نتوقف قليلاً عن سلسلة خواطر في تفسير أنجيل يوحنا لكي نتطرق بهذا المقال إلي العلاقة بين الإيمان والمعرفة في المسيحية. حيث يشير تعبير العقيدة إلي المعرفة والتعليم الديني. وقد ثار اللغط حول مفهوم الإيمان والعقيدة في المسيحية بعد كلمة أحد الأساقفة في حفل وداع المتنيح طيب الذكر الأب . لذلك لزم التوضيح، خاصةً بعد أن أخذ موضوع ”التعليم الصحيح والعقيدة السليمة“ مركز الصدارة في أهتمام القائمين علي  خلال حقبة نصف قرن مضت، والتي أستُحدِث فيها منصب ”أسقف التعليم وأسقفية التعليم“. والتعليم في المسيحية هو موهبة من مواهب الروح القدس يفيض بها علي أناس في الكنيسة تدعوهم ”معلمين“، مثلما كان أثناسيوس الشاب قبل رسامته كاهنًا. فالذين ينالون موهبة التعليم من الروح القدس ليسوا بالضرورة أصحاب رتب كهنوتية.

والسبب الثاني لاهتمامنا بظاهرة أولوية العقيدة بالنسبة للإيمان هو الخطر الكامن في إمكانية استخدامها كقوة طاردة، أكثر منها جاذبة إلي المزيد من العمق في الإيمان، والذي بالضرورة ينتهي إلي الاتحاد بالمسيح وبالتالي الوحدة المسيحية.

من البديهي أن هناك أستحالة في معرفة الإنسان المخلوق لذات لله الخالق أو الاتصال به دون تدخل الله. وإلا سيزول الفرق بين الخالق والمخلوق. لذلك فإن الإيمان بالله في المفهوم المسيحي الأرثوذكسي هو بالضرورة حركة فعل من الله تؤثر في أعماق النفس البشرية وتكاد تكون طبيعية في الإنسان. ولكنها تستلزم رد فعل من الإنسان يتقبل به فعل الاستعلان الإلهي وبذلك تتم وتتحقق معرفة الله الباطنية في النفس البشرية. هذه الاستجابة هي ليست فقط رد فعل من الإنسان نحو الله، بل هي فعل إيماني لأنها تتوقف علي حرية إرادة الإنسان. هذا يوضحه المكتوب في الإنجيلأؤمن يا سيد فأعن ضعف أيماني لأن أي فعل أيماني من الإنسان نحو الله يسانده في الحال جذب روحي مِن الله ليعين الإنسان في ضعف أيمانه.

الإيمان بالله يسبق المسير نحوه، أولوية الإيمان علي العقيدة:

فالمفهوم الأرثوذكسي للإيمان هو أنه -الإيمان- هو الذي يقود إلي المعرفة (العقيدة). هذا يوضحه الكتاب المقدس:

”آمنت لذلك تكلمت“
”ولكن إن لم تؤمنوا فلن تقدروا أبداً أن تفهموا [العقيدة]

(أشعياء ٩:٧)

”يجب أن الذي يأتي إلي الله [العقيدة] يؤمن أولاً بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه [الإيمان]

(عبرانيين ٦:١١)

”القلب يؤمن به للبر [أولاً] والفم يعترف به للخلاص“

(رومية ١٠:١٠)

فهناك أولوية للإيمان علي العقيدة. لأن معرفة الله عن طريق الإيمان هو عمل الله الفطري في النفس البشرية وكأنها مخلوقة علي هذا الاستعداد. هذا علي عكس المفهوم السائد بين أكثر البشر أن العقيدة تعتمد علي البرهان بالحجة. فهذا ما يجعل العقيدة عملًا خارجيًا بالنسبة لأعماق النفس البشرية. بل وحتي وإن قلنا أن الأيمان يساوي المعرفة تمامًا، فإن الإيمان هو أمان المعرفة وهو الذي يؤمِّنها.

