في اليومين الماضيين، وعلى خلفية حادث الإرهابي السعودي، والذي تراه المملكة السعودية ملحدًا وليس مسلمًا، لما عاث في أوربا فسادًا وقتل الناس بغير ذنب… ظهر عندنا في مصر تأويلًا مسيحيًا أصوليًا يرى أن الحادث هو تأديب من الله لشعوب أوربا على شرورها وضلالها وزيغ إيمانها.

ذلك التأويل للواقع المعاصر، عبّر عنه مولانا رامي كامل على صفحته الشخصية بفيسبوك، مستشهدًا بنماذج من نصوص العهد القديم [كتب العبرانيين / اليهود]:

ولأن الأمر ليس شخصيًا، ومكرر بتخريجات متعددة عقب كل كارثة طبيعية تقريبًا (التسونامي لمعاقبة الأمريكان، والزلزال لمعاقبة الأتراك، وحتى الكورونا اعتبره الأصوليون أصغر جند الله، [1]،  إلخ) ارتأيت أنا أيضًا أن أكتب شيئًا.

تصورات أنبياء العهد القديم عن الله ليست ثابتة

ينبغي أن نعلم أنه في الفترة المُبكرة من تاريخ الشعب العبراني، ﻻ يوجد اتفاق بين المؤرخين على ماهيّة الدين العبراني في ذاك العصر. نحن نلاحظ -بحسب سفر الملوك على الأقل- أن أغلب الأوقات يعبد اليهود آلهة مختلفة، ﻻ توجد سوى استثناءات بسيطة في تاريخهم الذي يصفه سفر الملوك أيضًا، الاستثناء هو أن يعبد اليهود “يهوَه” فقط كما في فترة حزقيا ويوشيا [2].

أسماء الله في الكتاب المقدس العبراني

نلاحظ أيضًا عبر تعبيرات وتراكيب لغوية في أسفار العهد القديم أكبر من أن تحصى، أن يهوَه يقدّم نفسه باعتباره “إله الآلهة” [كبير الآلهة]، التعبيرات الشبيهة توضح أن يهوَه ليس هو “الإله الوحيد”، لكنه الإله الأعلى، أو الأقوى، أو الوحيد الجدير بالعبادة، لكن ليس بالضرورة الإله الوحيد الموجود. بطريقة أخرى: يقدّم نفسه كإله حقيقي في وسط آلهة مزيفة أو محدودة أو ضعيفة على الأقل.

في الفترة المُبكرة من تاريخ الشعب العبراني لم يكن الاعتقاد بوجود "إله واحد" بنفس المعنى الذي يبدو عليه اﻵن، الدين العبراني لم يكن مويستي [3] Monotheistic [توحيد أحادي خالص]، لأن الصورة التي يقدمها سفر الملوك أو الكتب المُبكرة هو أنه أحد أنواع المونولاترية [4] Monolatrism [الإيمان بوجود العديد من الآلهة، مع العبادة الثابتة لإله واحد فقط]، بمعنى أن ال ذاتها تدعم الاعتقاد بوجود عدة آلهة، لكن الإله الوحيد الجدير بالعبادة هو يهوَه.

بل أن هذا التصوّر لم يكن منتشرًا سوى عند النخبة المثقفة والكهنة والأنبياء، لكن أغلب عوام اليهود كانوا يعبدون عدة آلهة إلى فترة السبي تقريبًا، ولم يحدث أن اليهود عبدوا إلهًا واحدًا بالشكل التوحيدي المونوثيستي سوى في فترات قليلة كالتي تم ذكرها.

أما بعد فترة السبي، بدأت الأفكار اليهودية تميل إلى أن يعاقبنا، ويهوه فقط من يمكنه هذا، وهو [يهوَه] من قال لنا هذا، وبدأت الاعتقادات تتحرك إلى شكل Monotheistic بشكل جماعي واسع، ولم يحدث الثبات على الشكل التوحيدي الخالص الأخير إﻻ في عصر مُتأخر قد يصل لعصر ال في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد [5].

