الطبيعة الساقطة:
على الرغم من كونهم على صورة الله، أحياء في شركة مع الله وحاصلين على كل أسباب الراحة، إلا أن ادم وحواء اختاروا أن يخطئوا أمام الله. من المهم أن نفهم أن خطيتهم، من ناحية لاهوتية، ليست مجرد الأكل من ثمرة محرمة. حين خلق الله الإنسان، خلقه بعيون روحية مثبتة على الله. جاء هذا نتيجة للصورة التي ثبتت في الطبيعة الإنسانية. وبحرية الإرادة، أُعطي ادم وحواء فرصة أن يصيروا على مثال الله [1]. تقول العالمة تشيسنت عن ق. ساويرس الأنطاكي أنه اعتقد بأن…
آدم خُلق في الأصل غير كاملًا، حتى أنه بإرادته الحرة يستطيع أن يشترك في أعمال الله الصالحة. وليساعده على التقدم كما كان لازمًا، أعطاه الناموس المكتوب على قلبه. فالناموس الإنجيلي والروحي كان لامتحان حرية إرادته، ليساعده على الحفاظ على ما كان له وليأتي لما لم يصر له بعد [أي الكمال]… لكن السقوط كلف الإنسانية لا فقط أبديتها؛ بل أيضًا بالسقوط، فقدت الناموس الإنجيلي الروحي المكتوب على قلبه. وهذا معناه أن الجنس البشري صار متروكًا بلا شيء سوى الناموس الطبيعي أي معرفة الفرق بين الخير والشر، وضمير يستطيع بواسطته أن يصنع أعمال فضيلة حسنة فيعمل بناء على محبة الخير الذي فقدناه(روبيرتا تشيسنت، ثلاثة خريستولوجيات مونوفيزية: ساويرس الأنطاكي وفلكسينوس المنبجي ويعقوب السروجي – إصدار جامعة أوكسفورد، 1985 – صـ 45)
منذ السقوط، فخبرتنا وعلاقتنا بالله والحياة قد اختلفتا. فالكنيسة لا تعلم بوراثة الخطية كما لو كانت شيء مادي مختلط بطبيعة أجسادنا [2]. ولكننا دون شك صرنا في حالة من فقدان النعمة التي جُلبت على الجنس البشري. لذا فالإنسانية خضعت للموت وصارت تحيا في طبيعة فاسدة مريضة بالميل تجاه الأهواء الجسدانية. لهذا يقول ق. غريغوريوس النزينزي:
نحن البشر لسنا فقط مركبين [من نفس وجسد]؛ نحن أيضًا متنافرين ومتعارضين حتى على المستوى الداخلي. فلا نظل على نفس الحال يومًا واحدًا ما بالك العمر كله. ففي أجسادنا كما في نفوسنا، نحن دائمي التغير والتقلب(غريغوريوس النزينزي، عن الله والمسيح – إصدار معهد ق. فلاديمير، صـ 128)
فارتباكنا وتقلبنا جاء نتيجة للخطية التي جعلت رؤيتنا لله تتجزأ لرؤية الماديات (في ثمرة الشجرة) ورؤية الإنسان لذاته (حيث نظر أبوينا الأولين لأجسادهما وعرفا أنهما عريانين). لذا، تضمن السقوط تغيرًا في رؤية الإنسان لله وللعالم المخلوق كوكيل الخليقة بل بالحري صارت رؤيته مركزة على الذات والتي تؤدي إلى رؤية اقتنائية ومؤذية. ويصير هذا واضحًا في كلمات الله لآدم بعد خطية الأخير: ملعونة الأرض بسببك؛ بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود
(تكوين 3: 17-19). فالأرض ملعونة إذن بسبب خطية آدم حتى أنها ستصرخ فيما بعد بسبب خطايا أبنائه (أيوب 31: 38). ويستخدم الله لغة مشابهة في قوله لقايين، بكر ادم، بعد قتله لأخيه هابيل: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض
(تكوين 4: 10-12).
