أرجأت الشروع في كتابة هذا الجزء لأكثر من أسبوعين، حتى لا يأتي تحت ضغط الجدل الحاد الاستقطابي الذي صاحب الإعلان عن ترتيبات عقد جلسة حوار، “سيمينار”، في مناسبة الذكرى الثانية عشر لتجليس البابا البطريرك الأنبا تواضروس الثاني، والتي مازالت توابعها تتداعى حتى اللحظة، وهى محفزة للتناول والتحليل فيما بعد. رغم كونهما -الحدث والجدل- غير بعيدين عن متن الطرح الذى نتناوله، وربما يكونا من نتائجه الطبيعية.
في وعي لأهمية ودور الوسائط الإعلامية في التواصل مع الرعية، احتفظ البابا شنودة باجتماعه الأسبوعي، الذي أسسه وهو بعد أُسقف، وأعاد إصدار مجلته الشهرية “الكرازة”، في إصدار أسبوعي، وفى شكل يقترب من صحف الـ”تبلويد”، حجم صفحتها نصف صفحة تقريبًا من الجرائد اليومية، ليكون في متناول قاعدة أعرض من القراء. ليصير الاجتماع الأسبوعي بمثابة مصدر لأخبار الكنيسة، سواء في موضوع العظة، والذي كان في وقت الأزمات إعلان لرأى البابا في الحدث المثار، أو من خلال فقرة الأسئلة التي تسبق الكلمة الرئيسية، وبعضها كان مقصودًا ليجيب على بعض ما يدور في الشارع متعلقًا بالكنيسة والبابا، أو هي رسائل موجهة بحنكة وذكاء لشخوص بعينهم داخل الكاتدرائية والكنيسة وربما خارج أسوارهما.
كانت الغيوم تتجمع في سماء الكنيسة وفي سماء الدولة بل وفي العالم بأسره، في عقد السبعينيات، وكان المزاج العام العالمي يتجه نحو الفردية الاجتماعية حتى أُطلق على عقد السبعينيات الذي شهد قدوم البابا الجديد، “عِقد الأنا”، وكانت مصر تعيش أجواء ضبابية، وثلث ارضها تحت الاحتلال، وكان الارتباك عنوان الحالة العامة، ويأتي أكتوبر 73 حاملًا نصرًا عظيمًا، لعله الأول بعد انتكاسات متتالية، من 48 حتى 67.
كانت الكنيسة والأقباط على موعد مع موجات جديدة من الاستهداف، بعد أن انقلبت القيادة السياسية على توجهات الستينيات، بتبنيها سياسات الانفتاح الاقتصادي، بغير ضوابط، ليتحول المجتمع من شبه منتج إلى مجتمع استهلاكي، في فوضى غير مسبوقة، أوجزها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين في وصفها “انفتاح السداح مداح”، وفى أعطاف هذا التحول يتحالف السادات مع تيارات الإسلام السياسي، والتي كانت ترى الكنيسة والأقباط العقبة الكبرى في تحقيق مشروعها السياسي الذي وضعت جماعة الإخوان المسلمين أسسه وأطره الفكرية ومرجعياته الفقهية منذ قيامها 1928.
إزاء التصعيد المتواتر من تلك التيارات العنفية ضد الكنيسة والأقباط عبر جرائم حرق وهدم الكنائس واستهداف شخوص وممتلكات الأقباط، خطفًا ونهبًا وفرض إتاوات، وقتلًا وتهجيرًا تحت بصر ممثلي الدولة بالقرية والبندر والمدينة والمحافظة، خاصة في محافظات الصعيد حيث الكثافة القبطية، والبعد نسبيًا عن الحكومة المركزية، والتي تعاملت مع هذه الجرائم برخاوة واحيانًا بغض الطرف عنها، إزاء هذا تحصن الأقباط بأسوار الكنيسة التي شرعت أبوابها لهم، في مرحلة فارقة، وبطبيعة الحال تشهد الهجرة إلى دول الغرب تصاعدًا ملموسًا، وفى الداخل راح الأقباط ينشئون مجتمعًا بديلًا وموازيًا، في تجنب الاحتكاك بالشارع والمجتمع الذي تم تغيير عقله الجمعي عند غالبيته وحشده في مناصرة تلك التيارات، وهو ما انعكس على لغته وملبسه وتعاملاته. صارت الأمة بديلًا عن الوطن، والفقه والأعراف بديلًا عن القانون والنظام العام، لتنتعش الجلسات العرفية، وتنكمش دولة القانون وتتراجع، وتتشكل بغير إعلان الدولة الدينية.
