عن طقس القسمة في القداس الإلهي كما سلَّمه الآباء القديسون يخبرنا العلاَّمة د. جورج حبيب بباوي نقلًا عن الأنبا بطرس أسقف بابليون من القرن الثالث عشر قوله أن شرح تقسيم الجسد في القداس الإلهي لم يُدوَّن لأنه كان يُسلَّمه الآباء سرًا، ولكن خوفًا من ضياع المعاني بسبب قلة الآباء الحاذقين والمعلمين فقد دوَّنه لمنفعة الكنيسة.
وللأسف لم يعثر د. بباوي علي أية معلومات لكتاب أنبا بطرس. ولكن الشرح الوحيد لطقس تسليم الجسد قد عثر عليه د. حبيب بباوي باللغة العربية في كتاب حكمة الآباء. وهي مخطوطة من القرن الثالث عشر منسوبة للعالم القبطي “سمعان بن كليل” أحد رهبان دير يوحنا القصير ببرية شيهيت بمصر. وننقل إليكم ملخصًا للمكتوب:
– يضع الكاهن يده اليمني على الصعيدة (قربان الحمل). وبإبهام يده اليمني يقسم القربان من أعلى إلى أسفل: لأن الابن الوحيد نزل من السماء إلى أسفل، ولأنه كائن في السماء وعلي الأرض.
– يمر بإبهامه اليمني على الثقوب الثلاثة التي على يمين القربانة من أعلى إلى أسفل موكدًا أسرار الخلاص: الميلاد من العذراء، والمعمودية في الأرْدُنّ، وموت الجلجثة والقيامة (وتمثله الثقوب الثلاثة) وهي الأسرار التي تُعطَي في القربان المقدس والدم الكريم. (ما سيقوله الأب في الجملة التالية ربما هو الإجابة على سؤال لماذا نتناول إن كنا قد أخذنا المعمودية والميرون؟) لأننا بعد المعمودية والمسحة لا نزال نولد حتى نكتمل في الدهر الآتي بالموت (أي بعد أن ننتقل من هذا العالم) والقيامة.
– ويُقسِّم القربانة إلى ثلث عن اليمين وثلثين عن اليسار ولا يفصل الثلث عن الثلثين. لأنه حسب تسليم الآباء أن ما عمله الرب وأعطاه لنا (ويمثله الثلث اليمين) هو خاص بأقنوم الابن الوحيد، فهو وحده الذي تجسد ومات وقام، وهو الذي قسَّم جسده وأعطاه لتلاميذه القديسين. من أجل ذلك تم تقسيم القربان المقدس إلى ثُلث هو ميراث الابن، وعلي اليمين لأنه عن يمين عظمة الآب، وثلثين أي ميراث الآب والروح القدس. فهو ميراثٌ واحدٌ يوزِّع الأقنوم الثاني ما يخصَّه علينا لكي نملك في ميراث الثالوث. ولا يفصل الثلث عن الثلثين لأن ميراث الابن لا يمكن فصله عن ميراث الآب والروح القدس، فهي نعمة واحدة وصعيدة واحدة للآب والابن والروح القدس حسب القداس الكيرلسي أو قداس مار مرقس الرسول ”هذا الذي بواسطته (أي المسيح) نشكر ونقرِّب لك (أيها الآب) معه ومع الروح القدس الثالوث المقدس المساوي غير المفترِق“. لأن الكنيسة الجامعة تقرِّب القربان بواسطة رئيس الكهنة ربنا يسوع المسيح، للآب والروح القدس (كما هو واضح في هذه الصلاة) وللابن (كما هو واضح من صلوات كل القداس أن الكنيسة تقدم القربان للمسيح لكي يتحد به ثم نتناوله لنتحد به) الثالوث غير المفترق.
ـ وعند صلاة القسمة (تقسيم القربان) يضع الجسد المقدس على يده اليسري ويشير بأصبعه السبابة اليمني إلى الأسباديقون ويقول: ”الجسد المقدس“. والأسباديقون هو السيد نفسه في وسط القربانة لأنه في وسطنا.
– ثم يمد يده اليمني ويضع أصبع السبابة اليمني في الكأس، ويقول ”الدَّم الكريم“ ويرشم رشمًا واحدًا : لأنه سُفِكَ مرةً واحدةً عنا.
