- كانت أديرة مقفرة وكنيسة تبحث عن بوصلتها
- ☑ الدور العلماني الذي كان
- مسارات الحراك القبطي وتكريس محايد
ينتصف القرن العشرين، فيما يجتاح العالم موجات من التحولات السياسية العاتية، بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) التي أعادت رسم خريطة التحالفات في العالم، وكذلك الخريطة العسكرية والبنى الاجتماعية، وتوصف هذه الحرب بأنها الأكثر دموية في تاريخ الحروب، الأمر الذي دفع الحلفاء المنتصرين إلى البحث عن آلية تُجَنّب العالم تكرارها، وحل الصراعات البينية والإقليمية قبل استفحالها.
فتم الاتفاق على إنشاء منظمة الأمم المتحدة، 1945، فيما أفرز الواقع الجديد بروز قوتين عظميين؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ومعه تبدأ “الحرب الباردة”، التي تجلت في الصراع بين القوتين في سباق السيطرة على العالم بدون مواجهات مباشرة بينهما، فانتقل الصراع إلى خارج أراضيهما، وفى تكوين الأحلاف العسكرية والسياسية.
لم تكن مصر بعيدة عن الأحداث فعلى ارضها -العلمين 1942- تتكبد قوات المحور أكبر انكسار أمام قوات الحلفاء، وكان انتصار الحلفاء في العلمين، بقيادة مونتجمري، بداية النهاية. حتى وضعت الحرب أوزارها عام 1945.
ينتصف القرن وتشهد مصر ثورة عسكرية في يوليو 52، استقر لها الأمر بغير عناء، كان من قاموا بها في مجملهم شباب من الجيش تدور أعمارهم حول الثلاثين، ورتبهم من القيادات الوسيطة، يقودهم اللواء محمد نجيب. اللافت أنهم جميعهم من المصريين المسلمين، وإن تردد وجود واحد أو أكثر من الضباط لمصريين المسيحيين في الصف الثاني منهم، لكنها معلومة تحتاج إلى توثيق.
ورغم تعدد الانتماءات السياسية لقيادات الثورة، إلا أن علاقتهم مع جماعة الإخوان المسلمين كانت جلية وواضحة، يدعم هذا الرأي تأثرهم في تشكيل وزارة الثورة أن الوزارة المعنية بالإعلام سميت “وزارة الإرشاد” تأسيًا بمكتب إرشاد الجماعة، وسرعان ما انفض التحالف بينهما بسبب النزاع على الولاية والسلطة، ويتم الإطاحة باللواء محمد نجيب، فبراير 1954، ليبزغ نجم الكباشي (الرائد) جمال عبد الناصر، ليصبح قائدًا للثورة ثم رئيسًا للجمهورية.
في هذا السياق يجتمع نفر من شباب الأقباط ليعلنوا تأسيس جماعة أسموها “جماعة الأمة القبطية” بقيادة الشاب إبراهيم فهمي هلال، تأسست 11 سبتمبر 1952، وصدر قرار بحلها في 24 أبريل 1954، واستطاعت خلال عامها الأول أن تضم إلى عضويتها نحو 90 ألف عضو.
ويمكن أن نكتشف توجهاتها عبر المسمى الذي يناظر مسمى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك شعارها؛ الله ملكنا، ومصر بلادنا، الإنجيل شريعتنا، والصليب رايتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غاية الرجاء
، ومن يتابع رحلة هذه الجماعة يكتشف أن قرار حلها لم يكن بسبب حادثة خطف البابا يوساب الثاني التي قاموا بها، 26 يوليو 1953، فبعد عودة البابا إلى مقره والقبض على العناصر التي ارتكبت هذه الجريمة، أرسل البابا مناشدة لحكومة الثورة بالعفو عنهم لأنهم أولادي
، وتمت الاستجابة لمناشدته وأفرج عنهم.
لعل السبب فى حل هذه الجماعة نكتشفه من استقراء وثائق تلك الجماعة وتخوف الثورة من رؤى هذه الجماعة والتي تجلت في المذكرة التي تقدمت بها إلى لجنة إعداد دستور للبلاد برئاسة الفقيه الدستوري د. عبد الرزاق السنهوري، وفيها مطالب الأقباط في مشروع الدستور، والذي لم يصدر. وأعقب ذلك تقديم قيادات جماعة الأمة القبطية للمحاكمة وصدرت بحقهم أحكام بالسجن لبعض القيادات.
على الأرض كانت هناك منظومة مدارس الأحد التي أسسها الأستاذ حبيب جرجس، وكانت تتبنى مهمة تربية النشء وتعليمهم مبادئ الإيمان المسيحي وعقائد وطقوس وتاريخ الكنيسة، وتبنت في عملها العام توجه الإصلاح الكنسي السلمي، فأسست جمعية وملجأ مدارس الأحد
، وشرعت في إصدار مجلة شهرية لنشر التعليم الكنسي ونشر مطالبهم الإصلاحية، وفى خطوة عملية سعوا لترشيح الأستاذ حبيب جرجس مطرانًا للجيزة بعد خلو كرسيها، وحشدوا افتتاحيات المجلة بالنصوص القانونية التي تدعم رسامة علماني للأسقفية، واستعانوا في ذلك، بجوار القوانين الكنسية، بالسوابق التاريخية المماثلة في رسامة المتبتلين من غير الرهبان، لكن الكنيسة لم تقبل بهذا وخاب مسعاهم.
