كان لزامًا على المسيحية أن تتبنَّى لغة الديانة الإمبراطورية، وأن تستخدم استعارات حربيَّه كثيرة، ولكن في الحالتين كانت تقدم بديلًا سِلميًا. ونستطيع القول أنّ تجنُّب العُنف وتأويل لُغة الحَرب إلى لغة روحية أو مُسالمه كان في ذهن كُتَّاب العهد الجديد باستثناء بعض النصوص من ضمنها سفر الرؤيا.
سنناقش في هذا المقال بعض الأمثلة التي تُشير للغة الإمبراطورية الرومانية، وكيف تم تعميدها أو صبغها بالصبغة المسيحية وتحويلها لأيديولوجيا تتجنَّب العُنف.
نبدأ مع إنجيل مرقس الذي مفتتحه عبارة: بدء إنجيل يسوع المسيح [إبن الله].
يعلق ريتشارد توماس فرانس [1] على كلمة εὐαγγέλιον [إنجيل] بأنها كلمه شائعه الاستخدام في العبادة الإمبراطورية للإشارة إلى ميلاد الإمبراطور وصعوده للحُكم وزياراته الملكية، ويذكُر أيضًا استخدام الكلمة في الترجمة السبعينية اليونانية كترجمة مُباشره للكلمة العبرية biśśar، والتي تعنى يبلَّغ أو يبشَّر بخبر مُفرِح.
في أواخر ستينات القرن التاسع عشر، تم اكتشاف نقش لأغسطس قيصر يسمى Calendar Inscription of Priene، يرجع لسنة 9 قبل الميلاد، ويقول إن ميلاد أغسطس قيصر هو بداية الأخبار السارة εὐαγγέλιον للعالم الذي خُلق لأجله [لأجل قيصر].
يشرح خواكيم جيريمياس [2] في الجُزء الأول من كتابه New Testament Theology الخَبَر السار الذي أتى به المسيح باعتباره دعوة للمُشاركة في ملكوت الله. ملكوت الله وليس مملكة قيصر، وهنا يُقف جيريمياس عند تعبير الملكوت [تحديدًا ملكوت السموات
] ويقول أن هذا التعبير غائب عن الأدبيات اليهودية حتى سنة 80م [3]، حيث ظهر في كتابات الراباي يوحنان بن زكاي [4]. على كل حال، يبدو أنّ المسيح استخدم تعبيرات مثل ملكوت الله وملكوت السموات للتعبير عن حضور من نوع ما، مُتوقِّع حدوثه، وبدأ يدعو الناس إليه.
الجُزء الثاني من افتتاحية إنجيل مرقس هو إبن الله
. بعض المخطوطات لا تحتوي هذا المقطع ولكنه موضوع في البعض الآخر، وعلى كل حال، هو موجود مرات ﻻ تحصى بطول الأناجيل، وسواء كان أصيلًا في العبارة الافتتاحية أو ﻻ، فهو لقب أصيل من أهم ألقاب المسيح في الأناجيل الأربعة ولابد من مناقشة مدلوله. لهذا اللقب تاريخ طويل في الكتابات اليهودية ولذلك شاع تغطية هذا الجزء في دراسات الدارسين، سنتكلم هنا عن الجانب الآخر وهو دلالة اللفظ في العبادة الإمبراطورية.
في كتابه The Son of God in the Roman World صفحة 31، يبدأ مايكل بيبارد [5]. الفصل الثاني باقتباس من برديه برقم P.Oxy. XII 1453 ترجع لسنة 30-29 ق.م ويقول: قيصر إله من إله
[6]. تعبير البنوَّة لله لم يكن مُجرَّد تعبير مستخدم كتمجيد، ولكن للدلاله عن الاختيار وعلاقة مُختلفه بين الأب وابنه أو الأب ومُتبنَّاه في السياق الروماني.
يعبر هلموت هنريك كوستر [7]. عن السياق الروماني للديانة الإمبراطورية، فيقول: للعَصر الجديد شخص مُخلِّص، الواهِب الأعظَم على مَر الزَّمن، الابن الإلهي.. المُنتصِر أغسطس.