– ثم يرشم الجسد بالدم رشمين الأول من فوق والثاني من أسفل ويقول ”اللذان لمسيحه الضابط الكل“. وبالرشمين يعلن وحدة (اتحاد) النفس بالجسد بعد القيامة. (رشم الجسد بالدم والدم بالجسد، هو استعمال قديم شاع في القرن الخامس في الكنيسة السريانية، وذكره الأب ثيئودوريت وغيره من علماء السريان، ولكن يبدو أنه قديم جدًا وأقدم من القرن الخامس، لأن ”النفس هي الدَّم“ هو تعبير سفر اللاويين وهذا ما يشير إليه قول المخطوطة من اتحاد النفس (الدَّم) بالجسد ومفاده أن المسيح غلب الموت، وأن نفسه في اتحاد بجسده بعد القيامة، وأن هذا المسيح الحي القائم من الأموات هو جوهر الأفخارستيا).
– والرشم الأول هو من فوق لأن الرب علقوه علي الصليب. والرشم الثاني هو من أسفل لأن الرب نزل إلى الجحيم لكي يفك المأسورين.
– ثم يأخذ الأسباديقون ويضعه في الكأس مقلوبًا، لأن سيدنا المسيح دُفِعَ إلى الموت مثل حملٍ والحمل يُوضَع على ظهره حتي يذبحوه. وهو الحمل الواحد الحي القائم من الأموات الذي باتحاد الدَّم، أي النفس بالجسد، أكمل تقدمة الحياة بالقيامة من الأموات (أنظر الشرح في الفقرة السابقة). ولذلك السبب أيضًا عندما يمسك الكاهن الأسباديقون بيده فوق الصينية يقول جهراً ”أذكر يارب اجتماعاتنا باركها“، لأن السيد في وسط الكنيسة محاط بالرسل القديسين وبكل أعضاء جسده وهو الذي جمعنا معًا في وحدة جسده المقدس.
(سمعان بن كليل، كتاب حكمة الآباء)
ويلاحظ القارئ أن القربانة في كنيستنا تمثل الكنيسة بل الكون كله. لأن الرب في الوسط (يمثله الأسباديقون)، مُحاط بالرسل (ويمثلهم أثني عشر صليبًا يحيطون بالأسباديقون). وبجراح جسده (ويمثلها خمسة ثقوب). هذا كله محاط في دائرة بنقش كلمات هذا التسبيح الذي للشاروبيم والسارافيم ”قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت“ لأن الإفخارستيا المقدسة هي شركة السماء والأرض بهذا التسبيح حول ذبيحة المسيح غير الدموية (لأنها ليست إعادة لذبح ”الحمل“ أي ليست تكرار بل استمرار لذبيحة الصليب وخميس العهد). هذه هي القربانة علامة اتحاد السماء والأرض ومُلك المسيح المَلك رب السماء والأرض.
ونلاحظ أن القسمة ليست تقسيمًا للجسد. فالمسيح لا ينقسم، وإنما القسمة هي لإظهار واستعلان أعضاء الجسد الواحد الذي للمسيح بكل ما تم شرحه عما يعنيه القداس الإلهي حيث القربانة تضم فيها وحدة السماء والأرض: المسيح، الثالوث، أسرار الخلاص من تجسد/ معمودية/ صليب/ قيامة/ صعود ودخول إلى الأقداس (القيامة والصعود يمثلهما الثقبين على يسار القربانة). الرسل، الملائكة وتسبيحة قدوس قدوس. الكنيسة والعالم وترمز إليه القربانة في كونها مستديرة: ”إننا نقسِّم الجسد، أي تظهر أعضاؤه، أي الكنيسة، لأن الرسول يقول ”وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا“ (١كور: ١٢).
هذا المسيح الواحد هو الحقيقة التي تختفي خلف الجزء الطقسي الذي يبدأ من ”الجسد المقدس“، وإلى أن نقول ”جسد مقدس ودم كريم ليسوع المسيح ابن إلهنا..“ ( عن ميمر للعالم الجليل بولس البوشي على تقسيم الجسد)
ومن النصوص الأساسية ما قاله ق. كيرلس السكندري عن تقسيم وتوزيع ملابس المسيح عند الصلب:
”وهكذا يجب أن نفكر في رمز تقسيم ملابس المسيح التي رغم أنها قُسَّمت إلى أربعة أجزاء إلا أن القميص ظل واحدًا بدون تقسيم، وهذه إشارة إلى التوزيع، ووحدة الذبيحة“.
(كيرلس السكندري)
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد مع الاستعانة بكتابات د. جورج حبيب بباوي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