قبل هذا التصاعد المتسارع في التواصل الاجتماعي، كان اكتشاف الغباء محصورًا في دائرة الأمهات. الأم فقط من كانت تعرف أن “المحروس” غبي. الآن، أصبحت حالة “المحروس” معلنة وعلى رؤوس الأشهاد بمجرد أن ينشر شيئًا، باستثناء ربما عند من يشاركونه نفس الظرف.
يحاول المرء أن ينجو بنفسه وينأى عن “المحروسين” قدر طاقته، مع “رقة” جدران أعضاء جسده التي نال منها التعرض لمحروسين آخرين سابقًا، فأصبحت مرشحة للانفجار في لحظة غير متوقعة، مع قراءة أيّ مكتوب لأحدهم.
الإشكالية هنا أن المحروسين كثر، أكثر بكثير مما تتوقع، وليس هذا توقعًا أو استشرافًا، بل دراسة علمية بديعة عن “الغباء البشري” أعدها البروفيسور “كارلو شيبولا”، أستاذ تاريخ الاقتصاد في إحدى جامعات الولايات المتحدة المرموقة. يخبرنا “شيبولا” أنهم مع كثرتهم غير المتوقعة فهم متواجدون في كل الطبقات والمهن والأجناس، لا فضل لواحدة عن أخرى. سيتواجدون في أرقى منتدى اقتصادي، بنفس النسبة التي يتواجدون بها في ورشة نجارة في قرية بكفر الشيخ، وعليه فإن المرء واقع في براثنهم حتمًا، وسيكون من المبالغة أن يشكو من وجودهم، فالأمر واقع، وعليه أن يتعايش معه ويحمي أعضاءه.
الخطورة الحقيقية أن يتصدّر الأغبياء المشهد، ويعتلوا المنابر، فيعلنوا أنفسهم معلمين للشعب وناطقين باسمه، وموجهين لرأيه. والخطورة هنا لا تتوقف عند الفرد وأعضائه، بل إنها تمتد فعليًا إلى المجتمع ووعيه بل ووجوده ذاته. وهنا أستند إلى رأي “شيبولا” الذي يحذرنا من أن “الغبي” هو الكائن الأخطر بلا منازع.
منذ عدة سنوات أنقذت العناية الإلهية أعضاءنا، وربما أعضاء الذكور على وجه الخصوص، من برنامج كان يبث على فضائية قبطية وكان شديد الخطورة عليهم. وتم إلغاء البرنامج في خطوة تستحق الامتنان العميق لصاحب القرار. إلا أن ما يثير الريبة هو وجود قناة قبطية تبث من خارج مصر لا تنقل إلا ما اقتصر على الغباء. غباء متنوع وعلى جميع الألوان والأشكال والقياسات، وهو ما يخل بجسامة النسبة الطبيعية لتواجد الغباء في واقع ما. وبدون إمعان في التفكير، ستصل إلى أن من يدير الأمر هم أذكياء يوظفون الغباء لغرض ما. ولست حصيفًا بما يكفي لأكتشف هذا الغرض، فأحيل الأمر برمته إلى من هم أكثر حصافة، وأكتفي بالإشارة إلى أن هناك شيئًا ما عفنًا هناك.
الغبي -حسب شيبولا- هو شخص يتسبب للآخرين بخسائر دون أن يستفيد هو بشيء، بل غالبًا يكون هو أيضًا من زمرة الخاسرين.
لن ينطبق هذا التوصيف بأفضل من انطباقه على “بوست” نشره أحدهم، سأنقله هنا بكلماته:
لم تكن خطورة هرطقة أوطاخي في مضمونها بقدر ما كانت متلونه كالحية القديمة.. كان راهبًا ورئيس دير.. بل كان أيضا يكتب مدافعًا ضد نسطور.. فظهر أولًا كمدافعًا أمينًا!!! حاول الآباء القديسين نصحه مرارًا وتكرارًا إلا أنه استمر في ضلالاته..
كان أوطاخي مراوغًا تظهر كتاباته فيما يظهر تعليمًا سليمًا.. وفي باطنها هرطقات دنسة..
عندما دعي للمحاكمة كان كالزئبق ينسلت من محاوريه.. ويقول الجمل ذات عشرات المعاني..
ربما سبب تعلق البعض به هو اعتقادهم أن لما يكتبه هو عمقًا وثقافًة وفكرًا منفتحًا..
الأرثوذكسية الحقه هي تعليم واضح وصريح ليس تلاعبًا لفظيًا ولا هو غموض في المعنى.
يُثير كاتب “البوست” هنا الكثير من إعجابي، فهذا النوع من الغباء العريق يستحق الإعجاب والاندهاش: كيف استطاع الاستئثار بشخص واحد هكذا؟
الفقرة مريبة حقًا، دع عنك أنه لا شيء بها صحيح على الإطلاق. فأوطاخي لم يكتب شيئًا على الإطلاق، لا مدافعًا عن نسطور ولا مراوغًا، لم يكتب شيئًا على الإطلاق سوى إعلان إيمان رفض المتآمرون في مجمع القسطنطينية المكاني الذي يسميه كاتب البوست “محاكمته” قراءته.
ما أثار حنقي فعلاً هي هذه الجملة: حاول الآباء القديسون نصحه مرارًا وتكرارًا، إلا أنه استمر في ضلالاته.
هلا أخبرنا الجهبذ الأريب، العالم ببواطن الأمور وظواهرها، مَن مِن الآباء القديسين قد نصح هذا المارق الزنيم؟
لم يقرأ كاتب البوست شيئًا عن “أوطاخي” على الإطلاق، لكنه يتصدى للكتابة عنه، لماذا؟
حتى يطعن القديس ديسقوروس في شرفه المسيحي، بل وشرف الإسكندرية بكامله، فيطيح بمجمع أفسس الثاني الذي يجب أن يعاد إليه الاعتبار، بل ويسبغ المشروعية على قرارات خلقيدونية.
هل رأيت يا عزيزي القارئ غباءً أجمل من هذا؟ أليس مثيرًا للإعجاب حقًا؟
يقول صديقي: شعب بلا نخبة، هو شعب أعمى.
رغم كل التخريب الذي أحدثه “شنودة الثالث” في مجتمعنا وكنيستنا، حتى أنه لم يترك حجرًا على حجر فيها، فلعل أخطر ما فعله هو القضاء التام والمبرم على نخبتنا الفكرية.
لم يكتفِ فقط بقتل النخبة التي عاصرها، بل أخصى الشعب نفسه وعقّمه عن ولادة “نخبة”.
فعم الغباء وتُركت الساحة لهؤلاء يقذفون بهراءهم في عقول الأقباط.
نظرة سريعة حولك، ولن تحتاج إلى جهد حتى ترى كم الغباء الذي يحيط بنا، بدءًا من “مجمعهم” وصولًا إلى أي خادم في أصغر قرية.
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- الجهل المقدس صار أسقفا! “كلامي هنا يدور حول الدين الاستحماري، الدين المضلل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين، لديهم إجازات للاكتساب وفيها علامات خاصة تنبأ عن احتفاظهم بالدين وأنهم من الدّعاة، ولكنهم من شركاء الاثنين: المال والقوة ” (علي شريعتي، كتاب: النباهة والاستحمار) “هذا الأسقف” لم يحصل على أي شهادة......