المقال رقم 13 من 13 في سلسلة كنيستنا وتدوير الهرطقات

مع مطالع القرن الثاني عشر، كان الفقر المدقع قد نال من الكنيسة والشعب بسبب الجبايات الجائرة لتمويل الحرب ضد الصليبيين، والتي طالت الأقباط أكثر من العموم خوفا من تسرب أموالهم لدعم الصليبيين. جلس البابا مكاريوس الثاني على ست وعشرين عاما ونيف، وبقا الكرسي شاغرا أكثر من سنتين بعد نياحته، حتي ظهر “أبو العلا بن تريك” في الساحة البطريركية. كنسيًا، لم تكن الأمور في أحسن أحوالها، لا قدرة على توفير الأموال اللازمة لرسامة بطريرك جديد، ولا اتفاق على مرشح.

تولى رجل “خلقيدوني!!” مهمة “إقناع” أولى أمر الدولة، وربما الأقباط، بتنصيب “أبا العلا بن تريك” بطريركًا على الكرسي المرقسي، وفي يوم أمشيري أصبح “” البطريرك السبعين في عداد بطاركة الإسكندرية.

استهل الرجل حبريته بأزمة كنسية كبيرة، في قداسه الاحتفالي الأول -وكانت العادة أن يكون بدير أبو مقار – حين أضاف الرجل من عندياته في الاعتراف الأخير عبارة: وجعله واحدًا مع لاهوته، فأنكر عليه الرهبان ذلك، واستقر النقاش على إضافة “بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير” ثم فرضها على جميع ال للصلاة بها. ورغم أن الأمر لاقى مقاومة واسعة، حتى انه استدعى الكهنة المعترضين ليتلوا الاعتراف بصورته هذه أمامة،حتى استقرت في النهاية.

هذا ما تسرده المصادر التاريخية، ولكنني شخصيًا أتشكك كثيرًا في سبب هذا الاعتراض الذي لا اشك انه كان عاتيًا. أما لماذا التشكك، فلأن – وهذا رأي شخصي اعلم أنه سيفتح صندوق باندورا – الاعتراف بصورته الحالية شديد الركاكة، ولا يعبر عن إيماننا السكندري الأفسسي، فضلا عن أخطائه المزعجة، فأعتقد انه بكامله مدسوس، ولم يكن موجودًا أبدا قبل حبرية هذا البطريرك.

هذه الجملة فقط وجعله واحدًا مع لاهوته من فرط خطلها وزيغ صياغتها، قد تُفسر على أنها مونوفيزية، وقد تفسر على أنها نسطورية.

ستظن أنني مجنون. أنا نفسي بحثت الأمر -كوني مجنونا- بصرامة، ولكن ليكن، لا بأس، امنحني بضع دقائق وكن خلالهم “على قد عقلي” فضلا،
ربما إن فحصنا الأمر بمسحة من التفصيل ستصدقني أن هناك اختراقات تاريخية كثيرة حدثت لكنيستنا وأننا لم نستطع التعافي منها.

صيغة الاعتراف:

آمين آمين آمين، أؤمن أؤمن أؤمن، وأعترف إلى النفس الأخير، أن هذا هو الجسد [المحيي] الذي أخذه إبنك الوحيد، ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، من سيدتنا وملكتنا كلنا، والدة الإله، القديسة الطاهرة مريم، وجعله واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، وأعترف الأعتراف الحسن أمام ، وأسلمه عنا على خشبة الصليب المقدسة، بإرادته وحده عنا كلنا، بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.
يعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه. أؤمن أؤمن أؤمن، أن هذا هو بالحقيقة، آمين.

دع عنك هذا الخطأ أن يكون “يسوع المسيح” هو آخذ الجسد، وليس الله الكلمة الذي لم يصبح المسيح يسوع إلا بعد أن أخذ هذا الجسد، وبعد أن مسحنا فيه في عماده، فهذا الخطأ هيّن إذا نظرنا لباقي المآسي.

ماذا عن وجعله واحدًا مع لاهوته؟

لن يشفع للاعتراف هنا النفي اللاحق: بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، لأن العبارة لا تحمل تفسيرًا لهذا “الواحد”، والذي قد يفهم منها هو التماهي بين الطبيعتين والتي ستقود حتما إلى المونوفيزية.

