

والسُبح لله.
بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٣)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٥)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٤) 1
[ + مقالات ]