في الأناجيل الإزائية ويوحنا [1] نقرأ عن دخول المسيح للهيكل وطرد الباعة وقلب موائد الصيارفة. وربما يكون هذا الحدث هو أكثر المواقف عنفًا التي سُجّلت للمسيح في الأناجيل. طبيعة الحدث نفسه غريبة، لأن الهيكل كان أشبه بحامية يهودية-رومانية مشددة الحراسة باعتبارها من أكثر الأماكن المُتوقَع اضطرابها في حال قيام ثورة.
نبدأ مع مُلاحظة من جون دومينيك كروسان في كتاب Who Killed Jesus
، يقول فيها إن عيد الفصح هو تَذْكار خروج اليهود من مصر، وعلى هذا، فلو هناك مناسبة متوقَّع ثورة اليهود ضِد الاحتلال الروماني فيها، فستكون هذه المناسبة هي الأكثر اضطرابًا على الإطلاق.
يدعم ذلك المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتاب Jewish Antiquities
[2] حيث يسجّل ما حدث بين سنة 48 و52 ميلادية، في فترة ولاية فنتيديوس كومانوس على اليهودية، وأنّ جماعه من الجنود الرومان المُسلحين يتواجدون على سطح الهيكل بغرض الحراسة في الأعياد.
يذكر يوسيفوس واقعة أن واحد من الجنود أهان اليهود، فثاروا، وطلبوا من كومانوس أن يعاقبه، وجلبوا حجارة وقذفوها ناحية الجنود الرومان، ولأن كومانوس خشي أن يتحوّل الحدث إلى ثوره ضده طلب دعمًا عسكريًا، وجاءت القوّات الرومانية وحاصرت اليهود، ومن كثرة الفزع من عنف الرومان تدافعت الناس ومات بعض منهم دهسًا.
يقول يوسيفوس [3] إنّ في هذا اليوم مات 20000 شخص [وفي موقع آخر قال 30000]، بشكل يجعلنا نتيقن أن الهيكل مكان جاد ومشدد وﻻ مزاح فيه، وليس من الوارد الطبيعي أن يدخل أحد ويقلب الموائد ويطرد الناس ويخرج من هذا الموقف بأريحيّة. هذا بالإضافة إلى أن كل ما تكلما فيه عن الحرس الروماني، وليس حرس الهيكل اليهودي كما سنتعرّض بعد قليل. فما هو تحديدًا ما حدث يوم أن دخل المسيح الهيكل؟
سنة 1964 نشر فيكتور إبستين ورقة بحثية بعنوان: The Historicity of the Gospel Account of the Cleansing of the Temple
، يقول في بدايتها إن هناك صعوبة في فهم القصة تتعلق بأنّ موائد الصيارفة والباعة لم تكن للتكسُّب المادِّي، وإن وجودهم كان خدميّا وضروريًا لسير تقديم الذبائح [4].
يشرح إد باريش ساندرز هذه الفكرة [5] ويقول إن العمل التجاري الذي كان في الهيكل لم يكن تعدِّيًا على الهيكل، وأن العمل الذي يقدِّمه الصيارفة كان ضروريًا لقدوم الناس من أماكن بعيدة وحاجتهم لتغيير العُملات التي معهم إلى شواقِل [العُملة المُستخدمة في الهيكل بحسب الناموس] لكي يستطيعون شراء التقدمات والذبائح المزمع تقديمها في الهيكل، يأتي ذلك من عدم استطاعتهم حملها والسفر بها إلى الهيكل، خصوصًا أنه من الوارد بعد كل هذا أن يتم رفضها أو تصير غير لائقة للتقديم كذبيحة. وبناءًا على هذا الشرح، يفسَّر ساندرز الحدث على أنّه حدث نبويّ عن خراب الهيكل.
واحدة من مشاكل هذا التفسير أنّه لا يفسر انتهار المسيح للباعة والصيارفة، لكن عند ساندرز حل وجيه من الناحية التاريخية لن نتطرَّق له هنا. بالعودة لورقة إبستين البحثية، سنجد نقطة تكمّل كلام ساندرز وهي أنّ فرق السِّعر الذي كان يأخذه الصيارفة مُقابل تبديل العُملة لم يكن ربحيًّا ولكنه تعويض عن الاستهلاك الذي يحدث للعملات. وهذا التفسير ليس رأيه المهني الطوُّعي، ولكنه مبني على المشناة [6].
يقول إبستين إنه ليس من المُستعبد أن تكون القصة حدثت تاريخيًّا، ثم يبدأ في معالجة الفقرات في الأناجيل وتفاصيلها في مُقابل الأحداث المُعاصرة للمسيح وظروف زمانه. ويخلص للقول أنه بحسب المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كان يبدأ تجمّع الناس في أورشليم بأعداد غفيرة قبل الفصح بحوالي 20 يومًا، أي حوالي يوم 25 في شهر آذار.
نلاحظ في إنجيل مرقس 11: 11 أنّ المسيح دخل الهيكل مرة قبل تلك التي طرد فيها الباعة، ووقف يراقب كل شيئ حوله كأنها أول زيارة له للهيكل، يرى إبستين أن مع الأعداد الغفيرة التي تحجّ للهيكل [عند يوسيفوس عددهم 3 مليون، والمُبالغات في الأرقام وارده] من الصعب أن يكون المسيح لم يدخل الهيكل قبلها (خصوصًا أن لوقا 2: 41 يقول إن أبوي يسوع يأخذانه الهيكل “كل سنة” إلى أن وصل عمره 12 سنة).
