إن السر الكنسي هو مصدر العلاقة بين الله والإنسان، وفي ذات الوقت مجال تحقيقها الوحيد، فبالسر الكنسي ننال حياة الله فينا وبالسر الكنسي يسكب الله فينا كل هباته وعطاياه ومواهبه وأسراره، فهو باب دخولنا إليه، أو بالحري دخوله إلينا، أي وسيلة سكناه فينا، هذا ما تفعله الكنيسة لنا وتحققه الأسرار فينا، وهكذا تلتحم الحياة الليتورجية في الكنيسة مع مضمون أسرارها فتمزج التقوى باللاهوت، الليتورجية تكمل السر الكنسي والسر الكنسي يحقق الليتورجية، فتصبح العبادة هي مصدر العقيدة.
تحتل الأسرار الكنسية مكانة مهمة في اللاهوت المسيحي والتراث الكنسي ما بين الشرق والغرب لدرجة التطابق في مضمونها فيما بين جميع الكنائس التقليدية الرسولية سواء الخلقيدونية منها أو اللا خلقيدونية. يقول الأب أثناسيوس المقاري [1]:
إننا لا نستطيع أن نفصل أسرار الكنيسة عن أسرار اللاهوت، أي الجسد عن الرأس، لان المسيح هو رأس الكنيسة والكنيسة هي جسد المسيح، فسر المعمودية يعلن سر موت المسيح وقيامته بل ويحققه، فهل يستطيع من لا يجوز الموت والقيامة مع المسيح في المعمودية أن يقول: المسيح قام؟ وسر التجسد بكل تدبير الخلاص فيه كامن في سر الإفخارستيا ومُحقق فيه، فسر التجسد هو عينه سر التقوى، وسر الإفخارستيا هو عينه سر التقوى كقول القداس الإلهيووضع لنا هذا السر العظيم الذي للتقوىفبدون الإفخارستيا تصبح قضية تجسد ابن الله، قضية لاهوتية بحتة، بعيدة عن كونها سبب حياة تقوية للذين يؤمنون بالمسيح، وأيضاً سر الميرون المقدس في الكنيسة هو سر الروح القدس فيها.(أثناسيوس المقاري، مُعجم المُصطلحات الكنسية)
لقد ظلت أسرار الكنيسة في حياة المسيحيين الأوائل ملتحمة بصلواتهم ومُختبرة في عباداتهم، فالإيمان بالأسرار هو إيمان بالكنيسة ذاتها لان السر يُحقق في الكنيسة.
ما معنى السر الكنسي؟
هو اصطلاح كنسي يُعنى به: نعمة إلهية سرية لا نراها، وينالها المومن بطريقة غير منظورة بفعل الروح القدس، عن طريق صلوات يرفعها كاهن شرعي، بطقس خاص مع وجود مادة السر.
ويُعرف القديس أوغسطينوس السر بانه: شكل منظور لنعمة غير منظورة أو علامة لشيء مقدس.
وكان استخدام كلمة سر في الكنيسة الأولي لها مجال متسع حتى أنها كانت تُطلق على صيغ الصلوات الكنسية مثل قانون الإيمان والصلاة الربية واستمر هذا التطبيق المتسع حتى العصور الوسطى.
عدد الأسرار الكنسية:
على مدار أحد عشر قرنًا من نشأة المسيحية، لم تعرف الكنيسة في الشرق أو الغرب تحديدًا لعدد الأسرار. أما أول تحديد لعدد الأسرار الكنسية فقد كان في القرن الثاني عشر الميلادي، حين قام القديس ڤيكتور (+1142 م) بعدّ الأسرار الكنسية إلى حوالي ثلاثين سرًا، مقسمًا إياها إلى ثلاث مجموعات. أما بطرس لومبارد، أسقف باريس (1100-1160 م)، فقد جعلها سبعة أسرار، وهو الرقم الذي أصبح تقليدًا ثابتًا انتقل فيما بعد من الغرب إلى الشرق. وفي مجمع فلورنسا سنة 1439 ميلادية، تقرر بقانون أن الأسرار الكنسية هي سبعة، وتبعه أيضًا مجمع ترنت (1545-1563) ميلادية، حيث وُضعت في هذا المجمع تحديدات منهجية للأسرار الكنسية. وفي الكنيسة الشرقية -نقلًا عن الغرب- تحددت الأسرار الكنسية بسبعة أسرار، وذلك بعد القرن الرابع عشر الميلادي.
