إن السر الكنسي هو مصدر العلاقة بين الله والإنسان، وفي ذات الوقت مجال تحقيقها الوحيد، فبالسر الكنسي ننال حياة الله فينا وبالسر الكنسي يسكب الله فينا كل هباته وعطاياه ومواهبه وأسراره، فهو باب دخولنا إليه، أو بالحري دخوله إلينا، أي وسيلة سكناه فينا، هذا ما تفعله الكنيسة لنا وتحققه الأسرار فينا، وهكذا تلتحم الحياة الة في الكنيسة مع مضمون أسرارها فتمزج التقوى باللاهوت، الليتورجية تكمل السر الكنسي والسر الكنسي يحقق الليتورجية، فتصبح العبادة هي مصدر العقيدة.

تحتل الأسرار الكنسية مكانة مهمة في اللاهوت المسيحي والتراث الكنسي ما بين الشرق والغرب لدرجة التطابق في مضمونها فيما بين جميع الكنائس التقليدية الرسولية سواء ال منها أو اللا خلقيدونية. يقول الأب :

“إننا لا نستطيع أن نفصل عن أسرار اللاهوت، أي الجسد عن الرأس، لان المسيح هو رأس الكنيسة والكنيسة هي جسد المسيح، ف يعلن سر موت المسيح وقيامته بل ويحققه، فهل يستطيع من لا يجوز الموت والقيامة مع المسيح في المعمودية أن يقول: المسيح قام؟ وسر التجسد بكل فيه كامن في سر ال ومُحقق فيه، فسر التجسد هو عينه سر التقوى، وسر الإفخارستيا هو عينه سر التقوى كقول القداس الإلهي “ووضع لنا هذا السر العظيم الذي للتقوى” فبدون الإفخارستيا تصبح قضية تجسد ابن الله، قضية لاهوتية بحتة، بعيدة عن كونها سبب حياة تقوية للذين يؤمنون بالمسيح، وأيضاً سر الميرون المقدس في الكنيسة هو سر الروح القدس فيها”

(“مُعجم المُصطلحات الكنسية”، الجزء الثاني، صفحات 605، 606)

لقد ظلت أسرار الكنيسة في حياة المسيحيين الأوائل ملتحمة بصلواتهم ومُختبرة في عباداتهم، فالإيمان بالأسرار هو إيمان بالكنيسة ذاتها لان السر يُحقق في الكنيسة.

ما معنى السر الكنسي؟

هو اصطلاح كنسي يُعنى به: نعمة إلهية سرية لا نراها، وينالها المومن بطريقة غير منظورة بفعل الروح القدس، عن طريق صلوات يرفعها كاهن شرعي، بطقس خاص مع وجود مادة السر.

ويُعرف وس السر بانه: شكل منظور لنعمة غير منظورة أو علامة لشيء مقدس.

وكان استخدام كلمة سر في الكنيسة الأولي لها مجال متسع حتى أنها كانت تُطلق على صيغ الصلوات الكنسية مثل قانون الإيمان والصلاة الربية واستمر هذا التطبيق المتسع حتى .

عدد الأسرار الكنسية:

على مدار أحد عشر قرنا من نشأة المسيحية، لم تعرف الكنيسة في الشرق أو الغرب تحديدا لعدد الأسرار، أما أول تحديد لعدد الأسرار الكنسية فقد كان في القرن الثاني عشر الميلادي حين قام القديس فيكتور (+1142 م) بعَدَّ الأسرار الكنسية إلى حوالي ثلاثين سرا، مقسمًا إياها إلى ثلاث مجموعات. أما “بطرس لمبارد” أسقف باريس (1100- 1160 م) فقد جعلها سبع أسرار، وهو الرقم الذي أصبح تقليدًا ثابتاً انتقل فيما بعد من الغرب إلي الشرق. وفي سنة 1439 ميلادية، تقرر بقانون أن الأسرار الكنسية هي 7 (سبعة)، وتبعه أيضًا (1545 – 1563) ميلادية، حيث وُضعت في هذا المجمع تحديدات منهجية للأسرار الكنسية، وفي الكنيسة الشرقية -نقلا عن الغرب- تحددت الأسرار الكنسية بسبعة أسرار وذلك بعد القرن الرابع عشر الميلادي.

