المقال رقم 5 من 5 في سلسلة التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة

إحدى الإشكاليات التي تُواجِه قراءة التّاريخ، والتي يبدو أنّه لا هروب منها، هي إشكالية التّعميم.

في العلوم مثلًا، حين يُدرس تصرُّف ذرّة من عنصُر ما، يُمكن تعميم النّتيجة على جميع ذرّات العنصُر، ومن هذا المُنطلق فالتّعميم جائز.

لكن في التّاريخ محلّ الدّراسة فالأمر مُختلف من حيث كونهِ كائنًا حُرّاً -نسبيّاً- ولا يُمكن ردّ جميع تصرُّفاته إلى الحتميّة.

ولكن، ما هو البديل لدراسة الماضي سوى التّعميم؟ هل توجَد وسيلة ذات قدر من الموضوعيّة تُمكننا من إدراك أعماق شخص في الماضي وبالتّالي تكوين تصوُّر عنهُ كفرد له ما يُميّزه عن أقرانه؟

ولأن هذه الوسيلة غير موجوده يعلم المُنظّرون للتّاريخ ما بعد الحداثي أن الموضوعيّة المُطلقة، و“الحقيقة” الكاملة، هي آمال غير واقعيّة، ولا جدوى من البحث عنها.

من هُنا يمكن أن نتحرَّك إلى المبحث الثّاني في علاقة ما بعد الحداثة والّتاريخ، وهو: الذات.

الجَدَل ما بين التّفرُّد المُطلق والتّعميم المُطلق أو السّؤال عن كون الإنسان مُخيّراً أو مُسيّراً -في المُطلق- كان المدعاة للسُّؤال عن طبيعة الذات.

هل الذات البشريّة خاصّة للغاية وحُرَّة تمامًا وبالتّالي تتخطّى التّعميم التّاريخي والنّفسي؟ أم مُنتج تحت تاريخي اجتماعي ومهما تفرّدت واختلفت تقع ما بين مجموعة من الاحتمالات القابلة للّرصد والتوقُّع؟ هل الإنسان قادر على تغيير المُحيط بقرار نابع منه بمعزل عن التّاريخ أم أن تغيير المُحيط هو في حد ذاته طرح حتمي يسمح بهِ وينتجه المُحيط؟

في مسألة الهويّة تعارض طرفان، نادى تيّار الـ Essentialism الحداثي [1] بأن الماهية أسبق على الوجود، وعليه فالهويّة جُزء أصيل في الإنسان، يولد به ومن خلاله يتفاعل مع المُحيط.

وبدأ نقد تِلك القراءة بعبارة : الوجود أسبق على الماهية، وبذلك يكتسب الإنسان ماهيته بوجوده في سياق يُكسبه النوع واللغة والعِرق والدّين لا بالمولد والطّبيعة.

ترى ما بعد الحداثة أن هوية الشّخص هي مُنتج مُجتمعه وبالتّالي لُغته، لذلك فالهويّة التي تسبِق الوجود هي فكرة لا يتمّ تبنّيها في كتابات المؤرّخين المُنتمين لتيّار ما بعد الحداثة.

وبما أن الذّات هي مُنتج تحت تاريخي، رفضت ما بعد الحداثة الـ metanarrative [2] وهي كلّ قصّة شعبيّة تصِف تاريخ جماعة بماضيهم البعيد وحَاضرهم ومُستقبلهم، ودائمًا ما تنظُر “السرديات الكُبرى” للتّاريخ من منظور الواقف خَارج التّاريخ. [3]

وعلى هذا، ترفُض ما بعد الحداثة التّصوُّر الي، إذ يضع تصوُّرًا حتميًاً لسير التّاريخ، وأيضًا ترفُض أن تعتبر أطروحات الأيديولوجيات عن مسار التّاريخ من البداية للنّهاية كعلومات ذات قيمة للمؤرِّخ.

السرديات الكُبرى توجَد فقط بسبب الاتّفاق الشعبي عليها لمئات السّنين، لا لأسباب منطقيّة يُمكن فحصها.

كل قصّة تصِف بداية التّاريخ ونهايته تفترض وجود شخص فوق تاريخي metahistorical subject غير مُتأثِّر بالتّاريخ قادر على وصف التّاريخ بموضوعيَّة مُطلقة، ولأن الذات تحت تاريخيّة، ترفُض ما بعد الحداثة تِلك الأطروحات جُملة وتفصيلًا.

 

انتهت السلسلة،
كُتبت بقلم “جون إدوارد” كورقة بحثية في سبتمبر 2018 [4].

هوامش ومصادر:
  1. تعرّب: ماهوية، وأنصارها يدعون: ماهويون وماهويين. [🡁]
  2. تعرّب: السرديات الكُبرى. وهي كلّ قصّة شعبيّة تصِف تاريخ جماعة بماضيهم البعيد وحَاضرهم ومُستقبلهم. [🡁]
  3. أهم من نقد القصص [السرديات] الكُبرى هو الفرنسي جان فرانسوا ليوتار. [🡁]
  4. نُشرت على موقع humanities-today بتاريخ 8 يونيو 2022. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة[الجزء السابق] 🠼 [٤] البنيويّة: “العلامة”
جون إدوارد
[ + مقالات ]