على مدار ألفيّ عام، وجدت الكنيسة صعوبة بالغة ولفترة طويلة في تحديد موقع يوسف النجار في مجتمع القدّيسين. فشخصيته حاضرة باقتضاب شديد في المدوّنة الإنجيليّة، وفقط عند متى ولوقا. ربما هي حاضرة بشكل أفضل في الكتب المنحولة. وهي غائبة تمامًا في القرآن، مما أفسح المجال للمؤرخ كمال الصليبي للتمييز بين عيسى ابن مريم، وبين يسوع ابن يوسف النجار.
في الإنجيل حسب رواية البشير لوقا، نلمس أن وظيفة يوسف هي “إدارية” نوعًا ما، لتسجيل الولد “يسوع”، بشكل قانوني، وربطه بالنسب إلى داود، ثم ينقطع ذكر يوسف في هذا الإنجيل على خلفية حادثة ضياع يسوع في الهيكل وعمره اثني عشر عامًا، إذ وجده أبواه بعد ثلاث أيّام، جالسًا بين المعلّمين: وقالت له أمّه: «يا بنيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوّذا أبوك وأنا كنّا نطلبك معذّبين!»
، فجاء جواب يسوع: فقال لهما: «لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟» فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما.
[1]
في المقابل، ينفرد الإنجيل حسب رواية متى، بكون يوسف تلقى بشارة خاصة موازية لبشارة العذراء، تؤكد بتوليّة مريم. فبعد أن ظهر الحمل وعزم يوسف على تطليق مريم سرًا، تراءى له ملاك الرّب وقال له: يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.
[2]
أيضًا، ينفرد إنجيل متى بخبر لجوء العائلة المقدّسة إلى مصر. ومجددًا، المعني بتلقي الوحي هو يوسف وليس مريم: ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلًا: «قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه»
[3]. ونفس الأمر في رحلة العودة، ومجددًا، حين سيوجّهه للصعود إلى الجليل بدلًا من الذَّهاب إلى منطقة اليهودية.
بشكلٍ عام، يعطي إنجيل متى دورًا أكبر بكثير ليوسف. الوحي يتواصل معه هو ومن خلال مناماته، الأمر الذي يفسح بالمجال لمقارنته بأنبياء العهد القديم، ربّما لاعتباره أخرهم، أكثر من كونه أوّل القديسين المسيحيين.
ستتطور المسيحية مسرعة في حركة ابتعاد عن أصولها اليهودية، وحينئذ، لم يكن الأخذ بصورة يوسف القدسيّة هذه في إنجيل متى مستساغًا، فيوسف هو الأب الوثائقي ليسوع، وظهوره كرب الأسرة ربّما يذكّر أو يثبّت هذه الأبوّة الجسديّة المزيّفة، وغير المرغوب التركيز فيها. إلى جانب تعرّض خصوم المسيحية الدائم بعذرية مريم البتول، وتركيز الآباء المؤسسون على وضع البتولية في تراتبيّة أعلى من الزواج [4]، الأمر الذي دفع المسيحيون لتدوين أفكارهم الشعبيّة عن يوسف باتجاه المصادر “المنحولة” [غير القانونيّة، أو المشكوك في صحّتها.]، وهذه المصادر ساهمت في إخراج يوسف النجار من الظّل، وأعطته وجهًا وموقفًا وشخصيّة، لكنها حافظت على إظهاره دومًا كطاعن في السن.
نذكر مثلًا “تاريخ يوسف النجار”، الذي بقيت منه مخطوطات مترجمة بالعربية والقبطية عن الأصل اليوناني، وفيه يُقدّم يوسف على أنه نموذج للمتنيّح [المائت السعيد]، إذ يموت وفي جواره يسوع ومريم، وعن عمر مئة واحد عشر عامًا، في وقت كان عمر يسوع ستة عشر عامًا فقط، أي أنّ يوسف وفقًا لهذا النص تزّوج مريم عن عمر خمس وتسعين عامًا. وهذا يختلف بشكل كبير عن التقديرات الرائجة في أماكن أخرى. حياة وسيرة القديسين في السنسكار الماروني مثلًا، تحدّد عمر يوسف بثمانية وثلاثين عامًا، يوم خطوبته على مريم.
في كتب “أبو كريفية” أخرى، مثل النص المنحول على متى، سنجد في المقابل صورة سلبية عن يوسف. إذ يعرض هذا الكتاب رحلة العائلة المقدّسة إلى مصر، ومريم التي تستند إلى شجرة نخيل، وتطلب ثمرها، فينهرها يوسف بأنّها تفكر بالثمار العالية التي لا سبيل للوصول إليها، في حين شحت الماء في القربة. يتدخل الطفل الإلهي حينها، ليأمر سعف النخل بأن تهبط وتعطي الثمار لوالدته، مظهرًا محدودية يوسف وعدم قدرته على الفهم.