استعلان الله في الخليقة المنظورة:

” لأن أموره غير المنظورة [اللاهوت] تُرَي منذ خلق العالم مُدرَكَةٌ بالمصنوعات [الخليقة]، قدرته السرمدية ولاهوته، حتي إنهم بلا عذر“

(رومية ١)

إن استعلان الله لذاته بين البشر بدأ بإظهار ظلال ”حكمة الله“ في الخليقة المنظورة. وقد أشار المسيح إلي نفسه بصفته ”حكمة الله“ كما يتضح من قوله أنه هو الذي كان يرسل الأنبياء قبل أن يتجسد، بصفته حكمة الله المُدبِّر للخلاص العتيد أن يكمله بالتجسد:

”لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة …“

(متي٣٤:٢٣)

”لذلك أيضاً قالت حكمة الله إني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً…“

(لوقا ٤٩: ١١)

استعلان الله في كيان الإنسان بالتجسد الإلهي:

وأخفق البشر في أن يصلوا إلي معرفة الله والأيمان به من خلال استعلان ”حكمة الله“ في الخليقة و ظهورات ”حكمة الله“ وأبرزها ظهوره لموسي النبي في العليقة المشتعلة بالنار التي لم تحترق. لذلك استحسنت ”حكمة الله“ أن تَستعلن ذاتها في الإنسان نفسه حتي يري الإنسان مجده ويؤمن به: الكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده. وكما هو حال البشر دائمًا عندما يقتصُرون نظرتهم وفهمهم علي محدودية إدراكهم، فقد اعتبروا استعلان الرب لذاته من خلال التجسد الإلهي هو جهالة بسبب ما يسمونه تنزيه الخالق عن الاتصال بخليقته. وقد شرح الكتاب ما سبق هكذا: ”لأن العالم بالحكمة لم يعرف الله، ولكن سُرَّ الله أن يُخَلَّص المؤمنين بجهالة الكرازة (التجسد والموت والقيامة التي يعتبرها البعض جهالة)“ (١كو١).

العثرة في تجسد المسيح:

إن جسد المسيح هو جزء من الخليقة. ونحن لا نفرِّق الجسد من الكلمة لنعبده كجسد فحسب. ولا نحن حين نعبد الكلمة نفصله بعيدًا عن الجسد، مثلما أخفق اليهود (وبعض المعتقدات الأخري) الذين بسبب عثرتهم في التجسد خاطبوا المسيح قائلين فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا (يو١:٣٣). ولكننا إذ نؤمن أن ”الكلمة صار جسدًا“ نحتسب الكلمة إلهًا أيضًا حتي بعد أن جاء في الجسد. فعندما ظهر الله في الجسد لم يتساوى مع الجسد، لأنه هو الخالق أتي وحل في المخلوق.

هذا لا يتناقض حتي مع المنطق البشري المجرَّد. فأي مَلك يستطيع أن يحل وسط شعبه دون أن يفقد مُلكَه. فنحن نعبد الله كخالق للعالم قبل وبعد أن شاءت محبته وقدرته أن يسكن في جسد مخلوق جعله وسيلته وهيكله الذي نعبده فيه. فالجسد لا يُنقِص شيئاً من ”مجد الكلمة“، بل علي العكس فإن الله عندما ظهر في الجسد خلَّص الجسد وكل خليقة معه. إن الجسد لا يمكن أن يلغي لاهوت الله، بل لاهوت الله يلغي الخطية والموت من الجسد دان الخطية في الجسد (رو٨). لذلك يقول الكتاب أننا نصير به وفيه جنسًا مقدسًا (٢بط١). فليعلم الجميع أن بعبادتنا للرب وهو في الجسد أننا لا نعبد مخلوقًا. نحن نعبد الخالق الذي لبس جسدًا مخلوقًا ونطق بالوصايا من داخله. ونستطيع القول أن المؤمنين بالله في جميع الديانات يقصدون بيوتًا مصنوعة من حجارة يسمونها ”بيوت الله“ ويعبدونه فيها مؤمنين بأن الله يسكن فيها بدون أي شبهة لديهم أن الله بهذا يصير مخلوقًا ويسكن بيوتًا من حجارة، أو أن سجدوهم في مساجدهم هو سجود لحجارة أو عبادة لمخلوق.

التقوي هي برهان الأيمان والعقيدة في المفهوم المسيحي:

” القلب يؤمن به (أولاً) للبر (التقوي)،
والفم يُعتَرَف به (العقيدة) للخلاص (التقوي) “.
يستحيل الاقتراب إلي الله عقلياً بدون الإيمان الخاشع بالتقوي. هناك فرق كبير بين الإيمان الصحيح المتولِد من عمل الله الداخلي في القلب، وبين الإيمان المتولِد من الجدل والبرهان بالمحاجاة الذي هو حرفة الأذكياء ”العلم ينفخ“. فالذين لهم عمل الإيمان الداخلي لا حاجة لهم إلي الجدل (عن تمايز العقيدة بين الطوائف المسيحية) بل يكون لهم ذلك نافلة (عطية إضافية).

