نستكمل الجزء الثاني من الموضوع ونبدأ بالآية (رومية 8: 11) لأنها تلخص شرح المقال الأول:

وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ

(رسالة بولس إلى رومية 8: 11)

شرحنا في المقال الأول أن استعبد طبيعة الإنسان بسلطان موت الخطية وأن المسيح الحياة دخل كيان الإنسان بالتجسد فطرد الموت خارجًا. فتجددت الطبيعة البشرية بالانتقال من العبودية للشيطان في الموت، إلى حرية أبناء الله بالحياة في المسيح. وتفاصيل هذا الشرح نوجزه بالقول: إن المسيح له المجد عندما تجسد، لبس جسد بعد السقوط، لذلك واجه الموت المُمسِك بجسد آدم الذي انفصل بالخطية عن حياة الله، بالتالي فإن المسيح ذاق/ جاز/ تمَّمَ الموت بالجسد لأجلنا.

ولأن المسيح هو الحياة وأصلها، لذلك طرد الموت من الجسد وأقامه من بين الأموات -ونحن فيه- بطبيعة إنسانية جديدة تأسست أول ما تأسست في ناسوت المسيح الخاص به. ثم وهبها على سبيل النعمة المجانية لكل من يؤمن به و يعتمد.

فالمسيح لحظة الحبل به في بطن العذراء، ونتيجة اتحاد لاهوته الحي والمُحيِي بالناسوت، فقد داس موت الخليقة العتيقة التي يلبسها الإنسان بالولادة من بشرية آدم الأول (كما في بشرية العذراء بالضرورة). وبموت الصليب والقبر، خلَع المسيح الخليقة العتيقة كاملًا، وقام في خليقة جديدة للإنسان الجديد هي جسد القيامة خلُّوًا من الخليقة العتيقة:

لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ

(رسالة بولس إلى كورنثوس الثانية 5: 1)

ونحن -بالإيمان والمعمودية- نلبس تلك الخليقة الجديدة للإنسان الجديد فوق الخليقة العتيقة التي لبسناها بالولادة من آدم الأول:

فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ

(رسالة بولس إلى كورنثوس الثانية 5: 2- 4)

ولابد أن تموت الخليقة العتيقة بموت القبر ثم نخلعها في اليوم الأخير عند القيامة العامة للأموات حيث نقوم بجسد نوراني وطبيعة بشرية جديدة هي جسد قيامة المسيح.

فالكنيسة الأرثوذكسية في الشرق المسيحي تؤمن بوراثة البشر ”موت الخطية“ أي الموت الذي تسبب من خطية آدم. بالتالي فإن الخلاص المسيحي في الإيمان الأرثوذكسي هو أساسًا غلبة على الموت وانتصار للحياة في المسيح، وأن غفران الخطايا هو نتيجة لهدم سلطان الموت:

والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيي الذي لابنك الوحيد يسوع المسيح ربنا

(صلاة القداس الباسيلي)

لقد أكتمل خلاص الإنسان في بشرية المسيح كباكورة للبشرية كلها، وتتحقق فينا منذ الآن ”بالقيامة الأولى“ (سفر الرؤيا 20: 5-6) من ”موت الخطية“ وسلطان الشيطان ”الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون“ (إنجيل يوحنا 5: 25).
ثم ”بالقيامة الثانية“ في اليوم الأخير بخلع الإنسان العتيق ”لا تتعجبوا من هذا، فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة“ (إنجيل يوحنا 5: 28، 29).

لقد ظنَّ الشيطان أنه القوي بسلطان ”الشر المُلبِس الموت“ (القداس)، لكن ”الله محبة“ وحبه مُلِبسٌ للحياة، لذلك فإن ”المحبة قوية كالموت“ (سفر نشيد الأنشاد 8: 6)

هذا الشرح أعلاه هو مضمون عدد 11 الذي بدأنا به المقال ”وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم“.

ثم نأتي إلى شرح عدد 16، 17

اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ

(رسالة بولس إلى رومية 8: 16، 17)

لقد شرحنا العددين في المقال السابق ونضيف ما يلي:

الله وحده هو القدوس وليس غيره. وهو سبحانه يعطي القداسة نعمة مجانية كما الميراث هو نعمة مجانية. فالمسيح أورثنا قداسته من خلال شركة التجسد ”من أجلهم أُقدِّس أنا ذاتي“. المسيح وهبنا فيه لله أبيه، فجعلنا ورثة لقداسة الله فيه ”فإن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضًا”.

