المقال رقم 1 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

بحسب المنهج الأرثوذكسي للروحانية المسيحية ، فإن قراءتنا لإنجيل ربنا يسوع المسيح ” الله الذي ظهر في الجسد“ ، هي قراءة لسيرتنا الذاتية نحن ، من خلال قراءتنا لسيرة الرب نفسه ، لأن هدف تجسد إلهنا هو « كونوا قديسين لأني أنا قدوس » . فنحن نقرأ الإنجيل كل يوم ليَستَعلِن الرب لنا كيف تكون سيرتنا نحن بحسب ما سبق الرب وحققه لنا في أحداث سيرته هو متجسداً . بهذا المفهوم سنقرأ سيرة المسيح في الحدثين بالأصحاح الثاني من أنجيل يوحنا، ونبدأ بحضوره عرس قانا الجليل ، ثم تطهيره الهيكل .فنجد أن الرب في تعاملاته مع أمه القديسة مريم العذراء خلال حضور عرس قانا الجليل قد أستَعلَن لنا أساسيات في الإيمان المسيحي :

مِن الواضح أن المسيح لم يحضر العرس أصلاً بغرض أفتتاح إرساليته وإعلان لاهوته ليؤمن به تلاميذه من خلال معجزة خلق الخمر. بل كان أحد المدعووين مع أمه وتلاميذه . والسيدة العذراء كانت بين الضيوف عندما فرغ الخمر. وبدون مبادرة من أصحاب العرس تشفعت العذراء لهم عند أبنها ” ليس لهم خمر“ . وعلي الرغم من إستعفائه ، إلا أنها فاجأتنا بثقة وإيمان وحب ودالة عند الرب ، ربما قد تتعارض ظاهرياً مع حروف قوله / وصيته لها ” لم تأتي ساعتي بعد“. لكن موقف أمنا العذراء يتوافق تماماً مع روح قول الرب ومضمون الوصية ، أي خلاص الإنسان . لذلك قالت للخدام : « مهما قال لكم فافعلوه » . والعجيب أن الرب أستجاب لأمه رغم أن الوقت والساعة لم تحين بعد . هنا نري تطبيق عملي لتعليم الرب « السبت إنما جُعِلَ لأجل الإنسان ، لا الإنسان لأجل السبت » حيث رأينا الرب يُقدِّم الأنسان عن الوصية / السبت في تدبيره .

هذا يرتبط أيضاً بمبدأ مسيحي مهم . فالبرغم أن الخلاص هو مبادرة ونعمة من المسيح بالدرجة الأولي ، إلا أن الخلاص المسيحي لا يقتحم الإنسان بالسيف بل ينتظر قبول ورغبة وطلب الإنسان لخلاص المسيح بكونه الإله القادر علي الخلاص. هذا واضح في إلتجاء العذراء إلي الرب مع قولها للخدام “مهما قال لكم فأفعلوه“. وأمام أيمان والدته بألوهيته ولجاجتها ، إستجاب الرب لشفاعتها وبدأ أرساليته قبل الوقت : ” هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل ، وأظهر مجده، فآمن به تلاميذه“.

وقد يظن أحدٌ أن أهل هذا العرس كانوا محظوظين أن يكون الرب يسوع المسيح بينهم وأمه وتلاميذه ” كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك . ودُعِيَ أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس “ . نقول .. نعم ، جيدٌ للإنسان أن يختار هؤلاء صحابته . فيدعو ربنا يسوع المسيح وأمه والقديسين علي الدوام ليكونوا صحابته ورفقته ، ليس في الضيق فقط ، بل وفي الفرح أيضاً. نقول أن يطلب في وقت الضيق ليس فقط بإسم الرب ” كل من يدعو بإسم الرب يَخلُص“ بل أيضاً يطلب شفاعة القديسين والملائكة وعلي رأسهم أم يسوع المسيح ليكونوا صحابته . لأنه ليس هناك تناقض بين شفاعة القديسين وبين أيماننا بأن المسيح الإله لا يحتاج لشفاعة أحد في تدبيره لحياتنا وخلاصنا .
إن أساس هذا المنهج هو في أصله ، الذي هو حياة الشركة بين الأقانيم الثلاثة في طبيعة إلهنا الواحد القدوس ، حيث نري أن كل أعمال الله الواحد أشترك فيها كل أشخاص / أقانيم الثالوث . هذا هو أساس حياة الشركة والحب في طبيعة الله الواحد . فلا عجب أن نري إنعكاس طبيعة الله في علاقته بالإنسان الذي أحبه وخلقه . فإلهنا – سبحانه – يُشرِك أحباءه في عمله وتدبيره . فقد رأيناه يناقش أبراهيم أبو الآباء من جهة . و نعرف أن أم يسوع والملائكة والقديسين هم أحباء الله الثالوث ولهم مكانة وشفاعة عنده .

ومن جهة أخري ، نقول إنه جيدٌ أيضاً للإنسان أن يكون القديسين والملائكة وعلي رأسهم العذراء أم الرب ، هم الصحبة و الرفقة في وقت الفرح أيضاً . لأنه ليس هناك تناقض بين أيماننا المسيحي وبين حياتنا الإجتماعية علي الأرض بما فيها مِن أفراح أيضاً. فقد رأينا كيف أن قدسية المسيح والعذراء أمه لم تتعارض مع شرب الخمر . ولكن في نفس الوقت رأينا كيف كان ” نذيراً للرب “ متقشفا يعيش في نسك بالبرية لايشرب خمراً . هذا نجده أيضاً في معظم مناهج الرهبنة الارثوذكسية التي قد تتمايز عن بعضها من جهة شرب النبيذ . فهو مسموح به في بعض الرهبانيات إلي الآن . بل ونقرأ عنه في تاريخ الرهبنة القبطية ذاتها.

ملخص الكلام أن النسك المسيحي في مفهومه السليم – ومن مظاهره عدم شرب الخمر – ليس مُنشِئ لقداسة بل ربما كاشفٌ لها . بمعني أنه نتيجة سمو القامة الروحية عند بعض مجتمعات النسك المسيحي التي تأسس منهجها علي عشق للرب حتي صار حبهم للمسيح هو الخمر الجيدة الحقيقية التي يسكرون بها روحياً

بل ويمكننا القول أن هذا العشق والحب الروحي – والذي هو مثيل للمفهوم المستيكي / السرائري لسفر نشيد الأنشاد – نقول أنه الأصل لمِا تَمَثَّل خمراً مادياً صنعها الإنسان ، فيشربها لتعطيه فرحاً . ولكنه فرح مؤقت لأنه نتاج خمر مصطنعة من كرمة ليست هي ” الكرمة الحقيقية ” التي هي المسيح رب الحب والفرح الحقيقي. و في اعتقادي، أن تجسيدها كان هو تلك الماء المتحول خمراً في عرس قانا الجليل ، بدليل أنها عادت بالوعي للحضور في عرس قانا الجليل بينما المفروض أنهم قد ثملوا بسبب أستهلاك وشرب كل الخمر الرديئة حتي فرغت. 
لذلك اقول إن النسك وعدم شرب الخمر هو نتاج حياة شركة مع المسيح ، ملؤها حب وفرح وعشق لشخص الرب ” الكرمة الحقيقية ” فتذهب خمرها بوعي النساك بعيداً عن سواه كما هو مكتوب ” لأن محبة المسيح تحصرنا “ .

والسُبح لله ( يُتبع)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثاني (٢)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثاني (١) 1
[ + مقالات ]