أما أن ينتقل هذا التقليد من الشرق إلى الغرب فهذا بالأمر الغريب، ذلك أن تقليد الكنيسة الشرقية لا يعرف هذا التحديد. فإن عُدنا إلى القرن الرابع عشر في ال، وعند العالم الطقسي شمس الرئاسة ابن كبر (+1324 م) وهو قس الكنيسة المعلقة، لا نجد أي تفريق عنده بين صلوات الأسرار التي نعرفها اليوم وباقي الصلوات الكنسية، فهو مثلًا لا يفرق بين صلوات تكريس الكهنة (سر الكهنوت) وصلوات تكريس الكنائس. ففي الباب السادس عشر من مؤلفه: “مصباح الظُلمة في إيضاح الخدمة” نقرأ:

“والصَّلوات المختصة بالكهنة هي مرتبة في البيعة، ولا تجوز بغير كاهن، صلاة التَّعميد، صلاة تقديس القُربان، صلاة تكريس الكهنة والبيعة، وصلاة الزواج، وصلاة التَّحليل، وصلاة أشفية المرضى وهي صلاة الزَّيت، وصلاة الموتى حال انتقالهم وبعدها، وأبكار المآكل، وصلاتا الغطاس والقصريَّة مستنبَطة من القُدَّاس”

( “مصباح الظُلمة في إيضاح الخدمة”، لشمس الرئاسة ابن كبر، الباب السادس عشر)

ففي القائمة السابقة يذكر ابن كبر أسرار: المعمودية والإفخارستيا (القربان المقدس) والكهنوت والزيجة والتوبة والاعتراف الذي يدعوه التحليل ومسحة المرضى إلى جانب الصلاة على المنتقلين وتذكاراتهم وصلاة تبريك باكورات الثمار وصلاة اللقان في والقصرية أي لقان .

وفي جميع المؤلفات والموسوعات الطقسية الحديثة التي كُتبت في القرن العشرين، يذكر مؤلفيها عدد الأسرار بسبعة أسرار. فيذكر القديس في كتابه”أسرار الكنيسة السبعة” ويقول:

“أما عدد الأسرار، فقد شاءت عناية الله أن تكون سبعة، لتكون مناسبة وموافقة لحاجات الإنسان في الحياة، وهي سر المعمودية، وسر المسحة المقدسة أو الميرون، وسر الشركة أو الإفخارستيا، وسر التوبة ومسحة المرضى، و والكهنوت”

(“أسرار الكنيسة السبعة”، حبيب جرجس، إصدار القبطية اﻷرثوذكسية بالقاهرة عام 1934م)

ويذكر أيضا القمص ميخائيل مينا في موسوعته الشهيرة “علم اللاهوت” التي صدرت عام 1934 م ويقول:

“عدد الأسرار هي سبعة: المعمودية، المسحة (الميرون)، الإفخارستيا، التوبة (الاعتراف)، مسحة المرضى، الزيجة الشرعية، الكهنوت”

(موسوعة “علم اللاهوت”، للقمص ميخائيل مينا، 1934م.)

ويضيف:

“الأسرار سبعة بناء على تقليد قديم، ولإجماع الكنيسة عليه منذ الكنيسة الأولي”

(موسوعة “علم اللاهوت”، للقمص ميخائيل مينا، 1934م.)

