المقال رقم 2 من 5 في سلسلة التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة

جاءت ما بعد الحداثة -كما يُفهم من اسمها- بعد “الحداثة”، ولكنّها أبقت على بعض أعمدتها وأسقطت وأضافت أخرى. التّجريب هو أحد تِلك الأعمدة التي أبقت عليها ما بعد الحداثة، وهو رفض المَعرفة المُسبقة مُنعدمة الدّليل، وبالتّالي فما لا دليل عليه لا يُعدّ موجوداً.

يرُد البعض هذا المَنطِق بعبارة “غياب الدّليل ليس دليلاً للغياب” [1]، فمثلًا غياب الدّليل على وجود حياة في الفضاء لا ينفي وجود حياة في الفضاء، بل فقط يُخبرنا بأن البحث عن حياة في الفضاء لم يُسفِر عن شيء حتى الآن.

وبالرّغم من منطقيّة هذا الطَّرح إلّا أن استخدامه عادة ما ينطوي على مُغالطة منطقيّة، فعادة ما تُستخدم تِلك العبارة لإقحام ما لا دليل عليه في النظام المعرفي بحُجّة أن غياب الدّليل ليس دليلًا على عدم الوجود.

تخيّل معي المثال التّالي: في محكمة تفحص جريمة قتل، احتّج المُحام على براءة مُوكِّله بأن القاتل هو فَضائيّ من المرّيخ، وطالب المحكمة بتبرئة مُوكِّله والقبض على المرّيخيّ. وحينما سأله القاضي عن دليله على وجود المرّيخيّ وعلى ارتكابه للجريمة، احتجّ المُحام بأن غياب الدّليل على وجود المرّيخيّ لا ينفي وجوده، وأن غياب دليل ارتكابه للجريمة لا ينفي كونهِ مُرتكب الجريمة. فهل في تِلك الحالة ينبغي أن يُسلِّم القاضي بحُجّة المحام فيُبرِّئ ساحة المُتّهم ويأمر بالبحث عن المرّيخيّ لمُحاسبته؟

المعرفة بناءٌ يُبنى من الأسفل للأعلى، أيّ يؤسس على ما يُثبت. ليس السّؤال عن الوجود حتّى يُحتَجّ بأن غياب الدّليل لا ينفي الوجود، بل السُّؤال هو “كيف نعرف”.

في المثال السَّابق، سيُرفض طرح المُحام. إذ ليس من المنطقي أن يضع صاحب الادعاء حمل الإثبات على خصمه. المُحام هو من ادّعى وجود المرّيخيّ، وعلى المُحام أن يُثبت ادّعاءه، ولا مكان للاحتجاج بأن غياب الدّليل ليس دليلًا على الغياب، فالمطلوب ليس غياب النّفي [دليلًا على الغياب] بل دليلًا للإثبات [دليلًا على الوجود].

إليك مثالًا آخَر: ماذا لو قدّم عضوٌ برلمانيٌ مشروعًا يصف فيه منجمًا على عُمقِ خمسة عشر كيلو مترًا تحت سطح الأرض، وذكر في مشروعه أنّه بالرّغم من غياب الدّليل على وجود المنجم، إلّا أن غياب الدّليل ليس دليلًا على عدم وجود المنجم. فهل ستُخاطر الدّولة بمليارات الجُنيهات عملًا بأنّ غياب الدّليل ليس دليلًا على الغياب؟

تخيِّل معي كم الأفكار التي يُمكن أن نَحتج على وجودها إن اكتفينا بالقول السّابق “غياب الدّليل ..”. وعليه، “غياب دليل النّفي ليس دليلًا على الوجود”، وعلى من يحتجّ بشيء أن يُثبت وجوده أوّلاً من دون أن يُطالب الخصِم بجديّة التّعاطي مع احتمالية الوجود فقط لغياب النّفي.

