«كونوا جميعًا متحدي الرأي، بحسٍّ واحد، ذوي محبةٍ أخوية، مشفقين، لطفاء»
(1بط 3: 8)
الشفقة والحنان والرحمة في أمثال الرب يسوع:
الرب يسوع المسيح أحب شعبه حبًّا جمًا، قال عنه القديس يوحنا الحبيب في إنجيله: «أحبهم إلى المنتهى» (يو 13: 1). لذلك كانت مفاهيم الرحمة والتحنن محور حديثه في ثلاثة من أمثاله.
ففي مثل الابن الضال، حين نظر الأب ابنه آتيًا في الأفق، عائدًا من البلدة البعيدة، بثياب رثة، تحركت أحشاؤه فيه وتحنن عليه (لو 15: 30)؛ فهذا الأب الشفوق يعبّر في إيجاز تام عن إنجيل نعمة الآب ورحمته.
والسامري أيضًا تحنن على رجل مجروح وجده في طريق أريحا، كان قد وقع بين اللصوص، فعرّوه وجرحوه وتركوه بين حي وميت. لم يكن هذا السامري يعرف إن كان ذلك الرجل هو أخٌ له سامري مثله أم لا، وإنما عرف شيئًا واحدًا: إنه أخ له في الإنسانية محتاج إلى معونته بأسرع ما في استطاعته، عساه يمكن أن يرى نور فجر جديد. والقصة تصوير مؤثر للوصية العظمى لمحبة الله والآخرين (لو 10: 37)، التي هي خلاصة الناموس والأنبياء (انظر مت 22: 34-40؛ رو 13: 9).
وفي مثل آخر تكلم الرب يسوع عن ملك تحنن على عبدٍ له كان مديونًا بدَين كبيرٍ، فأعفاه الملك من الدَّين كله، بلا قيد أو شرط (مت 18: 23-35). وحينما أخفق العبد أن يُظهر نفس الرحمة والشفقة نحو أخيه العبد أيضًا، إذ كان ذلك مديونًا له بدين صغير، غضب الملك جدًا. والمفهوم هنا واضح: هؤلاء الذين نالوا رحمة وشفقة الله غير المحدودة، عليهم أن يردوا الفضل إلى الآخرين.
وهذا المفهوم خاصة كان ينطبق على الكنائس التي كتب إليها القديس بطرس الرسول. فبواسطة نعمة الله ولدوا ثانية لرجاءٍ حي (1بط 1: 3)؛ لم يكونوا شعبًا وبواسطة رحمة الله صاروا «شعب الله» (1بط 2: 10). هكذا، يتحتم علينا نحن أيضًا أن نكون رحماء، مُظهرين الرحمة والتحنن نحو بعضنا البعض، فهذا ليس متروكًا لاختيارنا بل هو أمر حتميٌّ.
الرحمة والتحنن عند القديس بولس الرسول:
يشير القديس بولس إلى المشاعر الرقيقة التي كان يكنُّها هو وشركاؤه تجاه أعضاء الكنائس التي أسسها. هذه المودة سُئل عنها القديس بولس في كورنثوس (2كو 6: 12؛ 7: 15)؛ وهكذا كتب -جزئيًا- لكي يؤكد هذه المحبة. وفي فيلبي، لم يكن هناك أي شك في محبة القديس بولس؛ فبأقوى تعبير ممكن كتب إن الله «شاهد» لاشتياقه إليهم «في أحشاء splanchna يسوع المسيح» (في 1: 8). وكانت محبة أعضاء هذه الكنيسة (أي كنيسة فيلبي) لبعضهم البعض قد بدأت تفتر، فتوسل القديس بولس إليهم أن يهتموا أن تكون لهم أحشاء ورأفة المسيح، أي يتمثلوا بها (وهو يستخدم التعبير الرمزي الذي استُعمل ليصف «أحشاء رحمة إلهنا» في لو 1: 78).