أما أن ينتقل هذا التقليد من الشرق إلى الغرب، فهذا أمر غريب؛ ذلك أن تقليد الكنيسة الشرقية لا يعرف هذا التحديد. فإن عدنا إلى القرن الرابع عشر في الكنيسة القبطية، وعند العالم الطقسي شمس الرئاسة ابن كبر (+1324 م)، وهو قس الكنيسة المعلقة، لا نجد أي تفريق عنده بين صلوات الأسرار التي نعرفها اليوم وباقي الصلوات الكنسية. فهو، مثلًا، لا يفرق بين صلوات تكريس الكهنة (سر الكهنوت) وصلوات تكريس الكنائس. ففي الباب السادس عشر من مؤلفه: “مصباح الظُلمة في إيضاح الخدمة” نقرأ [2]:
والصَّلوات المختصة بالكهنة هي مرتبة في البيعة، ولا تجوز بغير كاهن، صلاة التَّعميد، صلاة تقديس القُربان، صلاة تكريس الكهنة والبيعة، وصلاة الزواج، وصلاة التَّحليل، وصلاة أشفية المرضى وهي صلاة الزَّيت، وصلاة الموتى حال انتقالهم وبعدها، وأبكار المآكل، وصلاتا الغطاس والقصريَّة مستنبَطة من القُدَّاس.(شمس الرياسة أبو البركات ابن كبر، مصباح الظُلمة في إيضاح الخدمة)
ففي القائمة السابقة يذكر ابن كبر أسرار: المعمودية والإفخارستيا (القربان المقدس) والكهنوت والزيجة والتوبة والاعتراف الذي يدعوه التحليل ومسحة المرضى إلى جانب الصلاة على المنتقلين وتذكاراتهم وصلاة تبريك باكورات الثمار وصلاة اللقان في عيد الغطاس والقصرية أي لقان خميس العهد.
وفي جميع المؤلفات والموسوعات الطقسية الحديثة التي كُتبت في القرن العشرين، يذكر مؤلفيها عدد الأسرار بسبعة أسرار. فيذكر القديس حبيب جرجس [3]:
أما عدد الأسرار، فقد شاءت عناية الله أن تكون سبعة، لتكون مناسبة وموافقة لحاجات الإنسان في الحياة، وهي سر المعمودية، وسر المسحة المقدسة أو الميرون، وسر الشركة أو الإفخارستيا، وسر التوبة ومسحة المرضى، وسر الزيجة والكهنوت.(حبيب جرجس، أسرار الكنيسة السبعة)
ويذكر أيضا القمص ميخائيل مينا في موسوعته الشهيرة “علم اللاهوت” التي صدرت عام 1934 م ويقول [4]:
عدد الأسرار هي سبعة: المعمودية، المسحة [الميرون]، الإفخارستيا، التوبة [الاعتراف]، مسحة المرضى، الزيجة الشرعية، الكهنوت.(ميخائيل مينا، موسوعة علم اللاهوت)
ويضيف:
الأسرار سبعة بناء على تقليد قديم، ولإجماع الكنيسة عليه منذ الكنيسة الأولي.(ميخائيل مينا، موسوعة علم اللاهوت)
وقد ذكر أيضا القمص يوحنا سلامة (+1960م) في موسوعته الشهيرة عدد الأسرار الكنسية فيقول [5]:
بما لا خلاف فيه أن جميع الكنائس المسيحية الشرقية والغربية تعتقد معنا بوجود سبعة أسرار في الكنيسة مؤسسة من السيد المسيح، يجب ممارستها في الكنيسة بحسب النظامات والترتيبات الموضوعة لها من الرسل القديسين والآباء الأطهار، وقد استعملت الكنيسة هذه الأسرار جيلا بعد جيل منذ قام الدين المسيحي، ولا تزال تستعملها إلى الآن، وتبقى كذلك إلى أن يأتي ابن الله في سحاب السماء في مجده وجميع الملائكة القديسين ليجلس على كرسي مجده [6](يوحنا سلامة، اللآلئ النفيسة في شرح طقوس ومعتقدات الكنيسة)
مع كل هذه التأكيدات، لا نجد في الشرق وخصوصًا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحديد لعدد الأسرار قبل القرن الرابع عشر.