مفهوم “العدالة الجزائية”

من المهم هنا توضيح أن العبرانيين عندما يقومون بتأويل الأحداث الشريرة التي تحيق بهم بأنها “عقاب الله على شرورنا”، فهم هنا يستخدمون مبدأ “ال[6] القائمة على تفسير الشر الحادث بالصدفة، على أنه ليس مصادفة، وإنما وراءه إرادة عاقلة ومقصودة ومسببة بسبب زيغهم وفسادهم. الأمر هنا أشبه بشخص أصيب بالكورونا من شخص آخر، فيؤول “المرض” بأنه ابتلاء من الله [ربنا ابتلاه بالمرض] أو ناس آخرين ضربهم تسونامي وشردهم وتركهم بين حي وميت، عندما يقومون بتأويل السبب؛ ليس لكونهم موجودين في البقعة الجغرافية التي ضربها التسونامي، وإنما التسونامي نفسه جاء من ربنا لكي يعاقبنا.

فكرة “العدالة الجزائية” عندما تكون صادرة من المصابين أنفسهم، فهي تعد توظيفًا كهنوتيًا للشر الطبيعي، مثل الكوارث الطبيعية، بحيث تحث الناس على التوبة.. التوظيف هنا جيد (أخلاقي) لأنه يحض الناس على النهوض من مصيبتهم، والتفكير في المستقبل بشكل أفضل (التوبة).

لكن هل فكرت في فكرة “العدالة الجزائية” عندما تكون صادرة من الفاعل؟
مثلًا: الشخص الذي أصابك بعدوى كورونا ويقول: “لم أصبك أنا، إنما أنا مجرد سبب لله ليصيبك في مقتل”.
أو هل فكرت فيها من وجهة نظر الإرهابي السعودي عندما يبرر قتل ضحاياه على أنه هو “عدالة الله” في مجازاة أوروبا؟
أليس نفس الأمر يمكن أن يقال على الهجمات الانتحارية الطائرة (الإرهابية) على مبنى التجارة العالمي، من وجهة نظر بن لادن وأنصاره؟

ثم ماذا عن نفس الفكر عندما يصدر من طرف ثالث، وليس من المصابين أنفسهم؟
يعني أنا مثلًا لم أصب بالكورونا، وقاعد أهبد عن إن الكورونا أصغر جند الله.
لست أمريكيًا، وأفتي في تأويل التسونامي على أنه من عند الله،
أو لست أوربيًا، وأنظّر حول الحادث الإرهابي، وأنه بسماح من الله لتأديبهم،
وبالتأكيد طبعًا لا أنا نبيٌ في السبيِّ كإرمياء وإشعياء، ولا أنا كاهنٌ مازوخيٌّ ك الذي يرسل له الربُّ رسالةً نصيَّةً قصيرة كلَّ مصيبةٍ ليشكر الإرهابيين.

ببساطة، عندما ﻻ أكون ضمن المصابين بكارثة، وﻻ أنا نبيّ الله الذي لديه توكيل إلهي بالحديث عنه… فهكذا أنا أرتكب جريمة في الإرشاد عن المجرم الأعظم (الله) بوصفه مسبب البلايا كلها [7].

بطريقة أخرى؛ فأنت هكذا تحمّل الله مسؤولية الشر، وبدون آليات تسمح لك بمعرفة الله أكثر من غيرك، فتصنّع “إله مجرم” في تصور الناس التي خُرِبَت بيوتها، أو الذين قُتل ذويهم، عشان حضرتك تتعظ وتتربى [8]!

الرب صالح يا مولانا… لا يسر بذبائح وﻻ محرقات [9]، وعلى الرغم من أن المكتوب عن الله في العهد القديم أنه يُسر لرائحتها [10]، ويهدأ على البشر عندما يتنسم رائحتها [11])، إلا أنه هو نفسه، في نفس الكتاب، قال أنه ﻻ يسر بها وﻻ يحبها [12] وأنه يسعد ﻻ لموت الخطاه، بل أن يحيوا في توبة [13]، والتصور الذي رسمه المسيح في أذهاننا عن الله أنه يحب الخطاه وﻻ يكرههم أو يريد الانتقام منهم [14]، بالطبع يحب توبتهم، لأنها أحسن لهم، مش أحسن له هو!!