أما رسالة الرجاء التي أرسلها القديس بولس إلى فليمون ليقبل مرة أخرى العبد الهارب “أنسيموس” كأخ في المسيح، ففيها نجد إن فليمون قد أعطى للقديس بولس فرحًا كثيرًا وتعزية لأن أحشاء splanchna القديسين قد استراحت فيه (فليمون: 7). ثم بكل جسارة يصف أنسيموس أيضًا أنه أحشاؤه (فليمون: 12). وختم طلبه بأن توسل إلى فليمون أن يُريح أحشاءه في الرب (فليمون: 20)، وقد عبَّر بذلك عن مركز النفس البشرية وقيمتها في قلب وحياة بولس الرسول.
الرحمة والتحنن في الفكر المسيحي عامة:
إن كانت المحبة هي تاج الفضائل المسيحية، فإن من ثمارها النبيلة نجد الرحمة والتحنن كثمرة مزهرة تُغني وتسمِّن النفس البشرية. لذلك فإن القديس يوحنا الإنجيلي يقول بكل وضوح إن الذين لديهم مصادر مادية متوفرة ويغلقون «أحشاءهم splanchna» عن عطاء المحتاجين؛ هؤلاء ليس لديهم محبة الله ساكنة فيهم (1يو 3: 17).
والشفقة أو الرحمة هي فضيلة أساسية في الجماعة المسيحية (انظر أف 4: 32؛ كو 3: 12). ويرى القديس بطرس الرسول أن ما يميز المسيحيين هو تفاعلهم مع الآخرين من عمق كيانهم بمشاعر فيها الرحمة والحنان.
ويعتبر آباء الكنيسة إن الرحمة والشفقة هما من سمات الإنسان المسيحي، وقد أدرجها المسيحيون فيمَا بعد ضمن المواصفات الأساسية للقادة الروحيين؛ كما ذكر ذلك القديس الشهيد بوليكاربوس في رسالته إلى أهل فيلبي (5: 2؛ 6: 1). وهي مرتبطة بكلمة “فيلانثروبيا = philanthropy” أي المحبة لبني البشر، كما يوضح ذلك العلامة أوريجانوس مثلًا في الرد على كلسوس في مواضع متفرقة (1: 23؛ 12: 30). ويسميها العلامة كلمندس الروماني في رسالته الأولى إنها الصلاح الأعظم (9: 23؛ 12: 30).
وفي سير الآباء القديسين نجد ذخرًا من أعمال الرحمة التي رويت في كتاب بستان الرهبان وفي كتب تاريخ الكنيسة، ومن أمثلتها:
قصة أنبا أغاثون والمجذوم:
حدث مرة أن مضى أنبا أغاثون إلى المدينة ليبيع عمل يديه، فوجد إنسانًا مجذومًا على الطريق، فقال له المجذوم: “إلى أين تذهب؟” قال له: “إلى المدينة”. فقال له المجذوم: “اصنع معي رحمة وخذني معك”. فحمله وأتى به إلى المدينة. ثم قال له المجذوم: “خذني إلى حيث تبيع عمل يديك”، فأخذه. ولما باع عمل يديه، سأله المجذوم: “بكَمْ بعت؟” فقال له: “بكذا وكذا”. فقال له المجذوم: “اشترِ لي شبكة”. فاشترى له. فقال له المجذوم: “خذني إلى الموضع الذي وجدتني فيه أولًا”. فحمله ورده إليه. فقال له الرجل: “مبارك أنت من الرب إلهنا الذي خلق السماء والأرض”، فرفع أنبا أغاثون عينيه فلم يره لأنه كان ملاك الرب أُرسل إليه ليُجرِّبه.