كانت اختيارات البابا البطريرك لمعاونيه محكومة بالولاء والخضوع الكامل لتوجهاته، لذا جاءت كما اسلفنا من الشباب المفتقر للخبرة، وقد مكث في الدير بضعة شهور، ولم يجتاز خبرة التلمذة على شيوخه، وتحملت الرعية فاتورة إدارة هؤلاء لإيبارشياتهم، ومع توالي الرسامات انزوى شيوخ المجمع وقد صاروا أقلية غير مؤثرة، وتحاشيًا لانفعالات شباب المجمع عليهم، حتى إن اكثر من مطران انقطع عن حضور اجتماعاته.
والتوسع في الرسامات أمر يتكرر مع كل بطريرك جديد، وان تعددت الأسباب، وهذا أمر طبيعي، أن يسعى المسئول لاستقدام من يعاونوه في ترجمة رؤيته ومنهجه في إدارته. ولم يخرج البابا الجديد عما استقر لدى سابقيه من عدم ارتياح للمجلس الملي العام، لكنه لم يرفضه أو يجمده أو يصطدم به كما كان الحال قبله، فدعا إلى الشروع في إجراء انتخابات مجلس ملي جديد، وعقب إعلان قائمة الفائزين اجتمع بهم وقام بسيامتهم شمامسة، الأمر الذي اعترض عليه بعض الأساقفة القدامى، باعتبار أن هذا الإجراء يشكل حاجز أدبي وطقسي يحجر على حريتهم في مراجعة الإكليروس في تصرفاتهم الإدارية والمالية لكونهم، كشمامسة، رتبة كهنوتية خاضعة لهم.
وانتهج البابا البطريرك نهج التأملات المرسلة في عظاته، التي لا تحتاج إلى استناد لمراجع أو توثيق آبائي، اعتمادًا على الزخم الذي تحتشد به ذاكرته القوية التي تميز بها، وقد انخرط في خدمة الوعظ بالجمعيات القبطية والكنائس بنشاط ودأب، بعد انضمامه لخدام كنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا.
وقد قال بهذا في إجابته على سؤال في أحد اجتماعاته، يقول السائل : لماذا لا يضع البابا أسماء المراجع التي يرجع إليها؟، فأجاب : هو في الحقيقة أغلبية كتبي تأملات خاصة وليست من مراجع.
اللافت أن هذا النهج انتشر في كل الكنيسة، فقلما تجد واعظًا، أسقفًا أو قسًا، يستند في عظاته إلى مراجع، وهى ملاحظة تضع ايدينا على احد أبرز أسباب ارتباكات التعليم.
ربما لهذا فرَّق القديس بولس الرسول بين الوعظ والتعليم، فبينما تصلح التأملات للوعظ بقدر ما، فهي لا تصلح منهجًا للتعليم، لأن التعليم يعتمد على ما التوثيق تأسيسًا على ما استقر في الكنيسة الأولى وتوثق عبر مجامعها المسكونية وقوانينها. ولا يملك المعلم الخلط بينها وبين رؤاه الشخصية.
ولعلنا ننتبه إلى أن هناك فرق بين العقيدة والتفسير والرأي، إذ نتفق بشكل تام على العقائد الإيمانية، بينما نقبل تعدد التفاسير والآراء، دون الخروج عن جوهر العقيدة، إذ إن الخلط بين هذه الثلاثية أنتج لنا ما شهدته الكنيسة من صراعات ظنها أصحابها صراعات لاهوتية وهى ليست كذلك، بل واستخدمت في العصف بالمختلفين، حتى مع افتراض توافر حسن نية صاحب القرار. فكثيرًا ما تأخذنا النوايا الطيبة إلى مهالك. وتشهد الأروقة الكنسية إعادة إحياء مصطلحي “هرطقة وهراطقة”، وهو الأخطر في أدبياتها، وإطلاقه على كل من يختلف في الرأي أو الموقف مع القيادات الكنسية، في غياب الضوابط الحاكمة له، وهو أمر جد خطير وعبثي بآن.
