إن القداس الإلهي يختص بالكنيسة والمسيح. لذلك ينبغي أن نعرف كيف يرى المسيح الكنيسة حتى نفهم ما يجري في القداس.
لقد حدثت ردة عن مفهوم الكنيسة بعد القرن السادس عشر في أوروبا بسبب استخدام الفلسفة وعلوم الاجتماع في تعريف الكنيسة، وأنها جماعة بشرية تجمعها وحدة الهدف وينظمها القانون والحياة الاجتماعية، ويربط بين هذه الجماعة العواطف والصلوات والاحتياجات الروحية وغيرها من احتياجات مادية أو سياسية.. ألخ.
لقد كان ق. أغسطينوس هو أخر الآباء اللاتين الذي احتفظ بعلاقة ومعرفة محدودة بما كان يُكتَب ويُنشَر في الشرق المسيحي، وبموته جاءت أجيال من اللاهوتيين لا تعرف عن التراث الشرقي إلا القليل. وهكذا نشأ الفكر الغربي بعد وفاة أغسطينوس على أرض الفلسفة اليونانية وبخاصة أرسطو وفي إطار ثقافة العصر الوسيط منذ القرن الحادي عشر. فبدأت النظريات اللاهوتية تنتشر في الغرب عن اللاهوت المسيحي وتشرحه متأثرة بهذه الأوساط دون أن تناقض الإيمان بالعقيدة المسيحية نفسها. فالعقيدة والإيمان المسيحي واحد شرقًا وغربًا. وقانون الإيمان النيقاوي هو الصيغة الرسولية التي تعترف بها وتقبلها كل الكنائس المسيحية. هذه حقيقة لا جدل عليها.
فالإيمان المسيحي واحد ولكن الشرح يتمايز بين الشرق والغرب في حين أن العقيدة المسيحية في شكلها الرسولي واحدة وبحسب كلمات الرسول بولس:
“فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ”.
(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 15: 3، 4)
فالعقيدة المسيحية كالتثليث بأن الله واحد هو الآب والابن والروح القدس، والتجسد الإلهي، والصليب، والقيامة.. ألخ، هي عقيدة واحدة شرقًا وغربًا. ومن يخطئ في العقيدة يكون هرطوقيًا وليس مسيحيًا. أما شرح العقيدة، فهو متعدد، فيوجد شرح أرثوذكسي وشرح غير أرثوذكسي.
ولقد واجهت الأرثوذكسية الاتجاهات المسيحية غير الأرثوذكسية بتفنيد ما فيها من تفسيرات ونظريات لا تعتمد على الكتاب المقدس أو تقصر عن تكامل تفسيره، بالتالي تقاطعت مع ما في تاريخ الكنيسة وممارستها الليتورجية منذ ألفي عام، الذي نسميه ”التقليد الكنسي“، ولكن الخطورة هي أن ترتدي هذه النظريات والاتجاهات الفكرية عباءة الأرثوذكسية. هذا هو ما تواجهه الكنيسة القبطية في العقود الأخيرة.
على سبيل المثال فقد فشلت تلك النظريات اللاهوتية غير الأرثوذكسية في إدراك العلاقة بين عقائد الخلق والسقوط والفداء من ناحية، والأسرار الكنسية المستقرة في تاريخ الكنيسة منذ نشأتها، من ناحية أخرى. فنشأ اتجاه لتجزئة العقائد إلى وحدات منفصلة دون الاحتفاظ بالنظرة اللاهوتية الأرثوذكسية الشاملة التي تضم كل العقائد معًا حيث أن أساس الإيمان هو المسيح الواحد غير المنقسم.
لقد قسموا المغفرة إلى مغفرة عن ”خطية جدية“ تُعطى في المعمودية، ومغفرة عن ”خطية فعلية“ تُعطى في سر التوبة. وامتد خط التقسيم إلى كنيسة منظورة مجاهدة على الأرض وكنيسة غير منظورة منتصرة في السماء. وأن الكنيسة إكليروس وعلمانيين (وهو تقسيم متأخر تاريخيًا). وقسموا الكهنوت نفسه إلى كهنوت يمارسه المسيح في السماء وآخر يمارسه الكهنة على الأرض (في حين المسيح هو الكاهن الوحيد، والإكليروس هم خدام لأسراره وهو الذي يقوم بها).