ولأننا أولاد آدم الأول بالميلاد الجسدي فقد لبسنا جسده. وورثنا منه موت الخطية الذي دخل طبيعته بالسقوط. ولأن المسيح صار آدم الثاني عندما لبس جسدنا لذلك نحن ورَّثنا حياته عندما قام بجسدنا.

ونعود لتكملة شرح آية  التي بدأنا بها في المقال الأول بشرح هذا المقطع المتبقي من الآية:  ”فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد“، نقول إن الآية هي استعلان صريح عن دينونة المسيح للشيطان على الصليب عندما عُلِقَ عليه بالجسد.

ولشرح دينونة المسيح للشيطان وكيف تحققت بالتجسد والصليب نقول إن المسيح لم يكن ليجوز الموت بالجسد ”ذاق الموت“ لو لم يكن قد حمل خطية الإنسان في جسده -رغم قداسته- كما توضح عبارة ”في شبه جسد الخطية“. وقد تكرر هذا المعني في آيات أخرى من الكتاب:

لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ

(رسالة بولس إلى كورنثوس الثانية 5: 21)

– في (1 كورنثوس 6: 17) ”مَن إلتصق بالرب فهو روح واحد“ وينال من الرب التبرير (التطهير)، والبر (القداسة)، والحياة. و مَن التصق بالخطية صار خطية واستحق الموت ”من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول: «يكون الاثنان جسدا واحدا»“.

وبهذا فقد انتهي العصر الذي فيه كان الشيطان يصول ويجول بسلطان الخطية والموت يستعبد به الإنسان الخاطئ. فالمسيح ”الله الذي ظهر في الجسد“ فتح باب الخلاص للإنسان بعدما ذاق موت الإنسان على الصليب، ومن ثمة دخلت الحياة إلى بشرية الإنسان. وإن غلبة حياة المسيح على موت الخطية في الإنسان فتح باب التوبة للإنسان إلى الأبد وأغلق الباب أمام شكاية الشيطان ضد الإنسان بدعوى أنه خاطئ مستحق الموت. بالتالي فَقَدَ الشيطان أي سلطان على الإنسان.
وعن ذلك قال المسيح ربنا:  “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شئ“ (إنجيل يوحنا 14: 30). فهذه هي دينونة المسيح للشيطان في أي شكاية له ضدنا.

فالمسيح أسقط كل دعوى وشكاية للشيطان ضد الإنسان إذا وقع في خطية . وعن هذا قال المسيح أيضًا: ”أن رئيس هذا العالم قد دين“ (إنجيل يوحنا 16: 11) وهذا ما أكده الكتاب هنا في (رومية8: 3) بأن المسيح ”دان الخطية في الجسد“.

وتأسيسًا على ما سبق، فإذا تجرأ الشيطان وظنَّ أن له أي سلطان على الإنسان الواقع في الخطية كما كان الحال قبل تجسد المسيح، وأن الإنسان لا يستطيع أن يتحرر من عبودية الشيطان وموت الخطية بالتوبة، فإن علامة الصليب مشهَرَة في وجه الشيطان بدينونة المسيح له وهي كفيلة أن تقهره. هذا هو الأساس والسلطان الذي عليه وبه نرى الآباء وكل مَن فيه روح المسيح ينتهرون الشيطان المتسلط على البشر فيغادره. هي موهبة المسيح لنا بالروح القدس لدينونة الشيطان.

وأما الذين لا يؤمنون بالمسيح ولم ينالوا الروح القدس بَعد، فإن الروح القدس يظل يبكتهم إلى أن يرجعوا ويقبلوا نعمة الإيمان بالمسيح وسلطان الروح القدس لدينونة الشيطان.

هذا ما صرح به الرب يسوع المسيح له كل المجد: ”متى جاء ذاك (الروح القدس) يبكِّت العالم علي دينونة، لأن رئيس هذا العالم قد دِين“.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

المسيح دان الخطية في الجسد [٢] 1