اللافت أن كثيرًا من حلفاء وأصدقاء مراحل التكوين والصعود تم إقصائهم وتحجيمهم، وانتقل بعضهم إلى دائرة الخصوم، والمقاطعة، الإشكالية هنا هو تغليف هذا كله بغطاء “الخلاف اللاهوتي”، ووصمهم بالهرطقة وعدم سلامة تعليمهم، كان من أصدقاء الأمس الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، وقد تغير الموقف منه بعد رسامته أسقفًا، باعتبار أن مهامه هي اقتطاع من مسئوليات وصلاحيات أسقف التعليم، وكذلك الأمر في العلاقة مع الأب متى المسكين، الذي وصفه البابا البطريرك في مستهل كتابه “انطلاق الروح” بأنه أبيه ومعلمه الذي تتلمذ عليه في مقتبل رهبنته، ثم وضعه في دائرة الخصوم، في واحدة من تطبيقات جدلية العلاقة بين السلطة والمثقف، وهى تظهر جلية في العلاقة بين البابا البطريرك وصفيه الدكتور جورج حبيب بباوي، والتي انقلبت من الحميمية إلى العداء، الذي تصاعد إلى قطعه من الكنيسة، بدون محاكمة وبقرار مجمعي صدر بالتمرير.
وثمة سؤال اعترف بأنني لا أملك إجابته، في عالم صارت فيه المعلومات -الصحيحة والمدسوسة- في كل يد، وأمام كل عين، وتهدد ذهن المتلقين، وسلامة عقيدتهم، هل الرتبة الكهنوتية تغنى عن الدراسة النظامية الأكاديمية للراعي، وتمنحه استغناء عن الاستعانة بالباحثين المتخصصين في علوم الكنيسة؟
وتصادفنا في سياق الاقتراب من هذه المرحلة تجربة فريدة نجت من المصادمة وهى تجربة الدكتور الباحث والمؤسس للتكريس بغرض البحث اللاهوتي الآبائي؛ الدكتور نصحي عبد الشهيد والذي استطاع بحكمة ومثابرة أن يبتعد عن نقاط التماس مع القيادة الكنسية، بإصراره على بقاءه مكرسًا مدنيًا، واحتفاظه ببيت التكريس بعد أن احتمى غالبية مؤسسيه بالرهبنة، وانتقل به إلى مقره الجديد ونجح فى مأسسته كمركز الدراسات الآبائية، تحت مسمى مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية، وقدم للكنيسة عبر تلاميذه كوكبة من الباحثين الذين أوفدهم تباعًا إلى اليونان للدراسة في جامعاتها اللاهوتية، والحصول على دراسات عليا فيها على مستوى الدكتوراه.
واستطاع بمنهجه هذا أن يحفظ وجود الكيان، ويُحَيِّد الفرقاء، ويقدم للفكر القبطي، بشخصه وعبر أولاده، كنوزًا معرفية لاهوتية آبائية محققة، تأليفًا وتعريبًا، غاية في الأهمية، والأهم ألا يحسب على أحد.
تواكب مع هذا ارتفاع وتيرة وقف وقطع الكهنة بعد أن أسندت مهمة محاكمة الكهنة لسكرتير المجمع الذي تولى منصبه بعد الإفراج عن قداسة البابا وعودته إلى مقره، بعد محنة سبتمبر 1981، وقد أُطلقت يده في العصف بمن يراهم مخالفين، وكان في تصريحاته المعلنة يفخر بأنه عصا البابا الغليظة، ليطال الإيقاف العديد ممن يراهم مخالفين وبدون محاكمة، وكان أبرزهم القمص إبراهيم عبد السيد، الذي شُغل الرأي العام بقضيته، ربما لأنه كان شديد المراس، دارسًا للحقوق، وكان قبل رسامته قسًا يتولى إدارة الشئون القانونية بجهة حكومية، إضافة إلى أنه كاتب صحفي له العديد من الإصدارات المتعلقة بالشأن الكنسي والطقسي، قبل الغضب عليه، وقد أصدر في زمن الأزمة نحو ثلاثين كتابًا يتناول الإشكاليات الكنسية عرضًا وتحليلًا وعلاجًا، لعل أبرزها:
المحاكمات الكنسية.
أموال الكنيسة من أين؟ وإلى أين؟
المعارضة من أجل الإصلاح الكنسي.
البطريرك القادم ممن يختار؟… ومن الذي يختاره؟.. وكيف..؟
السلطان الكنسي أبوة لا إرهاب.
متى يعود الحب المفقود في الكنيسة القبطية؟
الرهبنة في الميزان.
أموال الكنيسة من يدفع؟ ومن يقبض؟
الأحوال الشخصية.. رؤية واقعية.
الإصلاح الكنسي عبر العصور.
الإرهاب الكنسي.
يبقى لنا في اقترابنا الحذر من مرحلة التغيرات الفارقة (1959 ـ 2012) أزمة الصدام مع السادات، ونتناولها في مقال قادم.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