فحين صك آباؤنا العبارة الملهمة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” حملت التفسير في متنها، لأن كلمة “متجسدة” تعبر عن بقاء “الجسد” كاملًا، حاضرا وفاعلًا.

يقول القديس كيرلس:

لأننا لو أمسكنا بعدما قلنا “طبيعة واحدة” مهملين التدبير ودون أن نضيف “متجسدة”، لكان من المحتمل -وعندهم سبب مقبول- أن يتساءلوا مدعين: “أين هو الكمال في الطبيعة البشرية؟ أو: كيف صار جوهرنا قائمًا فيه؟” ولكن بما أن كمال الطبيعة البشرية، وأيضا الإشارة إلى جوهرنا قد انجلى بقولنا “متجسدة” فليكفوا إذن عن الاتكاء على قصبة مرضوضة.

(القديس ، الرسالة الثانية الى سكينسوس)

هل انتهت هنا شبهة المونوفيزية بهذه الإضافة؟ ربما، ولكن ماذا عن النسطورية؛ علام تشير “لاهوته” هنا، وإلى من يشير ضمير “الهاء”؟؟

هل هي للكلمة؟ ولكن الكلمة ليس إلا لاهوتًا فلا يوجد فيه شيئ آخر يجعلنا نقصر الاتحاد على “لاهوته” ونستبعد هذا الشيء الآخر، ستحمل السطور القادمة تفسيرًا لهذا العيب الجسيم في التعبير.

ماذا عن وأسلمه عنا؟ من أسلم ماذا؟

هل يقصد أنّ “الكلمة” أسلم جسده، وبقا هو متفرجًا؟ أليس هذا تقسيمًا نسطوريا لغير المنقسم!!

قارن الفارق بين هذه العبارة وعبارة القداس الباسيلي: وأسلم “ذاته” فداءً عنَّا إلى الموت الذي تملَّك علينا.

ونصلي أيضا: لأنه فيما هو راسم أن يسلم “نفسه” للموت عن حيـاة العالم…

هل تستشعر هنا يا رعاك الله الهوة الفادحة بين أن يسلم الكلمة “شخصه” وبين أن يسلم “جسده”؟
الأولى تعني انه “هو” مات “بالجسد”، بينما الثانية تعني أنّ “الناسوت” المأخوذ من العذراء هو من مات، على طريقة .

ماذا عن لاهوته لم يفارق ناسوته؟

هنا نأتي الى مربط الفرس. هنا الضوء الكاشف الذي سيزيح أيّ لبس. سنكتشف هنا أن ما يعنيه من البداية بـ”يسوع المسيح” ليس هو “الكلمة المتجسد”، بل الكيان الافتراضي الحامل للطبيعتين؛ اللاهوت والناسوت، والناتج عن اتحادهما، وكأنه دخل جحر الضب خلف نسطوريوس ومشايعوه. أعد عزيزي القارئ قراءة الاعتراف من بدايته على ضوء هذا الاكتشاف ستجد أن كل ما حذرنا منه القديس كيرلس والقديس ساويرس هو حاضر وبشدة في هذا الاعتراف.

نحن نقبل القول: “كامل في اللاهوت”، وهو نفسه “كامل في الناسوت”.
لأن كلا من الطبائع [اللاهوت والناسوت] هنا تشير إلى الطبيعة العامة، فهو كامل في اللاهوت مثل الآب والروح، وهو نفسه كامل في الإنسانية مثل عمرو وزيد ومثلنا جميعا تمامًا دون الخطية بالطبع.