وقد ذكر أيضا القمص يوحنا سلامة (+1960م) في موسوعته الشهيرة عدد الأسرار الكنسية فيقول:

“بما لا خلاف فيه أن جميع الكنائس المسيحية الشرقية والغربية تعتقد معنا بوجود سبعة أسرار في الكنيسة مؤسسة من السيد المسيح، يجب ممارستها في الكنيسة بحسب النظامات والترتيبات الموضوعة لها من الرسل القديسين والآباء الأطهار، وقد استعملت الكنيسة هذه الأسرار جيلا بعد جيل منذ قام الدين المسيحي، ولا تزال تستعملها إلى الآن، وتبقى كذلك إلى أن يأتي ابن الله في سحاب السماء في مجده وجميع الملائكة القديسين ليجلس على كرسي مجده (مت25: 31)

(“اللآلئ النفيسة في شرح طقوس الكنيسة”، للقمص يوحنا سلامة (+1960م.)، الجزء الثاني)

مع كل هذه التأكيدات، لا نجد في الشرق وخصوصًا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحديد لعدد الأسرار قبل القرن الرابع عشر.

تقسيم أسرار الكنيسة السبعة:

ا) ضرورية لكل الشعب: كالمعمودية والميرون والاعتراف والتناول ومسحة المرضى.

ب) غير ضرورية للفرد: كالزيجة والكهنوت، لكنهما ضروريان للهيئة الاجتماعية.

ج) واسَمَه: أي هي ختم روحي غير قابل للإزالة أو الإعادة مثل الميرون والمعمودية والكهنوت، كما قال :

“وَلكِنَّ الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ، الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا”

(2 كو 1: 21-22)

 الكنائس الغير تقليدية والأسرار:

أ) قَبل كلا من لوثر وملانكتون، المعمودية والتناول والاعتراف، ولكنهما أكدا على أهمية الإثنين الأولين دون الثالث (لوثر، كتاب “سبي بابل” ص 226)

ب) لم يقبل كلا من زونيكليوس وكل الاعتراف، وقَبل الأول الزيجة، وقبَل الثاني الكهنوت.

ج) يقبل المحدثون سري المعمودية والتناول.

د) تقبل الكنائس اللوثرية والأسقفية المصلحة الألمانية سر التثبيت بعد معمودية الأطفال، وبعد تعليمهم الإيمان المسيحي.

المادة المنظورة في الأسرار المقدسة:

تعتبر المادة المنظورة التي من خلالها ننال النعمة السرية غير المنظورة هامة جدًا، ولها شروط معينة تجعلها مطابقة ماديًا للفعل غير المنظور للنعمة السرية، وبدون هذه المادة لا يتحقق السر:

– فيُستخدم الماء كمادة منظورة للمعمودية (أع16:22).

– ويُستخدم زيت الميرون الذي يحتوي على أنواع أطياب مختلفة إشارة إلى مواهب الروح القدس المتنوعة، وقد استخدمه الرسل كمسحة مقدسة (1يو20:2، 27).

– يستخدم القربان المقدس المصنوع من دقيق الحنطة ليتحول إلى غذاء سمائي وخبز سمائي هو جسد الرب (يو51:6).

– وعصير العنب (1كو24:11؛ إش3:62).

– وفي سر التوبة يكون وضع الصليب على الرأس هو المادة المنظورة لغفران الخطايا (يو23:20).

– وفي سر مسحة المرضى يستخدم القنديل (زيت وفتيل) (لو24:10؛ مر13:6؛ يع14:5).

– وفي سر الزيجة يكون الإكليل المقدس على رأس العريس والعروس إشارة إلى إكليل العفة والتقديس (نش11:3).

– وفي سر الكهنوت تكون المادة المنظورة هي اليد الأسقفية أو الكهنوت لمنح الموهبة والسر (أع6:6؛ غل9:2؛ 1تي14:4؛ 2تي6:1؛ عب2:6؛ تث9:34).

تعتبر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية السر هو: كل عمل مقدس ونعمة إلهية غير منظورة، ننالها عن طريق مادة منظورة، وأن المسيح هو مصدر النعمة ومُتممها، بينما تحديد عدد بعينه للأسرار الكنسية هو طقس (ترتيب) متأخر دخل الكنيسة بعد القرن الرابع عشر الميلادي، وربما يكون مقبولا لو فهم في إطار التنظيم البحت وليس في إطار التخصيص لعدد بعينه.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

مينا زكريا
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