الحال على النقيض في الإنجيل المنحول على توما [5]، فهنا يظهر يوسف كأب، يحاول بصعوبة شديدة تربية ابن خارق لا يسيطر على قدراته الخارقة، مرة يردي طفلًا صريعًا لأنه تصادم معه، ومرة يهزأ بأساتذته ويسفّه منهم، ويجيد شغل الخشب خير من يوسف العجوز.
أما الإنجيل المنحول على يعقوب، فيظهره أرملًا، أنجب عددًا من الأولاد من زيجات سابقة، الأمر الذي يتكفّل بحل إشكالية أخوة المسيح، ومنهم يعقوب [الراوي المفترض هنا لهذا الإنجيل المنحول]، الوارد ذكرهم في الإنجيل.
لقرون طويلة، بقيت مكانة يوسف محيّرة، وضائعة بين سطوع كل من مريم ويسوع. يعتبر المؤرخ بول بايان [6] أنّ المسيحية أخذت مطولًا بشهادة لوقا على حساب شهادة متى، خصوصًا في الفن الأيقوني في العصر الوسيط، ﻻ سيّما وأنّ لوقا صنّف كرسّام ومؤسس للفن الأيقوني، وشفيعه. وعلى هذا، يوسف النجار لم يحظ بمكانة بارزة طيلة القرون الوسطى، ولم تبدأ مكانته ترتفع بشكل ملحوظ إلا في القرن الخامس عشر، بعد أن مهّد لذلك الحاخام ليفي بن جرشون [7] ثم الرهبان الفرنسيسكان.
على امتداد القرون الوسطى، طغت الإشارة ليوسف على أنّه “زوج مريم” فقط، من دون التأكيد الواضح على قداسته، وكان الفن الأيقوني يظهره بشكل هامشي، كمنزوي في زاوية من اللوحة، عجوز قرب الموقد، أو يحضّر الحِساء للطفل.
لا يلغي ذلك أنّه، حتى في عزّ القرون الوسطى، وُجد أيضًا فن أيقوني يعظّم يوسف، ويجلسه على عرش: ارتبط ذلك بمحاولة لإعطاء الأصالة والشرعيّة ليوسف، كونه وريث العرش الملكي لداود، وخدمت أيقونات “يوسف النجار الملك”، على ندرتها، قضية الأباطرة في مواجهة الباباوات، وأولوية الملوك على الكهنة. لكن هذا التقليد بقي معزولًا، ولم يدم طويلًا.
ما سيعطي يوسف النجار أهمية تصاعدية في نهاية العصر الوسيط، هو الحاجة إلى التوسّع في مفهوم الأبوة، والحاجة إلى التكافل الاجتماعي. من هنا فرضية بول بايان: رد الاعتبار ليوسف النجار كأب، ورمز للأبوة، سترتبط بفترة نهاية العصر الوسيط، وخصوصًا في مواجهة الطاعون
[8]. فالطاعون فكّك الروابط الاجتماعية، دمّر الأسر، رمى الكثيرين في المياتم، وصار من اللازم حينها استصلاح فكرة الأبوة، وعدم ربطها بمعناها الحرفي، البيولوجي. اصطدم ذلك بعائقين: هالة العذراء التي لا يمكنها الذَّهاب بعيدًا في تكريس رابطة زوجية مع رجل، وعدم اتصاف سيرة يوسف بالأعاجيب أو المعجزات.
لكن ما لم يستطع العصر الوسيط تجاوزه بشكل حاسم، تكفّل به الفن في عصر النهضة، بدءًا بمايكل أنجلو مثلًا، الذي اعتمد على تصّور العائلة المقدّسة كدائرة وليس كمثلث. ثم جاء الإصلاح البروتستانتي، فصارت الحاجة لنموذج ربّ العائلة المبارك من الله أقوى بديلًا عن الكاهن، وهي بالتالي حاجة للمزيد من استحضار يوسف النجار. وهذا بلغ الذروة في كندا، التي تحوّل يوسف النجار إلى شفيعها في القرن السابع عشر.
أما في عالم الكنيسة الكاثوليكية، فسيكون علينا انتظار أواخر القرن التاسع عشر، حيث سيكرّس البابا بيوس التاسع القديس يوسف النجّار شفيعًا للكنيسة الجامعة [9]. ومع أن يوسف لن يتحوّل إلى شخصية شعبية في التدّين الكاثوليكي، ولن يكرّس له مبحث لاهوتي خاص به يعرف الآن بـ”اليوسفيات” إلا في القرن العشرين، عندما أدركت الكنيسة كم أن يوسف البتول، النجّار، الكادح، المربّي المتفاني، يمكنه أن يتحوّل إلى رمز عمّالي اجتماعي محافظ وكفاحي في مواجهة الحركة الشيوعية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