مع اقتراب عيد نياحة واستشهاد الأنبا إبيفانيوس قارورة الطيب التي لم يشعر بوجودها الكثيرين (واعترف أني من هؤلاء الكثيرين) التي انكسرت ففاحت رائحة الطيب منها، وملأت أرجاء المسكونة كلها. لا يسعنا إلا أن نستعيد ذكريات هامة جدا عن هذه الشخصية المميزة جدا، وأحد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في تاريخ الكنيسة القبطية المعاصر بلا جدال.
• لكل إنسان نصيب من اسمه، والبداية تبدأ مع الاسم، وهذا كان واضحًا جدا في المتنيح الأنبا إبيفانيوس الذي يعني اسمه الظهور الإلهي (من الإبيفانيا) أو الأنوار وقد كان فعلا هذا الرجل نورا وسط ظلام شديد يسود العالم، كان وكأنه ظهورًا للإله وسط الشعب الجالس في الظلمة، حيث لم يتعامل معه شخص بنية صافية إلا وشهد بوجود الله فيه، بل والتقى وتعامل مع الله من خلاله.
• وإذ نمر مرورًا سريعًا لنقترب من هذا النموذج المسيحي الفريد، لابد أن نتوقف عند رهبنته حيث كان راهبًا بكل ما تعنيه الكلمة، بدءًا من حياته الرهبانية البسيطة في القلايّة التي لا تختلف أبدا عما عاشه الآباء في القرون الأولى للرهبنة من فقر اختياري، حتى أن سكرتير البابا لم يستطع تمالك نفسه عندما دخل قلايته ولم يجد حتى مرتبة على الأرض وإنما سجادة فقط! وكرسي واحد فقط! وهذا ما يؤكد على أن هذا الرجل عاش الرهبنة التي أحبها واختارها بعمق وأمانة إلى آخر أيام حياته.
• الأسقفية التي أعادها إلى سموها وقيمتها بعد أن أفرغها من الميطانيات والألحان الخاصة بها والسجود وغيره (ولسنا هنا بصدد الحديث عن صحة هذه الممارسات من عدمها) وإنما عن إعلاء قيمة الأبوة على السيادة في الأسقفية، مما جعله شخص محبوب جدا لكل من اقترب منه (بدون غرض شخصي) واستطاع أن يترك بصمة هادئة مريحة على كل من تواصل معه.
• الحوارات والتعاليم اللاهوتية التي قدمها نيافة المتنيح في كلمات شديدة البساطة، بالرغم من علمه الغزير وثقافته وتعدد اللغات التي كان يتقنها، إلا أن المتابع لعظاته يجدها تصلح حتى لفتيان وفتيات مدارس الأحد، لأنها تقدم الإيمان المسلّم من الآباء ولكن من خلال حضور السيد المسيح ذاته في كلماته المفهومة، والتي تصل إلى أمل الإنسان وتخترقه دون الحاجة لفلسفات وتعقيدات لا داعي لها.
• إذا كان هناك ما يؤخذ على المتنيح الأنبا إبيفانيوس، فكانت طيبته الزائدة وتسامحه الذي قد نختلف على مدى صحته، خاصة بعد توليه قيادة دير بحجم دير الأنبا مقار، وما يحويه من اختلافات في التوجهات بين الرهبان القدامى الذين تربوا بمنهج نسكي ورهباني معروف، وبين الدفعات التي أدخلت الدير لاحقا بمنهج مخالف، في محاولة لاستعادة الدير ليشبه باقي أديرة الكنيسة، وهو الخطأ بل والخطر الكبير الذي لا يزال محدقًا بهذا الدير حتى الآن. فالتعامل بمنهج الميل الثاني واحتمال الإهانات من الراهب القاتل ومجموعته، لم يكن أبدا في صالح الدير ولا صالح الراهب المشلوح نفسه، ولكننا لا نعلم إذا كان باستطاعة المغدور الأنبا إبيفانيوس أن يتعامل بشدة أكثر من ذلك أم لا، ولكن يد الغدر سبقت وأنهت حياته.
• قد تكون جريمة قتل الأنبا إبيفانيوس هي بلا شك أسوأ حدث معروف للكنيسة القبطية منذ عقود، ولكن لا خلاف على أن نياحته بهذا الشكل قد كشفت أمورا كثيرة داخل الكنيسة كانت ولابد أن تنكشف تحقيقًا لكلمات السيد المسيح أنه ليس خفىّ إلا ويعلن، وذلك بلا جدال لتطهير الكنيسة من الشوائب التي تسللت داخلها، وما زالت تتطهر، وقد تحتاج سنوات طويلة قادمة ليعود ثوب الرهبنة طاهرًا من أدناس المال، والعلاقات، وتعظم المعيشة، وتنقي الأسقفية من التحزب، والنظر إلى الذات، وكراهية الأخ، وانغلاق الذهن، حتى يتم إغلاق مجالس الهرطقة التي انفتحت دون سند أو مرجع آبائي أو لاهوتي حقيقي وإنما مع أي خلاف في وجهات النظر.
• وأخيرًا، وكلما تحدثنا عن هذا الحدث الجلل لابد أن نتذكر ونمدح الموقف العظيم الذي يحسب للبابا تواضروس الذي رفض التدليس على الجريمة، وأصر أن تأخذ العدالة مجراها، وأن نعرف جميعا من هم القتلة وراء هذه الجريمة، ولولا موقفه هذا لربما كانت قد تكررت هذه الحادثة مرات ومرات في أديرة وإيبارشيات أخرى.
نياحا لروح البار الأنبا إبيفانيوس، الذي أنارت حياته وتعاليمه وكتاباته وترجماته المقدسة عقولنا وعيون قلوبنا، وليقبل المسيح روحه الطاهرة ذبيحة تطهير عن كنيسته المقدسة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