فمن السياق التاريخي لعلاقة الله بالإنسان يتضح أن هدف تدبير الله من جهة الإنسان هو حلول الله في الإنسان، وقد بدأ بحلوله الغير منظور في الخليقة كما قلنا، ثم حلوله المنظور في الإنسان بالتجسد الإلهي في ملء الزمان، والذي دعاه الوحي في الكتاب المقدس أنه سر التقوي عظيم هو سر التقوي، الله ظهر في الجسد (١تي١٦:٣). هو سر التقوي لأنه مصدر قداسة البشر كونوا قديسين لأني أنا قدوس. فهذا الحلول الإلهي ينشئ قداسة سيرة الإنسان بالضرورة. حيث دخلت معرفة ذات الله إلي عمق كيان الإنسان بصورة عملية بلغت أوج قمتها في التجسد الإلهي الله ظهر في الجسد. فتتجدد خليقة الإنسان باستعلان المسيح كلمة الله، وحكمة الله، وبهاء مجد الله ورسم جوهره في الإنسان ”عظيم هو سر التقوي، الله ظهر في الجسد.. كُرِزَ به.. أُمِن به“. والكنيسة القبطية تمارس وتؤكد في صلواتها علي هذه العلاقة الصميمية بين الإيمان والعقيدة من خلال التقوي” أعطانا هذا السر العظيم الذي للتقوي (وهو سر التجسد إذ يعترف به الكاهن مسبقاً في صلاته بقوله ”تجسَّد“). هذه هي الحقيقة الساطعة للإيمان بالله في المسيحية.

وال يُعبّر عن هذا المفهوم بلسان ق.:

لذلك فنحن المسيحيين نتمسك بالسر، ليس بالحجج الفلسفية، بل في قوة الإيمان المُعطَي لنا بغني من الله بواسطة يسوع المسيح ”لا بكلام الحكمة الإنسانية بل ببرهان الروح والقوة“ .. حيث يزدهر ضياء معرفة الله ليس في جدل عقيدي بل في سمو المحبة وضبط النفس وإحتقار الموت الذي تبرهن في سيرة المؤمنين المقدسة … أما أنتم فتعتمدون علي مماحكاتكم الكلامية … فالإيمان يسبق براهين الحجج. وعلي أي حال فإننا نقدم برهاناً كما كان يفعل معلمنا ”ببرهان الروح والقوة“: هوذا هنا بعض المعذبين بالشياطين .. فهل تستطيعون تطهيرهم بالحجج؟ وإلا كُفُّوا عن منازعتنا إن عجزتم لتُرُوا قوة صليب المسيح.

قال [ق. أنطونيوس] هذا ودعا المسيح ورشم المرضي مرتين أو ثلاثة بعلامة الصليب، وللحال وقف الرجال أصحاء بعقلهم السليم وقدموا الشكر للرب في هذه اللحظة. أما أنطونيوس فقال «لماذا تتعجبون من هذا؟ لسنا نحن الذين نعمل هذه الأمور، ولكن المسيح هو الذي يعملها بواسطة مَن يؤمنون به، لذلك آمنِوا أنتم أيضاً لكي تَروا بأنفسكم أن ليس لدينا حيل كلامية بل الإيمان عن طريق المحبة التي وُجِدَت فينا نحو المسيح والتي إن حصلتم عليها أنتم أنفسكم لمَا طلبتم في ما بعد حججاً منطقية بل أعتبرتم الإيمان بالسيد المسيح كافياً

(Athanas., St.Antony 78&79)

الإيمان فعل نعمة ممتد لمزيد من المعرفة والاستعلان:

فكما اتضح مما سبق نقول أن الإيمان هو فعل نعمة، لأنه يفوق في عمله وفي جوهره قدرات الإنسان العقلية، وهو لا يتوقف عند حد، إذ أنه بمجرد أن يبدأ في الإنسان، يستمر روح الله في استعلان المزيد من الأمور غير المنظورة في معرفة الله. هذا يوضحه قول الكتابفإذ لنا روح الإيمان عينه (٢كو١٣:٤). إذ إن الإيمان في المفهوم المسيحي لا يقوم بالأساس علي قدرة عقلية بل أن الله يمنح ”روح الإيمان“ للإنسان المؤمن ليجعله علي مستوي المسير نحو الله. ول قول مشهور تظهر فيه النعمة القائمة في الإيمان والتي تربط كيان الإنسان وليس عقله فقط بالله:

إنه بمجرد أن نؤمن، نصير أولاد الله

(Origen, Hoil, in Jerem., 9. 4.)