تقسيم أسرار الكنيسة السبعة:
ا) ضرورية لكل الشعب: كالمعمودية والميرون والاعتراف والتناول ومسحة المرضى.
ب) غير ضرورية للفرد: كالزيجة والكهنوت، لكنهما ضروريان للهيئة الاجتماعية.
ج) واسَمَه: أي هي ختم روحي غير قابل للإزالة أو الإعادة مثل الميرون والمعمودية والكهنوت، كما قال بولس الرسول [7]:
ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا، هو الله، الذي ختمنا أيضا، وأعطى عربون الروح في قلوبنا.(كورنثوس الثانية ١: ٢١-٢٢)
الكنائس الغير تقليدية والأسرار:
أ) قَبل كلا من لوثر وملانكتون، المعمودية والتناول والاعتراف، ولكنهما أكدا على أهمية الإثنين الأولين دون الثالث [8]
ب) لم يقبل كلا من زونيكليوس وكلفينوس الاعتراف، وقَبل الأول الزيجة، وقبَل الثاني الكهنوت.
ج) يقبل المحدثون سري المعمودية والتناول.
د) تقبل الكنائس اللوثرية والأسقفية المصلحة الألمانية سر التثبيت بعد معمودية الأطفال، وبعد تعليمهم الإيمان المسيحي.
المادة المنظورة في الأسرار المقدسة:
تعتبر المادة المنظورة التي من خلالها ننال النعمة السرية غير المنظورة هامة جدًا، ولها شروط معينة تجعلها مطابقة ماديًا للفعل غير المنظور للنعمة السرية، وبدون هذه المادة لا يتحقق السر:
– فيُستخدم الماء كمادة منظورة للمعمودية [9].
– ويُستخدم زيت الميرون الذي يحتوي على أنواع أطياب مختلفة إشارة إلى مواهب الروح القدس المتنوعة، وقد استخدمه الرسل كمسحة مقدسة [10].
– يستخدم القربان المقدس المصنوع من دقيق الحنطة ليتحول إلى غذاء سمائي وخبز سمائي هو جسد الرب [11]).
– وعصير العنب [12].
– وفي سر التوبة يكون وضع الصليب على الرأس هو المادة المنظورة لغفران الخطايا [13].
– وفي سر مسحة المرضى يستخدم القنديل (زيت وفتيل) [14].
– وفي سر الزيجة يكون الإكليل المقدس على رأس العريس والعروس إشارة إلى إكليل العفة والتقديس [15].
– وفي سر الكهنوت تكون المادة المنظورة هي اليد الأسقفية أو الكهنوت لمنح الموهبة والسر [16].
تعتبر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية السر هو: كل عمل مقدس ونعمة إلهية غير منظورة، ننالها عن طريق مادة منظورة، وأن المسيح هو مصدر النعمة ومُتممها، بينما تحديد عدد بعينه للأسرار الكنسية هو طقس (ترتيب) متأخر دخل الكنيسة بعد القرن الرابع عشر الميلادي، وربما يكون مقبولًا لو فهم في إطار التنظيم البحت وليس في إطار التخصيص لعدد بعينه.