سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا)متي 5: 38- 39(
موقف الله من الشر، أن الشر يحمل نتيجته ونهايته على ظهره، فالموت ينتظر من لدغته الحية، لا محالة في ذلك. لذلك فإنه ليس عند الله عقوبة إضافية يضيفها على مصير الشر الذي هو الهلاك.
يقول الكتاب إن الله لا يعاقب بالشرور، أما الدينونة فهي من مراحم الله على الإنسان لكي ينبه وعيه إلى مصير الموت نتيجة للخطية. إن موقف الله من الشر هو على النقيض من موقف الشر من الشر. لذلك تبدأ الآية بتذكيرنا بموقف الشر من الشر أنه “عين بعين وسن بسن”.
إن هذا الموقف هو استمرار للشر تحت دعاوى تبدو خيرًا، مثل الدفاع عن النفس وعدم التساهل مع الشر، ألخ، ولكن حقيقة “العين بالعين” هي استمرار الشر إلى ما لا نهاية، كما يحدث في مسلسل الثأر بين العائلات إلى أن يقتلون بعضهم ويفنون.
ألا تري عزيزي القارئ أن بصمة الشيطان غالبة فهو كان قتَّال للناس منذ البَدْء
، لذلك فإن موقف الله دائمًا كان عدم التساهل مع قتل ودمار الإنسان، ولكن ليس عن طريق القتل المضاد لأنه لا يختلف عن عمل الشيطان نفسه الذي هو قتل أيضًا، ولكن موقف الله كان أن يوقف القتل والقتل المضاد لأن كلا الطرفين عزيز عليه سواء كان المعتدي أو الضحية، فهو خلقهم ليكونوا بنينًا له، ولذلك فإن هدفه هو حياتهما وليس فنائهما. لذلك كان موقف الله هو أن يوقف مقاومة الشر بالشر، وليس كما يدعي البعض أن المسيح يتساهل مع الشر.
فإن أول انتصار على لطمة الشر هو أن تتوقف عن لطم من لطمك، فإن هذا في حد ذاته إنقاذ حياة وهزيمة للموت، ولكن حسب طبيعة الإنسان التي تمكن منها الشر وانتقام الموت على مدى تاريخ البشر، فإن الشعور والفكر الذي ينشأ في الإنسان حسب موروثه في الشر هو أن عدم لطم المعتدي إنما هو بمثابة السماح له أن يلطمك مرة ثانية على خدك الآخر.
إن مفتاح هذه الآية هو في مقدمتها “لا تقاوموا الشر (بالشر)”، أي لا تلطموا من لطمكم. فإن توقفك عن أن تلطم لاطمك هو في حد ذاته مثل لطمة توجهها إلى ذاتك لا إلى خصمك. هذا ليس معناه أنك تستعذب لطم الآخرين لك، فالمسيح له المجد لم يطبق هذه الآية هكذا، فهو لم يستعذب لطمة خادم رئيس الكهنة له، ولكنه لم يرد له اللطمة، ولكنه أيضًا لم يتساهل مع اللطمة بل دخل مع لاطمه في حوار يوقظ به ذهنه المظلم عله يفيق.
إن موقف المسيح “الله الظاهر في الجسد” هو مقاومة الشر باستئصال الشر من جذوره عن طريق تغيير جوهر وحياة الإنسان. وهذا لا يتم إلا بقبول المسيح الإله وعمل روحه القدوس في كيان الإنسان ليتحول إلى الخليقة الجديدة للإنسان التي تأسست في بشرية المسيح بمجيئه إلى الأرض ووهبها لكل من يؤمن به ويتحد به.
إن الإنسان الذي يلطمه عدوه ويمتنع عن رد اللطمة، إنما يحتاج إلى توسط المسيح الذي يتقبل اللطمة الأولى ويصير هو عَوَضَ الملطوم عندما يُحيل إلى المسيح اللطمة الثانية. وبذلك فإنه في رأيي أن المقصود بالنصف الثاني من الآية “يحوِّل له الخد الآخر” أن اللطمة الثانية يحولها الملطوم داخله إلى وجه الرب نفسه ليحتملها المسيح لا الملطوم.