ما فرق العهد الجديد عن القديم؟

الفارق هو أن لدينا في العهد الجديد يسوع المسيح كتجسد حقيقي لله (ليس تأويلًا نسبيًا كتصورات أنبياء العبرانيين عن ربهم)، ومن ثم نستطيع أن نقيس تصوراتنا -القديمة- عن الله، بتصورنا الجديد من المسيح، وهو الأمر الذي ﻻ يستطيع أحد أنبياء العهد القديم أن يفعله، لأنه لم ير الله كما رأيناه نحن متجسدًا.

فهل يستقيم عقلًا أن المسيح ينتقم ويتشفى (حتى لكي يجعل الناس تتوب)؟
حصلت فين في حياته الحكاية دي، عشان نشوف الله بالتصور -العبراني- ده؟!

فالخلاصة: أنبياء وكهنة وكتبة العهد القديم، يرسمون لنا تصوراتهم عن “يهوه” بشكل مفهوم في سياق العهد القديم.. لكن المسيحي المعاصر يجب أن يكون تصوره أفضل منهم، لأنه حظي بما لم يحظوا به من نعمة. وكلامنا أو تصورنا عن الله مختلف، ومتطور، وذو دلالة أمضى، لأننا قد عايناه ولمسناه في شخص المسيح.

وبناء عليه يا مولانا، أراك ترتكب جريمة في حق الله… تتقوّل عليه… تنسب له أفعال معاصرة شريرة وإرهابية… تُسقط -كمتدين أصولي- حدث معاصر حصل من أسبوع، على فهم عبراني وتصور يهودي من ثلاثة ألاف سنة… استحضار أصولي للماضي… ولا تؤخذ التصورات عن الله والكتب المقدسة بهكذا طريقة!

في الحقيقة لا يوجد “مؤمن” بأي دين، يفعل هذا في العصر الحديث غير فعلة العنف والإرهابيين، لتبرير سلوكياتهم العنيفة والمؤذية للآخرين على إنها خضوع وتسليم لإلههم العنيف والمؤذي… وأنا لا إرهابي، ولا مؤمن بهكذا إله، وإراه إله مصنوع، مزيف، وأتشارك مع أخي الملحد في رفضه!

هوامش ومصادر:
  1. باسم الجنوبي، القط الذي علمني درسا لاهوتيا، Across Borders [🡁]
  2. مايكل لويس، [١٢] المفارقة الكبرى والمحرر الأخير، سلسلة تكوين التوراة، [🡁]
  3. Monotheistic: قمت بتعريبها إلى: مونوثيستي، وتعني التوحيد الأحادي الخالص. [🡁]
  4. Monolatrism: قمت بتعريبها إلى: مونولاترية، وتعني الإيمان بوجود العديد من الآلهة، مع تقديم العبادة الثابتة لإله واحد فقط. [🡁]
  5. باسم الجنوبي، رحلة زمنية مع برديات إلڤنتين، منشورة على شبكة Theosis Across Borders [🡁]
  6. كريستين هايز وكرستينا عزيز، أيوب: ثورة إنسان ضد تعاليم التوراة، Theosis Across Borders [🡁]
  7. ، هل يميت الله البشر؟ [١]، Theosis Across Borders [🡁]
  8. جميل رسمي، ملاحظات على: “سماح الله”، Theosis Across Borders [🡁]
  9. لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى. ذبائح الله هي روح منكسرة. (مزمور 51: 16-17). [🡁]
  10. ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقة، وقود رائحة سرور للرب. (لاويين 1: 9). [🡁]
  11. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت.» (تكوين 8: 21). [🡁]
  12. إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات. (هوشع 6: 6). [🡁]
  13. أنت هو الله الرحوم الذي لا يشأ موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا. (، الخولاچي المقدس وخدمة الشماس). [🡁]
  14. إلهنا الصالح، الطويل الروح، الكثير الرحمة، الجزيل التحنن، الذي يحب الصديقين ويرحم الخطاة الذين أولهم أنا. (ارحمنا يا الله ثم ارحمنا، طلبه تقال آخر كل ساعة​). [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]