وبعد دعوة إبراهيم وتكوين شعب إسرائيل، ورث الإسرائيليين أرض كنعان التي كان يقطنها أولًا شعوب شريرة عاشوا حياة منحرفة وبغيضة. وحين جاء الإسرائيليين ليسكنوا نفس الأرض، أمرهم الله أن يتجنبوا انحرافات من سبقوهم في سكنى ذات الأرض. فيحدد الله أسبابه لأمرهم بهذا فيقول:
بكل هذه لا تتنجسوا لأنه بكل هذه قد تنجس الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم فتنجست الأرض فأجتزي ذنبها منها، فتقذف الأرض سكانها. لكن تحفظون أنتم فرائضي وأحكامي، ولا تعلمون شيئًا من جميع هذه الرجسات لا الوطني ولا الغريب النازل في وسطكم، لأن جميع هذه الرجسات قد عملها أهل الأرض الذين قبلكم فتنجست الأرض. فلا تقذفكم الأرض بتنجيسكم إياها كما قذفت الشعوب التي قبلكم.(لاويين 18: 24-28)
على عكس تفكيرنا المقيد بالفردانية، الله يؤكد على أن الخطية تؤثر على الشخص والأرض التي يخطئ فيها. الصورة التي يقدمها لنا الله هي صورة الأرض التي تتقيأ الشعب بسبب الخطية. فعدل الله تطلب أن تتقيأ الأرض الإسرائيليين مثل الأمم. فحين أخطأ الإسرائيليين أمام الله وكان السبي على وشك الفتك بهم، وصف الله خراب إسرائيل هكذا:
رعاة كثيرين أفسدوا كرمي، داسوا نصيبي. جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة. جعلوه خرابًا ينوح وهو على خرب. خربت كل الأرض، لأنه لا أحد يضع في قلبه. على جميع الروابي في البرية أتى الناهبون، لأن سيفًا للرب يأكل من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، ليس سلام لأحد من البشر. زرعوا حنطة وحصدوا شوكًا. أعيوا ولم ينتفعوا، بل خزوا من غلاتكم ومن حمو غضب الرب.(أرميا 12: 10-13)
فأثر الخطية على الأرض دائم الحضور في الكتاب المقدس سواء قبل أم بعد تكوين إسرائيل وسواء كان الخاطئ يهودي أم أممي. هذه الحقيقة أصبحت كائنة في فكر الصالحين من الآباء القدام مثل أيوب الذي كان يبرر ذاته أمام الله فيضع حجته فيما إذا كانت الأرض ستشهد ضده أم لا (أيوب 31: 38). عاش اليهود، الذين أعلن لهم الله ذاته في الناموس، بطريقة تحترم الأرض أغلب الوقت. فصاروا مثمرين حين أعطوا الأرض فرصة للراحة من الزراعة حسب الناموس الذي أقر بعدم إيجاز فلاحة الأرض في عام اليوبيل. وحين تعدوا الناموس، واجهوا متاعب ومجاعات وأخيرًا السبي من الأرض التي أعطاهم الله.
ففي العالم الإسرائيلي، كان ينبغي أن تكون المحلة دائمة الطهارة حسب الناموس. ومن كان سببًا في نجاستها كان يُقطع من الشعب بقدر فساد ما صنعه. صار الناموس هو طريقة الله الجديدة للتحكم في علاقات الإنسان مع الخليقة. وصارت الحاجة للناموس كامنة في حقيقتنا الساقطة التي خضعت لها الخليقة بشكل عام والبشرية بشكل خاص. وأعطى الناموس قوانين لطهارة خيمة الاجتماع والهيكل فيما بعد، واللذين يعتبرا أراضي مخصصة لعبادة الله. وبسبب السقوط وصرامة الناموس، خلق الإنسان ثنائية عقلية رأى فيها الخيمة والهيكل كأراضي مقدسة مقابل باقي الأراضي التي اعتبرها غير مقدسة. فكان مجيء المسيح إزالة لهذه الثنائية حيث إن مجيئه قدس الخليقة ككل جاعلًا إياها قادرة على الشركة في القداسة مرة أخرى بسبب وجوده فيها.
الطبيعة القائمة:
يؤكد تقليد الكنيسة أن المسيح، الكلمة المتجسد، كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. شركته في كلا الطبيعتين يحتم أنه وسيط مناسب بين الله والإنسان. وعلاوة على ذلك فطبيعته البشرية صارت مثلنا في كل شيء جاعلةً إياه وسيط مناسب بين الله والخليقة بشكل كامل. وفي هذه الوساطة، يصبح المسيح ادم الثاني الذي نجح في دور ادم الأول الذي سقط في إتمام مهمته. ولفهم هذا بطريقة أبسط، لا بد أن نؤكد على أن يسوع المسيح، كإنسان، أكل طعامًا (نباتات وحيوانات وأسماك) وشرب ماء وخمر وتنفس هواء. وفي ذلك، صارت هذه العناصر الطبيعية مختلطة بطبيعة المسيح البشرية تمامًا كاختلاطنا بها.
ويسوع المسيح هو شخص الكلمة المتجسد الواحد الذي قام من الأموات وصعد إلى السموات. بالتالي، فبقيامته لم يعط الفرصة للإنسانية فقط أن تقوم به، أو بالحري فيه، بل الخليقة ككل. كذلك، بصعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين الآب، صارت طبيعتنا البشرية مكرمة جدًا حيث أن واحدًا منا، بالحقيقة بكرنا، جالسًا عن يمين الله. وبما أن ناسوت المسيح اتصل اتصالًا مباشرًا مع عناصر الطبيعة المخلوقة، فهذه العناصر ذاتها صارت قادرة على قبول التقديس.
فقدرة العناصر المادية على قبول التقديس كامنة في التجسد الذي فيه اتخذ الله المادة، الجسد الإنساني والنفس العاقلة، وجعلهما خاصته وواحدًا معه. وبناء على هذه الرؤية الجديدة التي رأيناها في التجسد، تعتمد الأسرار الكنسية على المادة لإتمامها. المعمودية والميرون ومسحة المرضى والزيجة والكهنوت يعتمدوا على الزيت والماء. ويعتمد سر الإفخارستيا على الخبز المصنوع من القمح والخمر المصنوع من العنب. ونرى دور الإنسان، أعظم مخلوق مادي في إتمام جميع الأسرار. أسرار الكنيسة تقف شاهدة على تقديس الحياة البيولوجية في المسيح حيث أنها صارت قادرة على نقل الحياة الإلهية للإنسان.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر