القديس أوغسطينوس، أسقف هيبو، كتب “مدينة الله” ما بين عاميّ 413-426م في فترة ضعف روما، واستقبالها هجمات شرسه من الجرمان، الذين بالفعل دخلوا روما ونهبوها سنة 410م.
السؤال المطروح أمام أوغسطينوس هو؛ كيف يستطيع المسيحي ممارسة العُنف دون أن يستلزم ذلك كسره لمسيحيته؟ كيف يقدر أن يحمل السلاح ويحارب مع إطاعة: “أحبوا أعدائكم”؟
لكي يتمكن أوغسطينوس من ذلك، قام بعمل مجموعة من التمييزات المُهمة. مثلًا إن المسيحي لا يستقيم مع حب الحرب، ولكنه يحارب لو اضطرته الضرورة. لذلك، يُشرط إنه ﻻ يحب الحرب ولا يطلبها. الأمر الذي اختصره القرآن بعدها بقرنين: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
[1]
ولكي يشرح أوغسطين فكره توافق حدوث الحرب مع رغبة المسيحي في السلام، حدد ثلاث معايير للحرب العادلة: (1) المشروعية، (2) الدافع، (3) الضرورة.
المشروعية: تعني إن الحرب لا تُعلن إلا بشكل شرعي، وليس قرارًا يأخذه فرد أو مجموعه من تلقاء أنفسهم. ويضرب مثالًا بموقف المسيح من بطرس عندما رفع سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة. المسيح منعه لأن بطرس لم يكن له مشروعية في أن يرفع السلاح بنفسه.
الدافع: معني بالفرق بين الحرب كضرورة، وكشهوة،
الضرورة: تعني أن تكون الحل الأخير والوحيد.
في مثاله لفكرة المشروعية، يناقش أوغسطينوس أمر الله لإبراهيم بذبح اسحق. يقول أوغسطينوس أن الموقف هنا يحتوي على ٣ مكونات، الفِعل [الذبح] والفاعِل [النبيّ] والسُلطة التي تشرَّع أو تجرَّم الفِعل [الله].
الفعل نفسه بدون السلطة الدينية كان سيبدو ضربًا من الجنون؛ شخص يقدم ابنه ذبيحة!!
لكن الفاعل [النبيّ إبراهيم] أقدم على الفعل [تقديم ابنه كذبيحة] عندما جاءه أمر إلهي. حوِّل [الإلهي] الفعل الشنيع إلى أمر مقبول أخلاقيًا حتى ولو لم يكُن مقبول عاطفيًا [2].
وبالتالي تعريف الأخلاق هنا ليس ما تُجيزه العاطفة، لأنه من المؤكد أن إبراهيم لم يكن سعيدًا وهو يقدم ابنه ذبيحه لله، ولكن الأخلاقي هو ما تُشرِّعه السُلطة العُليا.
وهنا نصطدم بنقطه مهمه؛ ما الفارق بين منطق أوغسطينوس ومنطق الجماعات الإرهابية عندما تعلن أن فلان يستوجب القتل بالأمر الإلهي؟ ﻻ فارق، المبدأ هو بعينه، لكن فكرة أن هناك سُلطه عُليا تُجيز ما لا يُجيزه الحس الإنساني، سيتبعها بالضرورة أنّ الحس الإنساني نفسه متفاوت وليس به قواعد مُطلقة ولا تعريفات كامله للأخلاق. كل هذا قول صحيح، ولذلك فهي معضلة؛ لم ينجح أحد في حلها، لا أوغسطين وﻻ خصومه.
نأتي لمسألة الرغبة. بحسب أوغسطينوس فمن المفترض أن الرغبة الأولى للمسيحي هي السلام، وأي حرب هي بهدف السلام بالأساس. لكنه يقول فقرة [3] تجعل من هذه الفكرة معضلة جديدة:
… بالفعل، حتى حينما يختار الناس أن يشنوا حربًا لا يرغبون في شيء سوى الانتصار. من خلال الحرب إذًا يرغبون في تحقيق السلام بمجدٍ، فما هو الانتصار إلا إخضاع من يقاوموننا؟ وحين يحدث هذا يكون السلام. الحروب نفسها تشن بغيّة السلام، حتى حين يشنها هؤلاء المعنيين بممارسة قدراتهم الفائقة في القيادة والحرب. لذا، فالسلام هو غاية الحرب؛ لأن كل إنسانٍ يسعى السلام حتى حينما يشن حربًا، بينما لا أحد يسعى للحرب بالسلام. بالفعل حتى هؤلاء الذين يرغبون في قلقلة حالة السلام القائمة يفعلون هذا لا لكراهية السلام بل لرغبتهم في استبدال السلام القائم بسلام من اختيارهم هم. رغبتهم إذًا ليست أن يزول السلام، ولكن أن يتحقق السلام الذي يرجونه. وحين يفرزون أنفسهم عن الآخرين بالتمردِ، لا يمكنهم تحقيق مرادهم إلا بالتزامهم بنوع من السلام مع معاونيهم وحلفائهم. بالحقيقة حتى السُّرَّاق يرغبون في السلام مع رفقائهم، حتى وإن كان فقط لاقتحام سلام الآخرين بقوة وأمان. يمكن لأحد السُّراق أن يتعالى في القوة بلا مثيل، ولكونه مرتابًا في الآخرين لا يثق بمعاونيه، ولكنه يخطط لجرائمه ويرتكب سرقاته ويقتل وحده. حتى هو -بالرغم من ذلك- يُبقي على ظل السلام، على الأقل مع من لا يستطيع قتلهم، ومع الذين يرغب أن يُخفي أعماله عنهم. أيضًا يُعاني لإبقاء السلام في بيته، مع زوجته وأولاده وكل من هم له هناك. … كل البشر إذًا يرغبون في السلام مع خاصتهم، الذين يرغبونهم أن يعيشوا بحسب مشيئتهم. لأنهم يريدون أن يجعلوا حتى هؤلاء الذين يشنون الحروب عليهم من ضمن خاصتهم إن استطاعوا، وأن يخضعوهم بتطبيق قوانين السلام الخاصة بهم عليهم.(أوغسطينوس، مدينة الله، الكتاب ١٩، الفصل ١٢)
المُشكلة هنا إن أوغسطينوس وضع المبدأ، ثم عندما قام بشرحه اتضح أنه مبدأ مطاط لدرجة الرماديّة.
المفترض أن الإنسان يطلب السلام، لكن حينما نفكر في معنى السلام نجد أن أوغسطينوس يقول حتى الطُغاة والسُّراق يحاولون تحقيق السلام بمنظورهم هم. وهو اعتراف ضمني أن السلام عندك غير السلام عندي غير السلام عند هتلر! وهكذا يكون مفهوم السلام يتحول لمفهوم للحرب بهدف إخضاع الكل إلى أن يزول كل من نحاربهم، وما الطغيان المُطلق إلا هكذا!
نأتي للمعيار الثالث في معايير أوغسطينوس؛ وهو معيار الضَّرورة. وكما المعياران اللذان سبقاه، فهذا المعيار أيضًا مطاط ونسبي جدًا.
عند البعض، وجود شخص يدعو لفكر مُختلف عقيديًا، هو في حد ذاته أذى،
وبالتالي، هذا الأذى يجب وقفه،
ولو لم يتم إيقاف هذا الأذى سلميّا، فهذا في حد ذاته ضرورة للحرب،
بل وضرورة مُشرَّعة أيضًا.
إذن الضروري عندك غير الضروري عندي غير الضروري عند هتلر! ولو جاء من ينظَّر لضرورة الحرب على المُخالف في الاعتقاد وكان عنده تشريع ديني بالعُنف [وهذا يعبر به معيار المشروعية]، وكان هدفه إنه يُعيد السلام بإرساء اعتقاده لوحده [وهذا يعبر معيار الغاية أو الدافع]، وكان هدفه ﻻ يتحقق بالخطاب [وهذا يعبر معيار الضرورة] إذن فبمعايير أوغسطينوس كيف يمكن إيقافه؟
وبالتالي، بالرغم من أن أوغسطينوس حاول أن ينظّر بشكل مرتب لعلاقة المسيحي بالعنف، إلا أنه لم يستطع حل إشكالية سيولة المعاني. وعلى هذا، حتى المعايير التي وضعها أوغسطينوس واعتبرها معايير تتوافق مع المسيحية، هي نفسها معايير يمكن أن ينتج عنها راديكالية لا تختلف تمامًا عن أي راديكالية أخرى لها معتقد مختلف أو ليس لها كود أخلاقي من الأساس.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