وفي النهاية قسموا ذبيحة المسيح الواحد إلى ذبيحة المسيح على الصليب وأخرى في الإفخارستيا وثالثة هي الكنيسة جسد المسيح. بينما المسيح واحد هو سواء في بيت لحم مولودًا، في معموديته بالأردن، في التجربة على الجبل، في العلية، في جثسيماني، على الجلجثة مصلوبًا، في القيامة، عن يمين الآب في السماء، وفي العنصرة. فالمسيح الواحد يجمع في شخصه أحداث الخلاص. ومنه تنبع واحدية ووحدة كهنوته وذبيحته. هذه هي ذات الوحدة التي تربط سيرته وكلمته في إنجيله وممارسة الكنيسة على مر تاريخها بطقوسها وأسرارها. لقد فشل فكر الإنسان الباحث عن الله أمام فكر الله الباحث عن الإنسان الذي أعلن عن ذاته في ابنه بالروح القدس وكما استقر في الكنيسة الأرثوذكسية وتفسيرها الشامل.
رجوعًا إلى ما بدأنا به عن رؤية المسيح لكنيسته، نقول أن تعريف الكنيسة باستخدام المجال الفكري من فلسفة وعلوم اجتماع، ولو أنه صحيح كتعريف بشري للكنيسة، إلا أنه أزاح الحديث عن القداس والإفخارستيا كسِّر لحضور المسيح، بحيث أصبحت الجماعة لا يربط بينها أي رباط إلهي. بل هي مجرد رابطة إنسانية نابعة من الأعضاء.
ولكن الحقيقة أن المسيح أسس الكنيسة كسِّر نابع منه يجمع الكل معًا في شخصه الواحد وهو رأس الكنيسة، ليخلق الحياة الجديدة في كل عضو ويغذيها دائمًا فيه.
وبالتالي فإن الكنيسة هنا ليست مجرد جماعة بشرية كما تبدو من الخارج بل هي كيان المسيح وجسده الواحد.
نحن هنا أمام أمر قائم وأطرافه حاضرون بالفعل، وهم المسيح الحاضر بشخصه الحي حاملًا فيه كل الأحداث التي جازها من أجلنا دون تكرار بل استمرار. ونحن حاضرون لكي ينقلها الروح القدس إلينا من خلال هذا السر الإلهي.
الرب عندما يقول إن “حبة الحنطة”، فهو لا يظل وحده، بل كما وقعت حبة الحنطة في الأرض وتبدو كأنها ماتت، إلا أنها تأتي بثمر كثير. هذا ما قاله الرب وصنعه. فقد اختار له المجد أن تقع حبة الحنطة في طين طبيعة الإنسان الساقط و تموت. ومتى ماتت تأتي بثمر كثير هم نحن شعبه الذين يجلس هو في وسطنا ويوزع علينا حياته ويعطينا ذاته في الإفخارستيا: ”ها أنا والأولاد الذين أعطاهم إياي الرب“.
إن المرء يتَحَيَّرَ في أمر قربانة من طحين الحنطة نقدمها في القداس. هل هي الرب الذي قدم ذاته كحبة حنطة كما نصلي في القداس: “هوذا كائنٌ معنا الآن على هذه المائدة عمانوئيل إلهنا حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله. الجالس علي كرسي مجده، الذي يقف أمامه جميع الطغمات السمائية“، أم هي نحن بطبيعتنا وقد غاص الرب في طينها واقتحم موتها واتحد بها وأحياها.
تارةً تشير صلاة القداس أن ذبيحة الإفخارستيا تمثل الطبيعة البشرية الجديدة التي لنا في المسيح حين نصلي ونشير إلى القربان قائلين “أصعدتَ باكورتي إلى السماء“. وتارةً أخرى تشير الصلاة أنها جسد الرب ودمه حين نصلي ونشير إلى القربان قائلين: ”أعطيتني إصعاد جسدك بخبز وخمر“.
هذا هو قداس المسيح والكنيسة. وفي هذه الأجواء فإن عبارة ”هذا أصنعوه لذكري“ هي حضور حقيقي للمسيح في الإنسانية التي اتخذ منها جسدًا ليسكن فيه على الدوام. فالإفخارستيا هي استمرار التجسد الإلهي وتأكيد لاتحاده الدائم بنا. فتجسد الرب غير مؤقت أو محصور في زمان ومكان قديم كحدث نتذكره لأن الرب ”سكن بيننا/ فينا“ (يوحنا ١٤:١)
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد مع الاستعانة بكتابات للعلامة د. جورج بباوي
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