سلامة التعليم الذي يقوم عليه الإيمان الصحيح وبالتالي العقيدة:

إن الإيمان المسيحي الصحيح والمستقيم يقوم علي / ويتلخص في اليقين القلبي والاعتراف بأن يسوع المسيح هو أبن الله المساوي للآب في الجوهر وأنه كلمة الله المتجسد، الذي صُلِب من أجلنا ومات ودُفن وفي ثالث يوم قام من بين الأموات، وأن كل من يعمده الآب فإنه يعتمد بالابن، وكل من يعمده الابن، فإنه يتقدس بالروح القدس. فالإيمان الصحيح في المفهوم المسيحي هو مِن داخل الآب والابن والروح القدس. وبذلك فإن الإيمان المسيحي ليس منطوقًا ولا مجرد نظرية فكرية بل هو فعل تجديد للإنسان وتقديس ومن ثمة قبول الاتحاد بجسد المسيح السري وبالتالي الاتحاد بالثالوث القدوس نفسه. هذا يتوقف علي نية الضمير عند المؤمن ومدي أنطباق المُعلَن في الإنجيل وإيمان الكنيسة (قوانين ) علي ما يضمره الإنسان المؤمن.

وهنا تجدر الإشارة أن هذا المفهوم للإيمان المسيحي الذي يدركه المؤمنون في أعماق قلوبهم مِن داخل الثالوث القدوس، إنما تعجز صيغ الكلمات في شرح مضمونه. وبالتالي هناك ما يكون دائمًا قصور عن بلوغ التصوير الكامل لحقائق الإيمان بالكلمات (العقيدة المصوغة في كلمات).

ونعيد القول أن التعليم الصحيح الذي يقوم عليه الإيمان الصحيح هو عمل أساسي من أعمال الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يقود الكنيسة ويحمي تعليمها بتدبيره داخل الكنيسة، وليس هو سلطان محسور ومقصور علي من يتقلد وظيفة بعينها في الكنيسة. فالتعليم الصحيح هو من الروح القدس للكنيسة كلها: ”وتصيرون متعلمين من الروح القدس ولا يعلمكم أحد“.

قانون إيمان الكنيسة العام (Catholic) المستقيم (Orthodox):

إلا أن الكنيسة، وبعد أن أسسها المسيح ككيان يسكنه الثالوث القدوس وقد تحصنت بهذا الإيمان المتولد مِن داخل الثالوث القدوس، اضطرت أن تصيغ أيمانها في كلمات هي قانون إيمان الكنيسة العام (Catholic) المستقيم (Orthodox) وذلك لمجابهة كل إيمان يقوم علي المعرفة الخاصة والحكم الشخصي والإرادة الخاصة، والذي يقوم علي هوي شخصي. فهذه النزعة ية قديمة قِدم كرازة المسيح بين اليهود، إذ قاوموا استعلان المسيح نفسه لذلك قال لهم ”تضلون إذ لا تعرفون الكتب“.

إن قانون الإيمان العام في الكنيسة هو لمواجهة الإيمان الخصوصي الذي لا يكُف الشيطان أن يخترعه ويغوي البعض به ليُفرِّغ الإيمان المسيحي من مضمونه الخلاصي الحقيقي للإنسان، والذي هو دخول الإنسان- بالاتحاد ببشرية المسيح الله الذي ظهر في الجسد – إلي مجال حياة الثالوث القدوس.

ويجدر القول أن قانون الإيمان العام في الكنيسة هو قانون يتعلق بالمسائل اللاهوتية الأساسية كما قلنا. وهو قانون لا يُعلِّق علي المعاني في حد ذاتها لكل آية في أسفار الكتاب المقدس ولكنه قانون يحدِّد وبصورة قطعية أن كل معني يُستقرأ من آيات الكتاب المقدس يكون منطبقاً علي مفهوم الإيمان العام الذي علَّم به المسيح وكرز به الرسل وحفظته الكنيسة في تقليد عام تسلمه الأجيال إلي بعضها. هذا هو ما نسميه التقليد الكنسي للكنيسة الجامعة (Catholic) المستقيمة (Orthodox) وهو محصلة الإيمان الشمولي الواسع الذي يحتضن كل الإنجيل ونقرأ به الأسفار المقدسة الملهَمة كما علم بها الرسل.

والسبح لله

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بين الإيمان والعقيدة في المفهوم الأرثوذكسي 1
[ + مقالات ]