[8]. وربما عبارة كتلك لو قرأتها دون آخر كلمتين لظننت أنها عن المسيح. ولكن في بداية إنجيل مرقس نقابل مُخلِّصًا من نوع آخر، ليس مُنتصِرًا بقدرته الحربية ولكن مُنتصِر بإعلانه مجيء ملكوت الله.
نعود مجددًا لكتاب New Testament Theology ونرى شرح خواكيم جيريمياس للمملكة التي يعلنها المسيح الناس. في صفحة 113 يقول أن الأخبار السارة التي أتى بها المسيح هي أنّه يدعو الخُطاة لمائده احتفاليه مع الله. في هذه المائدة يعد الله الفقراء بالتدخُّل وبإن وقت الخلاص متحَقَّق الآن وهنا.
[9]، من هنا يظهر الهدف من اقتراب المسيح من المرذولين سواء بسبب سلوكهم أو سمعتهم أو مرضهم أو وظائفهم [مثل الجُباه والعشَّارين]. الفكرة كلها أن الخلاص الذي يقدمه ليس خلاص النُصرة العسكرية ولكن خلاصهم بقبول حضور الله.
هذه الرؤية لا تتسِق تمامًا مع رؤية الغيورين ولا رِجال الخناجِر ولا حَملة السلاح الذين تحدثنا عنهم في المقال الأوّل. وبالتالي الأناجيل تقدم يسوع على أنّه يحقق نفس ما يدَّعيه قيصر ويحققه بالسطوة العسكرية، لكن يسوع يحققه بالدعوة لحضور الله. نفس الصورة نراها في إشباع الجموع. الإشباع الذي يحققه قيصر بالتقدُّم الاقتصادي والتوسُّع الزراعي، يحققه يسوع بمُشاركة الخمس خُبزات والسمكتين بين الناس. في حضور ملكوت الله القليل يتحول للكثير.
واحدة من النقاط الأكيدة في حياة المسيح أنه بالرغم من إعدامه كثائر سياسي كما يبدو من اللقب أو التُهمه التي تخبرنا الأناجيل إنها دوّنت على صليبه، وهو أنّه ملك اليهود
، إلا إن الرومان لم يتعقبوا تلاميذه أو يترصدوهم على مبايعته. هذه الفكرة شرحتها باولا فريدريكسن [10] في كتاب Jesus of Nazareth, King of the Jews وعلَّق عليها جون دومينيك كروسان [11] في مقاله بكتاب The Message of Jesus. وهي مُلاحظه مُهمة. لو كان الرومان ينظرون للمسيحين كخَطَر مُحتمل وإنّهم قد يقودون لثورة، لكانوا طاردوا أتباع المسيح كلهم إلى أن يتم التخلّص منهم جميعًا.
يقول أيضًا هانز خواكيم شويبس [12] في كتاب Jewish Christianity: Factional Disputes in the Early Church ص32 أنّ هناك اثنان من عائلة المسيح اسمهما يعقوب وزكريا من أحفاد يهوذا، أخو المسيح، وكانا يعيشان في الجليل، وقد تم استجوابهما في عصر الإمبراطور دوميتيان [حكم ما بين 81م – 96م] وتم إطلاق سراحهما وعاشا مع عائلاتهما حتى عصر تراجان.
[13]. هذا الخبر ينقله شويبس عن المؤرِّخ هيجيسبوس [14]ومؤرِّخ آخر يليه اسمه فيليب سايد [15]، وهو هام لكونه يظهر نقطتين:
أولًا أنّ عائلة المسيح لم تمارس العُنف إلى نهاية القرن الأول. وثانيًا أنّ استجوابهما يعني أنّ الرومان يتتبعون مسألة العُنف بجدّية، وعلى الرغم أننا ﻻ نعرف إن كان يعقوب وزكريا مؤمنان بأيّ إيمان بالتحديد، لكن الرومان لم يكونوا ليتهاونوا مع اشتباه للعنف ولو على سبيل الاحتمال، حيث كان يتم الاستدعاء ليس للمشتبه فيهم وحسب، بل لكل عائلته وأبناء إخوته حتى الدرجة الرابعة كي يضمنوا الهدوء والاستقرار في المُقاطعات الرومانية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