أربع كراسي رئيسية شكلت مسيحية الأجداد؛ أورشليم، أنطاكيا، الإسكندرية، وروما، من بين هذه المدن، برزت روما تدريجيًا بسبب مكانتها كعاصمة للإمبراطورية الرومانية، التي كانت القوة المحتلة للعالم المسيحي كله، ومع ذلك، فإن مكانة روما المتميزة لم تكن قائمة في البداية على كونها مركزًا للقديس بطرس، كما يُعتقد، لو كان هذا هو الحال، لكان من المنطقي أن تكون أنطاكية هي المركز المسيحي الرئيسي، حيث أسس بطرس الكنيسة هناك، وحيث دعينا مسيحيين ابتداءًا.
ثم انقسمت الامبراطورية إلى جزأين غربي وشرقي. أصبحت روما عاصمة الجزء الغربي (اللاتيني)، بينما أصبحت القسطنطينية عاصمة الجزء الشرقي (اليوناني)
وتحولت القسطنطينية من قرية صيادين صغيرة الى عاصمة للامبراطورية الشرقية في نهاية القرن الرابع، وكان لزاما اعادة صياغة العلاقات المسكونية، واقتطاع النفوذ لصالح كرسي “الامبراطورية” خصما من الكراسي المتواجدة فعلا، فنفوذ اسقفها مستمد من مكانة الامبراطور نفسه
وربما كان أحد أسباب عقد مجمع خلقيدونية الرئيسة هو انتزاع اعتراف يساوي بين القسطنطينية وروما
كانت الإسكندرية مركزًا مبكرًا للفكر المسيحي، بمدرستها اللاهوتية ذائعة الصيت، في حين لعبت أنطاكيا دور المورد لكل الهرطقات التي مرت على الكنيسة الشرقية في عصورها المبكرة، حتي آريوس، والذي يصنف كقس سكندري، تلقي تعليمه على يد معلمين أنطاكيين، وكان لزاما والحالة هكذا أن تتعدد الصراعات بين المدرستين، وأن تتحول بعض الصراعات إلى مجامع مسكونية.
لم يعدم الغرب الهرطقات بالطبع، كالبيلاجية مثلًا، ولكن هذه الهرطقات كانت شأنًا داخليًا “لاتينيًا” دون تأثير يذكر على الكنيسة الجامعة.
في الشرق، كانت أورشليم تميل إلى الإسكندرية لاهوتيًا، في حين مال معظم الشرق نحو أنطاكية. والاستثناء الأكبر كان الآباء الكبادوك والقديس ذهبي الفم.
بينما كانت روما تتفق مع التعليم السكندري بتمامه، وكان البادي أنّ ما صدر من إحداهما وكأنه صدر من الأخري، حتي أتي البابا لاون على عرش روما بحسابات مختلفة.
حتي نيقية؛ كانت مواجهة الهرطقات هي شأن ديني بحت، يتولى تفنيده ومواجهته ودحضه اللاهوتيين والفلاسفة (ولعل المثال الأكبر هو العظيم أوريجينوس)، وبقى الأمر شأنا دينيًا.
بعد نيقية، وبعد اعتناق الحكام وبلاطهم المسيحية، أصبحت “الاضطرابات الفكرية” شأنًا إمبراطوريًا، تقاس خطورته بمدى تأثيره على الامبراطورية، ويتم مواجهته بصورة إجرائية رسمية، وبأدوات إكليروسية، وأصبح للبلاط الإمبراطوري الدور الأكبر في توجيه الأحداث.
بعد أن أصبحت المسيحية “دينًا ودولة” في نيقية، شاب المؤسسة الكنسية على كل المستويات ضعف بالغ. فبعد كل المصاعب التي واجهها أباؤنا الرسل والرسوليون ومن تلاهم من الأساقفة من تحديات خارجية واضطهادات من السلطة الزمنية، والأديان الأخرى، أصبحت الحظوة الدينية والسياسية هي مطلب جميع الإكليروس وسعيهم الدائم. فتحولت التحديات والصراعات إلى الداخل، داخل حدود المؤسسة الكنسية نفسها. أفلت البعض من هذا الشرك ولا شك، لكن كانت هذه هي السمة الغالبة.
أيضًا لم يعدم نمط “التدين” المسيحي لكل منطقة جغرافية التأثر بالموروثات الإنسانية المميزة لهذه المنطقة. كمثال، نحن نعلم عن المجمع الأول الذي عقد بأورشليم بسبب تأثر “نمط” التدين باليهودية.
في الشرق ونظرا لتمرسهم على شئون الأديان والعبادات، أسبغت مسيحيتهم بطابع “روحاني” مميز، على عكس الغربيين الذين كان صراعهم الدائم مع الطبيعة وقسوتها كافيًا ليكون نمطهم المسيحي مغلفًا بالحساب والعقلانية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