بناءًا على ما سبق، يستنتج إبستين إن مشهد الصيارفة والباعة ليس غريب على المسيح، بل أمرًا عاديًا معتادًا يراه كل من ذهب قبلًا، وأن المسيح كان يعرف ضرورتهم لتتميم المُعاملات المصرفية داخل الهيكل. ويقول إنّ كاتب إنجيل مرقس لم يكن مطلعًا بشكل جيد على ممارسات الهيكل، على عكس كاتب إنجيل لوقا، الذي كانت معرفته أوسع، وعلى هذا لم يذكر موضوع موائد الصيارفة. وهنا نعود مجددًا للمُشكله الإزائية، فإن لم تكن قرأت عنها فرجاء قراءتها أولًا ثم استكمال القراءة هنا [7].
يعلق إبستين بعدها على النقطة السابقة وحراسة الهيكل. الهيكل كان يحرسه 3 كهنة و21 لاوي طوال اليوم، والمسؤول عن نوبة الحراسة كان يضرب كل من سقط في النوم، ويحرق ثيابه [8]، بالتالي حراسة الهيكل كانت مسألة شديدة الجدية. أيضًا كان هناك لاويين لحراسة كل بوابة من الخمس بوابات للهيكل، ولاويين للحراسة على الأطراف الأربعة للهيكل، والخمس بوابات الأساسية للساحات، وأربعة لاويين لأطراف كل ساحة، هذا غير الشباب المُمرنين الذين كانوا في كل شبر لدرجة النوم والإقامة في الهيكل طوال وقت الاحتفال وطرد أي مشاغب. وكل هذا بالطبع إضافة للحراسة الرومانية التي تكلم عنها كروسان!
السؤال الذي يسأله إبستين هنا: لماذا لم يُقبض على المسيح فورًا؟
إجابة هذا السؤال تختلف عند الدَّارسين، فمنهم [مثل يوليوس فلهاوزن، أو والتر جروندمان] من يقول إن الحدث حصل فعلًا ويفسر سبب عدم تدخُّل الرومان بأنّ عدد المُصاحبين للمسيح كان كبيرًا جدًا، وآخرين [9] يقولون إن الحدث حصل لكن على نطاق أضيق من الذي يصوره إنجيل مرقس وبشكل لم يستدع انتباه الرومان.
تضيف أديلا ياربرو كولينز [10] احتمال آخر وهو إن من الوارد تاريخيًا إن القبض على المسيح لم يحدث بمعزل عن حادثة الهيكل، وأنّ القصة التي قدمها إنجيل مرقس ليست دقيقة، وعلى هذا فهي تطرح احتمالية أنّ القبض على المسيح تم بسبب هذه الحادثة تحديدًا [وهذا نفس رأي كروسان] ولكنّه لم يكن قبضًا علنيًّا عليه وإنما تم بنوع من الخدعة [11].
الاستنتاج الأخير لإبستين، أنّ هذه الفقرات كما هي في الأناجيل لسرد حدث تاريخي فعلًا، ولكن يبدو أن الحدث التاريخي لم يكن بالضبط كما سردته الأناجيل لاعتبارات عديدة من ضمنها رد الفعل الذي كان يجب أن يحدث لو أنّ واحدَا دخل الهيكل وسحب كرباج وضرب الناس وقلّب الموائد وطرد الباعة.
الذي يستخلصه إبستين ومن بعده ساندرز وكولينز أنّ الحدث وارد جدًا أن يكون صغيرًا وسط الزحام، خصوصًا أنّ إبستين طرح أدلّة على زحام الهيكل لدرجة دهس الناس لبعضهم البعض، وعلى هذا يفترض إن لو قام أحد بذلك وسط التدافع فلربما لم يشعر به أحد.
أيضًا أولريش لوز في تفسيره لإنجيل متى يرى أنّ المبرر الوحيد لعدم تدخل حراس الهيكل سواء من اللاويين أو الرومان هو أنّ الحدث تم بشكل غير واضِح، أي أنه حدث صغير تم المبالغة في وصفه [12].
يبدو إذًا أنّ المسيح مارس نوعًا من العنف في الهيكل، لكن الأغلبية متفقة على أنّ العُنف هنا لم يكن سياسي بقدر ما هو فِعل نبوي، يعكس حكم الله على الهيكل.
من المهم أيضًا التوضيح أن هذا الحدث لا يحوي تشريعًا بممارسة العنف، حتى لو هو مارس العنف بنفسه في لحظه معيَّنة لكن لا نستطيع أن نستنتج من الموقف فِقهًا لممارسة العُنف، خصوصًا لتركز السياق وتوجيهه لممارسة معينة تحدث في الهيكل وليس عنفًا ضد الرومان مثلًا.
بطريقة أخرى، فهذا الموقف ﻻ يمكن رؤيته في ضوء مُقاومة الاستعمار، لكن هناك شيء ما استفز المسيح في الممارسة السائدة، وإن كان الباحثين مُختلفين في ماهيّة هذا الشيء بالضبط، أخذين في الاعتبار أنّ أغلب الممارسات كانت ضرورية لتتميم شراء الذبائح والتقدمات.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