وصف المؤرّخ الحداثي Leopold von Ranke (ليوبولد فون رانكه) طبيعة عمل المؤرّخ كصراع مع الوثائق: [2]

التّجريب: هو فحص صِحّة المصادِر الأولى من حيث أصالتها لكاتبيها والاتساق الدّاخلي، مُقارنة الرّوايات ومُراجعة الرُّؤى التّاريخيّة القديمة المُعتمدة على الذاكرة والقصص الشّعبي والتّراث المكتوب بدون العودة لنصوص دوّنها أُناسٌ ثقات من الطّبقات العُليا أو المؤرّخين التّابعين للحكومات. كلما زادت المصادر الأوليّة كلما كان التّاريخ أكثر ثقة.

(Callum Brown, op.cit. 2013, p. 18)

رُبّما نختلف مع طرح “فون رانكه” في مسألة إطلاق الثّقة في الطّبقات العُليا ومؤرّخي الحكومات، رُبّما كانوا أكثر تعليمًا وأقلّ تبنّيًا للأسطورة، ولكن كتاباتهم لا تخلو من الدّافِع السِّياسِي، لذا ينبغي أن تُقرأ كتصوُّر (وأحياناً تصوُّر مُوجَّه) عن التّاريخ.

أيضاً تبدو دراسة النّصوص نقديّاً -كما سنرى في فصولٍ لاحقة- أكثر تعقيدًا من إضفاء اليَقين عليها بلفظة التّجريب. لذا أبقت ما بعد الحداثة على التّجريب كأداة معرفيّة، ولكن نقدت التّصور الفلسفي المعرفي للتّجريبين، أيّ إمكانيّة الوصول لليقين المُطلق بالتّجريب.

خلافًا لما سبقها، صَارت ما بعد الحداثة تَدرس تاريخ الشّيء وكيف وصل إلى ما هو عليه diachronic approach بدلًا من دراسته داخل تراتُبيّة. وكنتيجة لذلك، احتل التّاريخ قسمًا داخل كُلّ مجال، فظهَر تاريخ الطبّ وتاريخ التّعليم وتاريخ العلوم .. إلخ.

بعض الوجوه الأخرى للتّجريب الذي أبقت عليه ما بعد الحداثة، هو علم الاجتماع والسِّياسة والاقتصاد وعلم النّفس، التي يُمكن اختبار تصوُّراتها من خلال المُراقبة واستطلاعات الرّأي والإحصائيّات والتّجارِب النّفسية. وعلى هذا، فالتّاريخ أقرب لصورة نهائيّة يتمّ رَسمها بعد دراسة العوامل السّابقة غير قابل للتّجريب، ولكن الأعمدة التي تستند عليها رُؤية التّاريخ من علوم (الاجتماع والاقتصاد .. إلخ) يُمكن أن تَبنى جُزء من قراءاتها على التّجريب.

وبعدما يطرح المؤرِّخ تصوُّره، تبدأ مرحلة الفحص الأكاديمي peer reviewing، حيث تُوكّل الوَرقة البحثيّة أو الكتاب لمُتخصِّص آخَر لتَقييم المُحتوى من حيث منهجيّة الطَّرح وتوافق النّتائج من المنهجيَّة والمُعطيات المُتاحة عن الماضي.

هكذا وضّحت ما بعد الحداثة إشكاليّة في منطق هؤلاء الذين يرون التّاريخ كمساوٍ “للحقيقة”، إذ بهذا الطّرح يَحتكرون “الحقيقة” بفرض قراءاتهم للتّاريخ، وإن امتلكوا “الحقيقة” انتهت مساحة الحِوار وصار التّاريخ خطرًا [3].

من هذا المُنطلق تختلف منهجيّة التّاريخ عن الاعتقاد الدّيني، فالاعتقاد مبني على التّصديق والموقف الشّخصي، وهو شيء يضَع نفسه فوق الدّليل، فوق المنطِق وفوق النّقد. أمّا في التّاريخ فالموقف الشّخصي لا يُحدِّد الماضي أو يُفسِّره، فحينما يدرس الإنسان إنسانًا آخَر يواجِه خطر إسقاط أفكاره ومشاعره على الآخَر [4].