(بستان الرهبان طبعة دير أنبا مقار، قول رقم 154)
قصة الناسك الذي عمل الرحمة فرفع الله الغلاء عن الأرض كلها:
قيل عن شيخ إنه كان كثير الرحمة، فحدث غلاء عظيم، ولكنه لم يتحول عن فعل الرحمة حتى نفد كل شيء له، ولم يبقَ عنده سوى ثلاث خبزات؛ فأتاه سائل على بابه يطلب خبزًا. فقال لنفسه: “جيد لي أن أكون جائعًا، ولا أرد أخ المسيح خائبًا في هذا الغلاء العظيم“. فأخرج خبزتين له، وأبقى لنفسه خبزة واحدة، وقام وصلى وجلس ليأكل؛ وإذا سائل آخر قد قرع الباب، فضايقته الأفكار من أجل الجوع الذي كان يكابده داخله، ولكنه قفز بشهامة، وأخذ الخبزة وأعطاها للسائل قائلًا: “أنا أومن بالمسيح يسوع ربي، إني إذا أطعمت عبده الجوعان في مثل هذا الوقت الصعب، فإنه يطعمني هو من خيراته التي لم ترها عين، التي أعدها لصانعي إرادته“. ورقد جائعًا، وبقي هكذا ثلاثة أيام لم يذق شيئًا، وهو يشكر الله. وبينما كان يصنع خدمة بالليل، جاءه صوت من السماء يقول: “لأجل أنك أكملت وصيتي، وغفلت عن نفسك، وأطعمت أخاك الجوعان، لا يكون في أيامك غلاء على الأرض كلها“. فلما أشرق النور، وجد على الباب جمالًا محمَّلة خيرات كثيرة، فمجَّد الله وشكر الرب يسوع المسيح، ومن ذلك اليوم عمَّ الرخاء الأرض كلها.
(بستان الرهبان، طبعة دير أنبا مقار، قول رقم 916)
القديس سيرابيون والإنجيل:
مضى أنبا سيرابيون إلى الإسكندرية، فوجد هناك إنسانًا مسكينًا عريانًا في السوق، فوقف يحدِّث نفسه قائلًا: “كيف وأنا الذي يقال عني راهب صبور عمَّال أكون لابسًا ثوبًا، وهذا المسكين عريان؟ حقًّا إن هذا هو المسيح والبرد يؤلمه“. فإذا به يقوم بقلب شجاع وتعرَّى من الثوب الذي كان يلبسه وأعطاه لذلك المسكين، ثم جلس عريانًا والإنجيل في يده، واتفق أن كان المحتسب مجتازًا (أي من يجمع الضرائب)، فلما أبصره عريانًا قال له: “يا أنبا سيرابيون مَنْ عراك؟” فأشار إلى الإنجيل وقال: “هذا هو الذي عرَّاني“. فبعدما كسوه، قام من هناك، فوجد إنسانًا عليه دين، وهو معتقل من صاحب الدين، وحيث لم يكن لديه شيء يوفيه عنه، باع الإنجيل ودفع ثمنه للدائن ولما كان ماشيًا لاقاه في الطريق إنسان يستعطي، فأعطاه الثوب وجاء عريانًا، فدخل قلايته. فلما أبصره تلميذه هكذا، قال له: “يا معلم، أين الثوب الذي كنت تلبسه؟” أجابه قائلًا: “لقد قدمته يا ولدي قدامنا حيث نحتاجه“. فقال له أيضًا: “وأين إنجيلك يا أبتاه الذي كنا نتعزى به”. قال له: “يا ولدي لقد كان يقول لي كل يوم: بع كل ما لك وأعطهِ للمساكين“
(بستان الرهبان، طبعة دير أنبا مقار، قول رقم 254)
الرجاء في الرحمة:
سأل أخٌ الأنبا أنطونيوس قائلًا: «ماذا أعملُ لكي أجدَ رحمةَ اللهِ»؟ أجابه القديسُ قائلًا: «كلُّ موضعٍ تمضي إليه اجعل اللهَ بين عينيك، وكلُّ عملٍ تعمله يكونُ لك عليه شاهدٌ من الكتبِ، وكلُّ موضعٍ تسكنه لا تنتقل منه بسرعةٍ. احفظ هذه الثلاثةَ تجدَ رحمةً».
(بستان الرهبان، طبعة دير أنبا مقار، قول رقم 21)
هذه الأقوال وغيرها الكثير، توضح وتلخِّص المبدأ المسيحي الذي يقول إن المسيحية هي حياة محبة ورحمة أولًا وأخيرًا.