لم يكن التحرك العلماني القبطي محصورًا في جماعة الأمة القبطية ومنظومة مدارس الأحد، بل كان قبلهم في العمل الأهلي التطوعي، خاصة في تأسيس الجمعيات الأهلية، التي تتبنى العمل الاجتماعي بداية من مساعدة الأسر الفقيرة، بمساعدات دورية من تبرعات القادرين والأعيان، وامتدت أنشطة الجمعيات إلى إنشاء وإدارة المدارس والمستشفيات والملاجئ ودور الإيواء، وتخصيص نسبة داخلها لغير القادرين.
ومن ابرز هذه المؤسسات مدارس التوفيق ومدارس الإيمان، ومدارس ثمرة المحبة، وغيرها إضافة إلى سلسلة مدارس الأقباط الكبرى التي أنشأها البابا كيرلس الرابع، ومن المستشفيات مستشفى القبطي ومستشفى التوفيق ومستشفى دار الشفاء وغيرها سواء في القاهرة أو المحافظات، ومن ابرز الملاجئ الملجأ البطرسي (نسبة إلى بطرس باشا غالي رئيس الوزراء آنئذ)، وملجأ رعاية المكفوفين وآخر لرعاية المكفوفات. وكانت المدارس والمستشفيات تقدم خدماتها لكل المصريين بلا تفرقة، ولعل هذا كان أحد العوامل المهمة في دعم السلام المجتمعي.
في سياق مواز، انتبه أعيان الأقباط ومثقفيهم إلى اتساع رقعة الأوقاف القبطية وانعدام مردوده المخصص لإعانة الفقراء والمشروعات الخيرية وذلك بسبب سيطرة نظار الوقف عليه وإدارته لصالحهم، فاتفقوا على تأسيس كيان قانوني لإدارة الأوقاف؛ العقارات والأراضي الزراعية وكافة الممتلكات الموقوفة، وعرضوا الأمر على البابا البطريرك الأنبا كيرلس الخامس فوافق عليه وكذلك الدولة التي صادقت عليه ليولد المجلس الملي
.
وقد أضيف إلى مهامه فيما بعد الفصل في نزاعات الأحوال الشخصية للأقباط، ولذا تشكلت من خلاله المحاكم الملية، بالتوازي مع المحاكم الشرعية للمصريين المسلمين، وقدر صدر قانون بحلهما فيما بعد في 1955، وإحالة تلك القضايا إلى المحاكم المدنية، المعروفة بمحاكم الأحوال الشخصية، والتي في تعديل لاحق سميت بمحاكم الأسرة.
وامتدت خدمة العلمانيين إلى داخل الكنيسة إذ اسند اليهم مهمة عظة القداس، في وجود الكاهن (أسقف أو قمص أو قس) وكان الإكليروس يتفرغ لأداء القداس والصلوات والخدمات الطقسية، في استيعاب واع لما قال به القديس بولس الرسول في رسالته إلى رومية وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ، أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ، أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ، أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ، الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ…
، والأجيال القديمة ما زالت تتذكر أسماء الوعاظ؛ بانوب عبده، عياد عياد، فؤاد باسيلي، إسكندر حنا على سبيل المثال.
ربما بهذا كانت الكنيسة تترجم التكامل، إذ يتحمل الشمامسة، وهم علمانيون غير متفرغين أو مكرسين، مهمة الوعظ فيما يتفرغ الكاهن للمسئوليات الطقسية ويتفرغ الأسقف لمهمة للتدبير (إدارة إيبارشيته).
في السياق الكنسي؛ كانت الكنيسة تحتضن كل التيارات والتوجهات في توازن وتكامل، طالما كانت متسقة مع رسالة الكنيسة، ولم تكن تفرق بين الإكليروس والعلمانيين، بل تعتبرهما جناحا الخدمة، ولم تكن تميز بين الخادم المكرس المتبتل وبين الخادم المتزوج وله أسرة، بل كانت حريصة على سلام المتبتلين النظاميين (الرهبان في أديرتهم)، تهيئ لهم أجواء الحفاظ على نذورهم، وتستعين بهم في خدمتها في أضيق الحدود، فتحمى كل الأطراف؛ الدير والراهب وشعب الكنيسة برؤية روحية عملية ثاقبة وواعية. إذ كان للدير خصوصيته ونظامه وانضباطه، وكان للكنيسة خارج الأديرة نظامها وخدمتها وكهنتها المشتبكين مع هموم ومشاكل واحتياجات الرعية، تأسيسًا على كونهم مختبرين حياة الأسرة وأطوارها.
تبلورت في هذه الحقبة توجهات العلمانيين (المدنيين) الأقباط في ثلاث محاور:
ــ محور الخدمة الكنسية الطقسية وتراتبيتها.
ــ محور التكريس سواء النظامي (الرهبنة) أو التكريس خارج الأديرة.
ــ محور العمل العام عبر الجمعيات والمؤسسات الخدمية.
كان التوازن يحكم العلاقة بينهم، وكانت الكنيسة تحصد منه سلامًا وبنيانًا وتكاملًا. على أن هذا التوازن ارتبك ولم يدم بفعل تحولات داخل الكنيسة وخارجها، وهو ما سنحاول تناوله في مقال تال.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