(لاحظ أننا لا نقبل هذه العبارة بدون “هو نفسه”)

ولكننا لا نقبل: “كامل في لاهوته وكامل في ناسوته” لأن الطبائع [اللاهوت والناسوت] هنا تتحول -بإضافة ضمير الملكية- إلى الطبيعة المتخصصة المحددة في أقانيم، ويصبح لدينا أفنوم للاهوت وأقنوم للناسوت، وليس أقنوم واحد متجسد، ويصبح الحديث هنا ليس عن شخص الكلمة المتجسد، بل عن شخص اعتباري حامل للأقنومين، وهي النسطورية برمتها، ونستعين هنا بأحد أعلام النسطورية ليلقي لنا الضوء على الفكر النسطوري:

ومن ثم نعترف في تقوى بشخص واحد، ابن ومسيح واحد، بينما القول بطبيعتين، أي أقنومين، متحدين، ليس خاطئًا بل مناسب جدا

(الأسقف ثيئودوريت)

(لاحظ أننا لا نقبل العبارة سواء أضيف إليها “هو نفسه” أو بدون الإضافة، لأن الحديث ليس عن الكلمة المتجسد، بل عن الشخص الحامل للأقنومين الذي يتحدث عنه ثيئودوريت)

وإجمالًا، لو عرضت هذا الاعتراف ال على احد غلاة النسطورية فسيطير به فرحا، وسيظن أن كنيسة كيرلس قد ثابت إلى رشدها.

سيقودنا الحديث إلى السؤال الهام؛ هل لم يلفت هذا الخطل نظر أحد من لمدة تزيد على تسعة قرون؟ لفت ولا شك، حتى أن المحاولات جرت لإضافة “رقع” إلى الثوب المهلهل، مثلما أضيفت كلمة “المحيي” إلى “الجسد” (وضعتها بين قوسين في نص الاعتراف) في حبرية البابا يوأنس الخامس، البابا ٧٢، بواسطة رهبان أبو مقار، وأثارت وقتها ضجة أيضا حتى اقرها البطريرك.

ملابسات إقرار هذا الاعتراف جاءت ملتبسة وفي ظرف تاريخي دقيق، حروب متصلة وأفول الدولة الة وبزوغ الدولة الأيوبية، كما أن الصلاة باللغة العربية (التي اقرها بين تريك نفسه) ساهمت في خبو العلاقة بين الأقباط والحس اللاهوتي، ما زاد الطين بلة هو استقرار “بن تريك” على الكرسي لخمسة عشر عاما، اخمد خلالها أيّه محاولات للاحتجاج، ثم خلفه بطريرك جاهل تمامًا، “ميخائيل الثالث”، حيث كان مجرد حفظ القداس يشكل صعوبة كبيرة له، أقر خلفه “يوأنس الخامس” الرقعة التي تحدثنا عنها سلفا بعد مقاومة من الأساقفة، واكتفى بتقبيل كف يده على الوجهين.

لا شك أن تركيبة الإكليروس القبطي وتكلسها، تمنع التفكير في إجراء أي تغيير استقر لفترة لزمنية، إن لم يتدارك التغيير فورًا في الحبرية اللاحقة سيستحيل أي تغيير لاحق. لكن الأمر الآن جد خطير، فلا يصح إطلاقًا أن يأتي إقرار إيمان كنيستنا بكل هذه الركاكة والتهلهل (إن افترضنا حسن النية) وأن يعطي مشروعية لكل من تحدث عن التجسد ليبتذل الحديث بمفردات “اللاهوت” و”الناسوت” دون أن يعي توظيفها الصحيح أبائيا. الأهم أن نفس هذه الجمل -باعتبارها الحق الذي لا يأتيه الباطل أبدا- استعملت في اتفاقات لاهوتية بين كنيستنا وكنائس أخرى ، فأتت-في حدها الأدنى- غير معبرة عن إيمان كنيستنا وآبائها.

لدينا نصوص آبائية ناصعة، تعبر بإعجاز ووضوح عن إيماننا، ولدينا من نصوص قسمات القداس نفسه جمالًا فائقًا، فلماذا نلجأ لنص يتحدث عن لاهوت وناسوت بركاكة مريبة وتغرب عن نصوصنا الابائية !!

تعليق أخير: تستطيع استبدال مفردة “النسطورية” في المقال بمفردة “الخلقيدونية” دون أدنى خطأ أو حرج.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: كنيستنا وتدوير الهرطقات[الجزء السابق] 🠼 النسطورية.. دليلك الفريد للنقد والتفنيد
رجائي شنودة
[ + مقالات ]