المقال رقم 2 من 3 في سلسلة التفسير بين الحرفية والرمزية
عرفنا في المقال السابق ماهية الكتاب المقدس وعلاقته بالكنيسة، وإن تفسيره هو تفسير بداخل الكنيسة، وقداسته موجودة بداخلها، فالكتاب المقدس لا يصبح مقدسًا خارج الكنيسة. وقد وضعنا معنى وتعريف التفسير، وما الفرق بين التفسير والشرح، وفى هذا المقال نستكمل هذه الرحلة بأمثلة حية لهذا التفسير، حيث تكونت في الكنيسة وتمت دراسة الكتاب المقدس بها.

في هذا المقال سندرس منهج من هذه المناهج وهو للكتاب المقدس، سنعرف ماهية المنهج، ومدرسة أنطاكيَة التي عرفت بتبني هذا المنهج في التفسير، وأصولها، ومؤسسيها، وأمثلة حية على تطبيق هذا المنهج.

التفسير الحرفي: هو التفسير الجسدي، وهنا لا نقصد التفسير التاريخي الأدبي المعروف لدينا اليوم، لكن يقصد به الفهم البسيط للحرف أو لكلام الكتاب كما في مثل: “جنة عدن، زرع الله الفردوس… الخ”، وهي طريقة تكرار النص الكتابي باستعمال كلمات مبسطة، وهذا التفسير قد يكون ضروريًا بسبب غموض النص ولكن يُلاحظ أن التكرار لا يكون دائمًا أوضح من النص!

أحيانًا يقوم المفسر بتلخيص النص وأحيانًا يطيل إيضاحه، وغالبًا ما يأتي الشرح الحرفي مباشرًة بعد النص بالتعليق عليه، وقد يأتي الشرح الحرفي أحيانًا بعد أن يكون قد بدأ في تفسير النص الكتابي ثم يتوقف ليقدم الشرح الحرفي عندما يبدو له أن تفسيره للنص لا يمكن إيضاحه إلا عندما يقدم الشرح الحرفي وقد اتبعته بالأخص مدرسة أنطاكيَة.

أصل مدرسة أنطاكيَة ومؤسسيها

في نهاية القرن الثالث الميلادي ظهرت مدرسه أنطاكيَة، وكانت ثاني أهم مدرسة، وأسسها لوسيان في (240-312م)، وبلغت شهرتها على يد ديودور الطرسوسي، ومن مشاهير المدرسة أيضًا نسطور “الهرطوقيّ” الذي أُدين في مجمع أفسس سنة (431م)، وثيودور أسقف موبسويست، وأهم عظماء هذه المدرسة ّ، والقديس يوحنا ذهبيّ الفم، والعلاّمة وس.

إنَّ تيودور ويوحنا فم الذهب وتيودوريت ساروا على طريقة مار إفرام في شرح الكتاب، وهو يأخذ الحقائق الواردة في الكتاب المقدس خاصة العهد القديم كحقائق واقعية فهي ترفض الرمزيّة.

(المستشرق الفرنسيّ L.Le Camus)

اتجهت مدرسة أنطاكيَة في التفسير للكتاب المقدس، إلى الالتزام بالإطار التاريخي والاعتماد على معنى الآية الحرفي والصريح كما تدل عليه اللغة وحالة الكاتب، لقد كان منهج كنيسة أنطاكيَة عقلانيًا تاريخيًا وحرفيًا.

تأثرت المدرسة بالمنهج الرابوني لشرح الكتب المقدسة، وهذا يرجع لوجود اليهود الذين حفظوا التفسيرات الحرفية للكلمات المقدسة في أنطاكيَة، وكما تأثرت ب تأثرت أنطاكيَة ب، لكن ليس معنى ذلك أن الأنطاكيين لم يضعوا في اعتبارهم المعنى الروحي والجانب الإلهي في كتابة الأسفار، لكنهم اعتقدوا إن التفسير اللغوي التاريخي هو صِمَام الأمان والأساس الراسخ لفهم الأسفار المقدسة، دون أي تفسير آخر، ويتضح ذلك في أن الأنطاكيين كانوا يرونَّ رموزًا أو تشبيهات مجازية أو استعارية للسيد المسيح أحيانًا وليس دائمًا في العهد القديم، فأينما يكون التشابه واضحًا مميزًا فعندئذ فقط تعترف بما ينبئ عن المخلص أو يرمز إليه.

الرموز هي الاستثناء وليست القاعدة في دراستهم للعهد القديم، فهم يرون أن التجسد مُعدًا ومُجهزًا بواسطة العهد القديم كله، لكن لا يرون رموزًا أو صورًا تشبيهية في كل موضع.

