المقال رقم 1 من 3 في سلسلة التفسير بين الحرفية والرمزية

سيكون موضوعنا “ماهية الكتاب المقدس وعلاقته بالتقليد” الذي نبدأ به هذا المقال، هو بداية لسلسلة مقالات حيث سنناقش معنى تفسير الكتاب ومنهجيته التي تطورت عبر القرون. فالمعرفة بالكتاب المقدس شيء مهم، تستحق بعضًا من الوقت للتفكير، فهل هو مجرد كتاب أدبي موجه إلى القارئ العادي، الذي يستطيع أن يستوعبه بشكل مباشرًة دون الاحتياج إلى مساعدة من شخص يفسر  ماهيته؟

الكتاب المقدس ليس بقراءته، بل بفهمه.

(القديس إيلاريون الكبير)

الكتاب المقدس هو جزء من التقليد، فالكتاب المقدس نشأ بداخل الكنيسة وليس العكس، والكنيسة هي التي أفرزت لنا تعاليمها المقدسة ورسالة إلهنا الخلاصية لنا وللجنس البشرى.

بقول آخر: مسيحنا تجلى في الكتاب المقدس، وكنيستنا هي التي علمتنا أي طريق نسلكه بمساعده الآباء الأوليين عن طريق شروحات الآباء ومعايشتنا ل كنيستنا.

فالكنيسة على مر العصور كان لها سلطان تفسير الكتاب لأنها المستودع الحقيقي الأوحد للتعليم الرسولي، فحفظت لنا هذه التعاليم الحية فيها لأن الروح أُعطى لها. أما خارج الكنيسة والتقليد المسلم لنا من أيام الرسل الأوليين فلا نستطيع الوصول لتعليم صحيح للإنجيل ولا لتبشير قويم ولا لفهم حقيقي لكلمه الله الخلاصية لنا، فلا حياة في أي كلمات خارج كنيستنا الجامعة الرسولية. فالكنيسة والكتاب المقدس لا ينفصلان ولا يتناقضان ففهمنا الصحيح للكتاب المقدس موجود فالكنيسة فقط، لأن الروح القدس يوجهها ويرشدها.

كتب آباء القرن الثاني الميلادي عن وحدانية الإيمان داخل الكنيسة:

حيث إن الكنيسة تسلمت هذه الكرازة وهذا الإيمان كما قُلنا وبالرغم من أنها موزعة في كل العالم فأنها تحفظه بعناية كاملة كأسرة واحدة، والكنيسة كلها على حد سواء تعتقد بهذه الأمور كأن لها نفس واحدة وقلبا واحدا وفي تناغم تكرز بهذه المعتقدات وتعلم بها وتسلمها كما من فم واحد.

(القديس إيرينيؤس،

فالكتاب المقدس خارج الكنيسة لا يصبح مقدسًا، فإذا نظرنا إلى الهرطقات التي كانت فالكنيسة على مر العصور نجد أن أصحابها كانوا يدعمون أفكارهم الخارجة من داخل الكتاب المقدس، فهل يعتبر هذا تفكيرًا كتابيًا؟ بالطبع لا، لأنهم كانوا يشكلون تفسيرهم ليبرهنوا على نظرياتهم التي كونت خارج الرسالة الإلهية التقليدية عبر السنوات والعصور.

فنجد كمثال موقف من الكتاب المقدس كان مثال لوحدة الكنيسة والكتاب فلم يكن يبحث على براهين لتعاليمه دائمًا من أسس كتابية ضد الهرطقات، فكان يقول بأن الكتاب يخص الكنيسة، لذلك احتكام الهراطقة الذين هم خارج الكنيسة هو احتكام غير شرعي، ونجد هذا في كتابه “معارضة الهراطقة”، ولذلك نجد العلامة يؤكد وحدة الكنيسة والكتاب، ويرى أن مهمة المفسر هي الإعلان عن كلمه الروح القدس فيقول:

يجب أن ننتبه عندما نُعلم لئلا نقدم تفسيرنا الخاص بدلا من تفسير الروح القدس.

(أوريجينوس في تفسير روميه 1،3،1)

إن الكتاب المقدس هو تفاعل سرائري، فهو كتابًا بشريًا، ولكن الله يقدم لنا الحضور الإلهي في هذا الكتاب، ولهذا تصبح كلماته مقدسة، ومن خلاله يتكلم الروح القدس لنا في الوقت الحاضر، فإن عمل الكتاب كسر إلهي أمر معتاد للمسيحيين في الاستخدام التعبدي الخاص بالصلوات الخاصة والتأملات والقراءات الروحية، في الخدمات التعبدية المسيحية “أي الليتورجية”.