وربما بنمو الخليقة المسيحية الجديدة للإنسان في الملطوم، فإنه يصير يومًا ما مسيحًا على الأرض وامتدادًا لسيده المسيح الذي ربما يقبل اللطمة الثانية في العلن حبًا لمن لطم ومن تعرض للطم.
هنا نحن أمام شخص المسيح الحي واقفًا ومتوسطًا بلاهوته وناسوته بين اللاطم والملطوم. عندئذ يفر الشر واللطم المتبادل محترقًا بلاهوت الله المتحد بناسوته الذي حل بيننا:
“والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده” في إنهاء عداوة البشر وتتحقق رسالة ميلاد المسيح في أعياد ظهوره الإلهي: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”.
ومن جهة أخري فإن المسيح له المجد لم يستهن بجراح الإنسان أو مع الظلم باسم التسامح كما يردد الذين لم يفهموا بعد ما هو حق الإنجيل. ولكن المسيح وضع طريقًا يختلف عن همجية الانتقام والغضب كسبيل لمواجهة الشر بين البشر. فكم يكون غباء الإنسان الذي يضيع عمره في الجرح والغضب والانتقام. فإن مقاومة الشر بالشر تطفئ الفرح الإنساني بل وتطفئ فرح الروح القدس داخله، وتعيق حياة الشركة مع المسيح.
فالرب في مَعْرِض حديثه عن “لا تقاوموا الشر (بالشر)”، فقد تعرّض أولًا لتصرف المؤمن حيال موقف الشر والعدوان الطارئ المفاجئ متمثلًا في “من لطمك على خدك”، فأوضح لنا التطبيق العملي للمحبة التي تسلمها المؤمن بالطبيعة الإنسانية الجديدة فيه المستمدة والمدعومة بامتدادها في بشرية مسيحها كما شرحنا. وبذلك ينتصر اللاطم والملطوم وينجوان من دائرة الانتقام والانتقام المتبادل.
ثم وضع المسيح له المجد قواعد جديدة في التعامل مع الذين يسيئون إلينا تتمثل في:
العتاب أو حتى التوبيخ
اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ.)إنجيل لوقا 17: 3(
وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ.)إنجيل متي18: 15(
وإن لم يستمع للعتاب، فاستعن بأخوة حكماء لإدارة العتاب.
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ.)إنجيل متي 18: 16(
وإذا رفض، فمن حقك أن تلجأ إلى تحكيم جماعة المؤمنين/ الكنيسة.
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ)إنجيل متى 18: 17(
وإن لم يسمع من جماعة المؤمنين عندئذ لم يتساهل المسيح له المجد مع شر هذا الإنسان المعاند، بل سمح للمؤمن أن يعده غريبًا ومقطوعًا عن شركتنا في المسيح، هنا يبدأ دور محاكم العالم للأسف.
ولكن يبقي شيئ أضيفه وتوضحه هذه الآية:
فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ)رسالة بولس إلى رومية 2: 16(
فإن موقف ربنا من شر الإنسان وظلمه هدفه شفاء وليس عقاب، حتى في اليوم الأخير. هذا يتضح في الآية أن الدينونة ستكون حسب البشارة المفرحة ليسوع المسيح في الإنجيل، وهل كانت سوى الشفاء؟
فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَدًا سِوَى الْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»، فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!» فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا».)إنجيل يوحنا 8: 10، 11(
لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ)إنجيل يوحنا 12: 47(
هذا موضوع تكلم فيه آباء الكنيسة أنه هناك دينونة أخيرة ولكنها ليست بلا نهاية، بل يستمر الرب في افتقاده لأولئك ليتوبون على الرغْم من حسابهم. هذا “الخلاص الشامل” للرب ومسيحه جدير أن نتأمله كثيرًا ونتمثله، فيبرد غضبنا ويندحر انتقامنا ولا تدوم عداوة بيننا بلا نهاية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