كان هذا الاتجاه فعلًا حاجزًا منيعاً في وجه التمادي في ، الذي اتجه نحو فرض المعنى الرمزي، أكثر من الشرح المبسط، ولكن من السقطات في المدرسة الحرفية هو تجاهل الروح في مقابل الاحتفاظ بالحرف وقد استبدلوا المعنى الرمزي بالتعليم الأخلاقي (خاصة ) وكانوا يتبنون فلسفة أرسطو، مع ذلك فإن هذا التفسير الحرفي قد أخل أحيانًا بالمضمون الروحي الإيماني لآيات الكتاب المقدس، وقاد إلى العديد من الضلالات، وأخطاء عانتها الكنيسة كثيرًا، حيث قاد الاستخدام المفرط لهذه الطريقة اللغوية النَحْوِيّة في تفسير الكتاب المقدس إلى هرطقات بتفسيرها جزئيًا عقلانيا فقط، أي الرغبة في تخليص العقيدة المسيحية من كل عناصر الغموض والسرية والرمزية، ما ظهر بعد ذلك في الهرطقات ال والمقدونية وال والبيلاجية والنسطورية.

لقد اضطر كثير من الأنطاكيين في جدلهم مع الآريوسيين والأبوليناريين إلى المبالغة في التركيز على الطبيعة البشرية لله الكلمة المتجسد، إلى الدرجة التي ذهبوا فيها إلى وجود شخص آخر اتحد به اللوجوس متنازلين في ذلك عن وحدة شخص الرب يسوع المسيح في الطبيعتين المتحدتين، الإلهية والبشرية، ففي البداية أكدوا على أن ناسوت السيد المسيح هو ناسوت حقيقي، ولكن أكثرهم تطرفًا  وعلى رأسهم ثيودورت و مالوا إلى القضاء على وحدة شخص السيد المسيح، ولم يروا فيه الله الإنسان أو الإله المتجسد، بل إنسانًا حل فيه الله، فكان محور تركيزهم على يسوع التاريخي.

إن طريقة الفهم النقدي الصارم للبعض مثل ديودور الطرسوسي وثيودور المبسويستي، قادت إلى دراسة نصوص الكتاب المقدس حرفيًا، من أجل وصف تاريخ خلاصنا بدلًا من شرحه، وحيث أنهم تمسكوا بالتفسير الحرفي للعهد القديم، ففي تفسيرهم للرسائل والبشائر في العهد الجديد، وضعوا تركيزهم على يسوع التاريخي في ملء حقيقة طبيعته الإنسانية التي هي هدف وغاية تاريخ إسرائيل.

(ميندورف)

أمثلة عن منهجيتهم في التفسير

في تفسيره الحرفي للكتاب رفض تيودور تفسير سفر نشيد الإنشاد على أنه رمز للعلاقة بين الله والكنيسة، بل أصر أنه مجرد سفر حرفي لسليمان يناشد فيه عروسته، ولذلك نعلم أنه تفرع من هذه المدرسة النسطورية والآريوسية. لكن هذا لم يكن موقف كل تلاميذها بل كان هناك القديس يوحنا ذهبي الفم، وثيودوريت الذين كانا يميلان إلى التفسير الرمزي في أوقاتٍ كثيرة.

ظهر لدى آباء أنطاكيَة ما يُعرَف الثيؤريا “Theoria”، وهو نوع من الرمزيّة والتأمل، يقوم على أساس ما يُسمى بالنمطية “Typology” بشرط ألاَّ تكون الرمزيّة اجتهادًا شخصيًا، ويتضح ذلك من الأمثلة الآتية:

يُفسِّر هذه الآية “وَأَجْعَلُهُ خَرَاباً لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ”

(سفر إشعياء 5: 6)

بهذه العبارة: “فمعناه أنّه تعالى يتخلّى عن الاهتمام به، وقوله أوصي السحاب لا يمطر عليه مطرًا معناه أنَّه يمنع الأنبياء عن أن يتنبؤوا له”

(مار إفرام السرياني)

في هذا النموذج نرى جليًا طريقة مار إفرام في التقيّد بالنصّ الكتابيّ، وتفسيره بالمعنى الحرفي المنسجم أكثر مع الواقع والحقيقة.

فسَّر القديس معجزة تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، بقوله: “إن في الخمر دخول عجيب للطبيعة البشرية في رحم العذراء [دون زرع بشر]”

(مار إفرام السرياني)

كما يرى أن لم يُشفَ لعدم الكفاية الخلاصية للناموس، وأن الذي اغتسل في ، إشارة إلى المعمودية المقدسة التي نحصل منها على الخلاص.

ويعتمد منهج الثيؤريا على أن معاني عبارات الكتاب المقدس لها معنى حرفيّ؛ وتقبل التفسير الثيؤريا دون أن يكون لها معنى رمزيّ فقط، وجود ثيؤريا لحدث أو بعض آيات الكتاب المقدس يكون فيه شيء من التطابق وليس اجتهادًا، مثل وجود نص صريح عن الحيّة ية.

وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الحيّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ. هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإنسان.

(إنجيل يوحنا 3: 14)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التفسير بين الحرفية والرمزية[الجزء السابق] 🠼 الكتاب المقدس والتفسير بين الحرفية والرمزية[الجزء التالي] 🠼 التفسير بين الحرفية والرمزية [مدرسة الإسكندرية]
أبانوب صبري
Faculty of Arts في English Department  [ + مقالات ]

Studies at Evangelical Theological Seminary in Cairo - ETSC
تمت الدراسة ايضا بمدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتي والوعظ