إن قراءة نصوص الكتاب المقدس عمل سرائري، فيه تصبح كلمات المنتج البشري أوعية تنقل لنا الكلمة الإلهية (اللوغوس)، فالكتاب المقدس يعمل سرائريًا من خلال ترديده أو سماعه، حيث نسمع الروح القدس مخاطبًا إيانا من خلال تلك الكلمات العتيقة. فهو وسيلة يتحدث بها الله ويأتي إلينا، وتلك النظرة لعمل الكتاب المقدس يمكن أن تمتد للتقليد المسيحي ككل، وليس فقط للكتاب المقدس، فذات الأمر لإقرارات الإيمان المسيحية القديمة، والتعبدات الليتورجيا، والطقوس، والممارسات والعقائد، كلها يمكن أن ترى كتصويرات سرائرية.

من خلال ذاك المنظور، أن تكون مسيحيًا، هو أن تكون لك رؤية تجعلك قادرًا على تغيير الحياة.  أن تكون مسيحيًا يعني أن تكون في علاقة مع الله، حيًا في التقليد المسيحي، وهذا التقليد/ التسليم يشمل على وجه الخصوص الكتاب المقدس كقاعدة للتقليد/للتسليم. فالحياة المسيحية هي علاقة مع من يشير له الكتاب، وفيه يتأمل، أي علاقة مع الله. أن تكون مسيحيًا يعني أن تحيا في ذاك التقليد/ التسليم.

ومن هنا نتطرق إلى التفسير، فمن البديهي إننا نقر بأن لغة الكتاب المقدس لم تعد هي لغتنا السائدة، لأنها ليست لغتنا الحالية، بل إن الحقيقة الخلاصية المستترة في طيات حروف الكتاب تقدم لنا من خلال مصطلحات لشعوب مختلفة زمانا ومكانا. ولهذا على مر العصور ومنذ زمن وجود الرسل الأوليين إلى الآن. لزم على الكنيسة وجود تفاسير لكي تصل الرسالة الخلاصية المخفية في كلمات كتابنا المقدس إلى الإنسان المعاصر في كل قرن وكل تاريخ.

إن الجوهر الأسمى يظهر في رسالة الكتاب الكاملة عبر رحلة الإنسان مع الله ليس في مجرد كلمات أدبية أو تاريخية، ومع ذلك فإننا لا نهمش الخلفية التاريخية أو الأدبية التي تكون في الكتاب. لقد وجد علم التفسير على مر العصور لهذا السبب وأصبح يتطور حتى أصبح له أكثر من منهجية، ومن هنا سنرى ما هو التفسير، وما المنهجيات المختلفة التي كونت على مر السنوات وأساسها ومكانها وزمانها.

معنى كلمه تفسير:

كلمة تفسير مصطلح يونانيّ، يعني ترجمة من لغة أجنبية إلى لغة معروفة عند القارئ، أو عَرض جوهر الأمور بطريقة سهلة وواضحة، فأن مصطلح تفسير بكل مشتقاته اللغوية له علاقة بالشرح، بالتعبير.

اجعل النص مفهوما.

(الدفاع الأول لل، 2:21)

وهذا التفسير الصحيح يبقى مستحيلًا خارج تقليد الكنيسة الرسولي المحفوظ داخل الكنيسة. فكتابنا المقدس وحدة واحدة، كُتب لقصد خلاصي واحد فيجب على التفسير أن يكون توضيح وتجلى لهذا القصد.

فالذين يقدمون كلام الله من دون أن يقرنوه بقصد الكتاب وبحقيقة الإيمان يزرعون قمحا ويحصدون شوكا.

(تفسير إرميا العظة 7،3)

هناك طريقتان نتعامل بهما مع كلمات الكتاب المقدس هما الشرح، والتفسير:

الشرح: هو التعامل مع النص مع فهم جميع الاحتياجات للأمور التاريخية واللغوية التي تقودنا إلى مفهوم النص كما هو في ذهن الكاتب.
من الذي كتب النص؟
من هم الذين وجه لهم النص؟
ما سبب كتابة النص؟
بأي لغة كُتب النص؟
بأي أسلوب جديد كتب النص؟

التفسير: عندما نقوم بتفسير نص معين فهو محاولة لنقل النص القديم إلى واقعنا اليومي، وهو بطبيعة الحال مختلف اختلاف جذريًا عن وقت كتابة هذا النص، ويتم ذلك بدون تغيير جوهري في قصد ومفهوم النص.

ولأهمية التفسير في كنيستنا سنقدم هنا مدرستين للتفسير، مدرسة أنطاكيَة التي تبنت التفسير الحرفي ومدرسة الإسكندرية التي تبنت المنهج الرمزي في التفسير، حيث نتتبع منهجهم، وأصلهم، وما الدافع الذي حفز كل مدرسة على إتباع هذا المنهج التفسيري، وما هو سبب الخلاف بين المدرستين، عارضين أهم آباء ومفسري المدرستين بأمثلة عن منهج كل مدرسة على حدةٍ.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التفسير بين الحرفية والرمزية[الجزء التالي] 🠼 التفسير بين الرمزية والحرفية [مدرسة أنطاكيَّة]
أبانوب صبري
Faculty of Arts في English Department  [ + مقالات ]

Studies at Evangelical Theological Seminary in Cairo - ETSC
تمت الدراسة ايضا بمدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتي والوعظ