لذا فعلم Wissenschaft [5] التّاريخ يهدُف إلى تحقيق موضوعيّة نسبيّة يُهذّبها النّقد والفحص المُستمرّ للمنهجيّة والأدوات والدّليل الأثري والأدبي. موضوعية نسبيّة تدعو للحوار إذا تُدرك أن عمليّة التأريخ تنطوي على إمكانيّة كبيرة للتعدُّد القراءات، وتدرِك أيضًا أن القراءات وإن كان جميعها ناقص بالضّرورة إلّا أنّها لا تتساوى في النّقص والخطأ.

فيما نقدت ما بعد الحداثة اليقين التّاريخي الحداثي واجهت سؤال موضوعيّة المنهجيَّة. فإن كانت أدوات التّاريخ لا تقود إلى نتائج يقينيّة كيف إذًا يتعامل مؤرّخي ما بعد الحداثة مع غياب الموضوعيّة المُطلقة كأمر واقع دون الوقوع في هوّة الذاتيّة المُطلقة؟

يقول Arthur Danto (آرثر كولمان دانتو) الإنسان لا يذهب عاريًا إلى الوثائق [6].

نعم، للمؤرِّخ تصوُّر عن العالم والقُوى المُحرّكة فيه لا يُمكن خلعه كالمعطف وتركه خارج الجامعة، ولكن، في الوقت نفسه، لا يقدر أن يضَع في أطروحته التّاريخيّة ما لا يستطيع إثباته، وهُنا يأتي دور النّقد peer reviewing ليكشِف المنهجيَّة التي تُساهم في بناء الموضوعيّة وتِلك المدفوعة فقط بالتّصوُّر أو الدّوافع الشّخصية.

يبدأ دور المؤرِّخ من اختيار المصادر، ففي كثير من الأحوال [كما سنرى لاحقًا] يختلف المؤرّخون حول ترتيب المصادِر من حيث القيمة، وترتيب المصادِر يُغيِّر بالضّرورة الصّورة النَهائية التي يرسمها المؤرّخ عن الماضي.

بعد ذلك يأتي دور معايير الأصالة التي تُعالج محتويات المصادر، وسنعود إليها بالتّفصيل في المقال الثّالث. كما أن الجانِب الأدبي في النصّ لا يُمكن أن يُقاس مَوضوعيّاً، ففي العمل الأدبي تتدخل عوامل جماليّة وبلاغيّة مع المعلومة التّاريخيّة لترسم تصوُّر الكاتب عن الحدث الذي يُسجِّله، وهذه العوامل الجمالية والبلاغيّة لا تُقاس بأدوات موضوعيّة، وهُنا يظهر دور النّقد ثانية كي يُهذِّب القراءات وبقدر الإمكان يدفعها نحو موضوعيّة نسبيّة.

من المُهم أيضًا توضيح أن ما بعد الحداثة لا تدعو لقراءة واحدة للتّاريخ، بل تدعو للحوار حول كل قراءة مُتاحة للتّاريخ، وعليه، فصراع ما بعد الحداثة مع القراءات الكلاسيكيّة ليس كما يظُن أنها رغبة ما بعد الحداثة في استبدال قراءة ثابته بقراءة ثابته، بل في رفض أصحاب القراءات الكلاسيكيّة طرح رُؤاهم للحوار والنّقد بمنهجيّة التّاريخ، لأنّ الحوار دعوة للتّغيير، والعَقائد لا تتغيّر. لذا صارعت ما بعد الحداثة السُّلطة في سيطرتها على التّاريخ وفي جمودها ورفضها للحوار.

هوامش ومصادر:
  1. Absence of evidence is not evidence of absence [🡁]
  2. Callum Brown, op.cit. 2013, p. 18 [🡁]
  3. ibid. p. 29 [🡁]
  4. , op. cit. 2011, p. 10 [🡁]
  5. تُفرّق اللغة الألمانيّة بين العلوم الطّبيعيّة: Naturwissenschaften، وبين فروع المعرفة الأخرى: Wissenschaften [🡁]
  6. Aviezer Tucker, Op. cit. 2011, p. 17 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة[الجزء السابق] 🠼 [١] جدلية التاريخ والماضي[الجزء التالي] 🠼 [٣] الماديّة الجدليّة
جون إدوارد
[ + مقالات ]