يوم الثلاثاء الماضي، 23 يناير 2024، كان موعد الجلسة الثانية من محاكمة الأكاديمي "كيرلس رفعت ناشد"، المتّهم بازدراء الأديان. كانت المحكمة في جلستها الأولى طلبت حضور المُدعي، الأنبا بنيامين، مطران المنوفية وشبين الكوم. لتفسير ما يثيره من لغط حول محاميه، مجدي صبحي عبد الغني. لكن المطران لم يحضر، ولا حضر محاميه الخاص أيضًا، ولا حتى الاسم الذي طرحته الصفحة الأصولية التي تتبع المطران حضر. من حضر في جانب المطران شخص اسمه مصطفى السوهاجي، وجاء بتفويض من مكتب المحامي تامر الجندي، الذي له توكيل خاص من المطران. وسلّم المحكمة مخاطبة مكتوبة ومختومة بخاتم مطرانية المنوفية.
ماذا يوجد في هذه المخاطبة؟ ولماذا كل هذا الكم من اللف والدوران؟ بالأغلب لأن المطران يقول أمام قيادته الدينية [قداسة البابا تواضروس] نفس خطابه التضليلي الذي تبثه الصفحة التابعة للمطران، أو قناة مي سات المسيحية التي يديرها صديقه الأنبا إرميا، من حيث كون المطران ليس له علاقة، وأنّ أحباؤه في أجهزة الدولة [لدينا كلام منه يقول الأمن تارة، وتارة أخرى وزارة العدل] هم من حبسوا الشاب خادم الكنيسة مجاملة له (حرفيا قال هذا على الهواء: المسؤولين بيقدرونا، كتّر خيرهم، فوزارة العدل، أمرت النيابة بالقبض عليه
) دون أن يكون له دور كمُبلغ، أو كمشتكي، أو محامي وتوكيلات باسمه الرهباني والعلماني، ما يعني أنه يُرشد عن أجهزة الدولة التي تحبس خصومه، كرامة له، خارج إطار القانون، أو إنهم -باعتبارهم القانون- يستخدمون مناصبهم كأداة شريرة للعقاب على خلاف الطرق التي حددها القانون.
أظن أنّ المخاطبة تحوي ما نسميه في القانون الكنسي “وشاية”، فمثل هذه الوشايات قد حدثت من المطران مرات سابقة [ومن أيام البابا شنودة الثالث كما عرضنا في موضوع المقاتل “بطرس حنا”] لكن دون أن يعرف رؤساء المطران، أو قياداته الدينية بمثل هذه الوشايات (في حالة بطرس، تواصل بطرس مع البابا، وأسقف عام ثقافي جنرال دين بعدها قال لبطرس ما مفاده: ابقى خلي البابا ينفعك
، وفعلًا بطرس يقول: البابا لم يفعل شيئًا) وهذا مؤشر خطير جدًا حول قدرة البابا على صيانة موقعه كرأس للكنيسة.
ربما من غير المقبول -أمنيًا، وأخلاقيّا، وحضاريّا- اشتباك البابا مع مطارنته في العلن، لكن استخفاف الأساقفة أو المطارنة بسلطات البابا ولجان المجمع والقانون الكنسي هو أمر واقع طبقا لمراقبتنا لحوادث عدّة، ورسميًا -أمام الدولة- هذا الواقع غير موجود، فالدولة لها أورق ومستندات ومخاطبات رسمية فقط، وعلى هذا، صمت المقر البابوي على مخالفات الأساقفة المحصّنين لم يعد مسألة سوء تنسيق، بل أمرا يضع الكنيسة بمجملها في حرج، وبصراحة صار أمرًا غير مقبولًا أمامنا كشعب، ولو أنّ البابا غير قادر على ضبط كبار قيادات الإكليروس منفردًا، إذن آن الوقت لنؤسس لقداسته مكتبًا علمانيًا بابويًا، يرفع عنه ما يترفّع هو -كراهب، وكإكليروس- عن الانحدار لمستواه. لكن لابد من ملء الفراغ في السلطة الرقابيّة على المطارنة. مطران الكنيسة يحاسب بقانون الكنيسة! إيه؟ فيه إيه!!
من هذه المنطلقات كنت أفضّل أن هيئة الدفاع عن كيرلس تدخل البابا في المشهد. تستدعيه للحضور بشكل قانوني مثل طلب إفادة البابا تواضروس، لكن المحامين رأوا أن هذا مبكر بعض الشيء (أنا بصراحة ليس هدفي خروج كيرلس لأنه مؤكد سيخرج بأمر الله، وما يشغلني هو تحويل المطران للجنة محاكمات كنسية، ولأسباب أكبر من موضوع كيرلس، على الأقل أي إجراء يجعل المؤمنين [المسيحيين] يعودوا مرة أخرى للوثوق في الأساقفة والكهنوت الذين جعلهم المطران أداة إرهاب وعقاب، ولم يكفه السلطة الروحية لكنه ورط الدولة معه. وربنا يقدرنا كي نجعل من هذا المطران العاصي لرئاسته عبرة لكل من وسوس له شيطان غروره أنه فوق الناس وفوق الحساب).
لكن الدفاع في هذه الجلسة قام بسابقة حقوقية، والجلسة كانت بحق تاريخيّة. (ستجدها مسجّلة صوتيًا كاملة بالأسفل) المدافعون عن المتهم قدموا -بجانب الدفوعات المدنيّة المذهلة- دفوعات تستعيد للكنيسة المصرية بعض من كرامتها، وقيل في المرافعات بشكل واضح إن النائب العام حر في تمثيل الدعوى العمومية فيما يخص القانون العام (هذا المصطلح= “اﻹسلام” طبقا للمادة الثانية) لكن لوجود تفاصيل مسيحية والموضوع برمته وقضه وقضيضه بأطرافه مسيحي، تم استخدام التأسيس الدستوري في المادة الثالثة من الدستور لعرض اللائحة الداخلية للمجمع المقدس، وتحديدًا المادة 54 التي تنص على إن الدعوى العمومية في الشأن المسيحي من اختصاص قداسة البابا وحده لا سواه.
طبقا للائحة المجمع المقدس الأساسية، ﻻ يحق لأي عضو مخاطبة الدولة أو أجهزتها إلا بإذن وتفويض من البابا، وفعليًا هذا ليس أمام الدولة فقط بل أمام أي مؤسسة حتى لو كانت مسيحية مثل مخاطبة الكنيسة الإنجيلية أو الكاثوليكية.
مادة (54):
البابا هو المسئول عن الأمور العامة في الكنيسة، وهو الذي يمثلها أمام الدولة وأمام الكنائس الأخرى وكل الهيئات الرسمية والدينية.(اللائحة الأساسية للمجمع المقدس، الفصل الثامن: “رئيس وأعضاء المجمع”)
بطريقة أسهل في الفهم، الدفاع طعن على استخدام النائب العام لكل قوانين الازدراء وغيرها من التي تحوي دين أو أسرة أو قيم لطالما الشأن مسيحي. لابد أن يتبنى البابا الدعوى وليس النائب العام، أو لابد على النائب العام العودة للبابا والحصول على موافقته لطالما أنه شأن مسيحي. البابا فقط.. وليس أي شخص يمر بالشارع ويرى نفسه غيورًا دينيًا ويصلح لتمثيل المسيحية. فهناك لائحة داخلية بين الأساقفة تنظم هذه المسألة بشكل محسوم ومن يعتقد أنها فوضى نقول له: ﻻ، ليس عندنا، ولا علينا، وكل هذا جديد على المحاكم، والهيئات القضائية لم تسمع مثل هذا الكلام من قبل.
السابقة الحقوقية ستكون مرجعية في الحالات المماثلة مستقبلا. ومن هنا الموضوع أخذ أبعادًا أيقونية وكبر عن مجرد كونها “قضية فرد” أو قضيّة رأي عام. التأسيس الحقوقي جعله بمثابة إضافة درع حمائي بابوي لكيرلس وغيره من الأقباط، من تلك المواد المعيبة، التي يكافح الحقوقيون في إلغائها كليًة. لا يستطيع أحد أن يقول لك إنك “مزدري بالمسيحية” إلا بموافقة البابا. والمطران هنا مثل الفراش الخاص به، وكلاهما مثلما قالت المحكمة للمدعي الذي يحمل اسم عيسى: ليس لك صفة.
بتعبير كتابي أدبي مستلهم من أنبياء العهد القديم:
تطير كرامتك -يا بنيامين- كطائر..
تطير كرامتك من الولادة..
ومن البطن..
ومن الحبل..
(وإن ربوا أولادهم أثكلهم إياهم حتى لا يكون إنسان. ويل لهم متى انصرفت عنهم)
كنا نطلب رحمة لا ذبيحة..!
كنا نريد معرفة الله أكثر من محرقات..!
(ولكنهم – كآدم – تعدوا العهد)
(كهنتي غدروا بي)
وكما يكمن لصوص لإنسان،
(كذلك زمرة الكهنة في الطريق)
المحكمة رُفعت لجلسة النطق بالحكم، يوم الثلاثاء بعد المقبل والموافق 6 فبراير، (مع استمرار حبس كيرلس) والتفاصيل القانونية سأتركها لتعرفونها من صفحات المتخصصين في القانون، والذين يزيدون في كل جلسة، ويفاجأونا بإضافات إبداعية.
المحامون الذين يدينون كيرلس يزيدون أيضًا. لكنهم أشخاص يقبضون أتعابهم بأجر ولازم يستوفوه. أما المدافعون المتطوعون فهم أناس آخرين ومستوى مختلف. ناس مؤمنة بقضية حريتنا في التعبير ويصرفون المال والجهد ويذاكرون قانون ويسافرون ويتعبون دون انتظار مقابل، وعندما نشكرهم، نجدهم هم من يشكرون، ويشكرون كيرلس على هذه الفرصة وهذا الشرف.
لكل هؤلاء الذين دعموا قضيتنا بأي وسيلة، وساعدونا بطريقتهم سواء من أقباط المهجر، مرورا بمسلمي الدلتا، ونهاية بمصريو القاهرة: شكرا لكونكم موجودين.
شكر خاص لأقباط المهجر على إرسالهم التسجيل الصوتي، والسماح ببثه من مواقعهم.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