المقال رقم 6 من 6 في سلسلة تحرير اﻹيمان من سلطة الدين

راسلته صديقته الملحدة قائلة:

هل تؤمن بالله أو بأي إله؟

أنا شخصياً لا أؤمن بوجود إله. كما أني بصراحة أجد صعوبةً في هضم “الله” على الرغم أنى ولدت مسلمة متدينة… أجد هذا “الله” متناقضاً بإصداره عدة رسالات يختلف كل واحد منها عن الآخر ومع ذلك، يريد منا اتباع ما فيها.

أنا معجبةٌ جداً بما تكتب، وأرى فيه إلهاماً للقلة التي تمتلك القدرة على التفكير، وأتمنّى لو أعرف إذا كنت تؤمن حقيقة بأي إله، خصوصاً وأنني لاحظت أنّ لشخصية المسيح مكاناً عظيماً لديك.

جوابك على تساؤلاتي أمرٌ مهمٌّ جداً لي

كان ذلك بعض ما جاء في رسالتين من قارئة لأحد النقاد الإصلاحيين الذين يفترشون أرصفة التواصل الاجتماعي…
سألته سؤالًا، لطالما طرحه على نفسه، ولم يحظَ يومًا له بجوابٍ مقنع: هل أنا مؤمن؟
ربما عليه، كي يصل إلى جواب حقيقي لهذا السؤال، أن يجد جوابًا مقنعًا لسؤال آخر: ما هو الإيمان؟
مفهوم الإيمان لا يختلف من دين لآخر فقط… إنما من فردٍ لفردٍ…
لا…
بل إنه لَيَختلفُ في فكـرِ الفردِ الواحدِ بين يومٍ وآخر!

إيمان الطفولة المُطوّب

كان للناقد مع الإيمان، حين كان في الحادية عشرة من عمره، لقاءٌ لا يمكن أن ينساه… كان يقضي بعض أيام الصيف في محلّ أبيه، يعينه بقدر ما يستطيع صبيّ بذلك السن أن يُعين… وكان أحد الزبائن من أصحاب ورشات التصليح، رجل مسلمٌ، حذّره أبيه منه بقوله: أنه ما أن يراه حتى سيبدأ بالحديث عن الدين محاولًا إقناعه بأن الإسلام هو الدين الحقيقي… كان زبونًا مداومًا لأبيه، ورغم المناقشات الدينية فقد كانت علاقتهما طيبة… أو بالأحرى، علاقة دبلوماسية، لم تبلغ مرحلة الشجار يومًا.

أقبل أبو عيد -كان ذاك اسمه- ونظر إلي الطفل فقال لأبيه: ماذا يفعل هذا الصغير الضعيف البنية عندك؟ إنه لا يصلح لعملٍ كهذا! فأجابه الأب قائلًا: على الأقل يتعلّم العمل… ولكن إن غرّك حجمه، فلا تستخفّ عقله… جرّبه في أمور الدين إن شئت فهو أدرى مني.

ربما لم يكن الصبي في الحقيقة على ما وصفه أبيه من خبرة واسعة في أمور الدين… ولكنه كان على عكس أقرانه من الأولاد فى تلك السن، كان محبًا للقراءة إلى حدّ الهوس، وكان مهووسًا بالكتب إلى درجة أستدانة المال لشرائها… لابدّ لي من الإشارة إلى أن الصبي، آنذاك، كان تلميذًا في مدرسة رهبانية، قضى فيها سنينًا متواصلة… قرر بعدها أنه لا يريد أن يصبح كاهنًا.

نظر إليه أبو عيد بعد أن عرف من أبيه قصة انتهاء دراسته، وقال له بلهجة تحمل معنى السخرية: يبدو أنّك لم تجد في المسيحية ما يسعد قلبك، ولذلك عليك أن تؤمن بالإسلام والله الواحد، عوضًا عن الخرافات التي يؤمن بها أبوك.

طال صمت الصبي… وأبو عيد وأبيه ينظران إليه صامتين… وأخيرًا،، نظر إلى عيني “أبو عيد” وقال له: وهل أنت مؤمن بالله وبكل ما يقوله؟
أجاب أبو عيد تعلو شفتيه ابتسامة هازئة: طبعًا أنا مؤمن… ماذا تعتقد؟
فكرر الصبي بهدوء: هل تؤمن حقًا بكل ما يقوله الله؟
حوّل أبو عيد وجهه عن الصبي ونظر إلى أبيه قائلًا له: عمّا يتحدّث فيلسوفك الصغير؟ طبعًا أؤمن بكل ما يقوله الله!
قال الصبي: وأنا أيضا، أؤمن.

آنذاك تململ أبو عيد وقال له: إلام ترمي بكل هذا الغموض؟
قام الصبي من حيث كان جالسًا على صندوقٍ صغير قرب طاولة أبيه… وأمسكت يده بيد أبو عيد وهو يجذبه للخارج ويقول: تعال معي لأريك ماذا أعني
نظر أبو عيد إلى عيني الأب في حيرة، وكأنما يسأله عمّا إذا كان ولدًا طبيعيًا أم لا، فأومأ الأب برأسه مبتسمًا، لكنه هو الآخر لم يخفِ استغرابه، وقال: اذهب معه، ولسوف ترى وأرى أنا أيضًا!

إيمان الواقفين أمام أتون النار

كان بالخارج مخبز صغير من النوع الآلي… شخص يضع العجين على السير الحديدي المتحد بالنيران… وآخر يستلم الناتج من الناحية المقابلة والتي نضجت في ثوان بفعل أتون النار على الحديد المتقد. أخذ الصبي بيد أبو عيد وقاده باتجاه المخبز الآلي… وهناك، وقف أمام فتحة التنور وقال له: أنت تؤمن بما يقوله الله وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا… فما رأيك أن تمتحن إيمانك، وأمتحن أنا إيماني، فندخل معًا إلى هذا التنور، والذي يخرج بيننا سالمًا، يكون هو صاحب الإيمان الأقوى

وفورًا، وبمنتهى الحسم، وقت تلفظه بتلك الكلمات، أخذ الصبي يتسلّق الدرجات ببطء باتجاه فتحة التنور، جاذبا خلفه أبو عيد… إلى أن شعر بيد أبو عيد تمسك به وتشدّه من خلفه.

كان عقله ـ ولم يمضِ بعدُ زمنٌ طويلٌ على العودة من المدرسة الرهبانية ـ لا زال تحت تأثير سنوات من الحياة الروحية… كان إيمانه بالله قويًا، لكن ليس إلى درجة يمكنه معها أن يثق بأن الله سيخرجه من التنور حيًا إن غامر ودخل فيه… لكن يبدو أن ثقته وثباته كانتا بمقدار يكفي لزرع الخوف في قلب “أبو عيد” الذي أخذ بيده وعاد به إلى أبيه مهرولًا ليقول له، بأن ابنه مجنون!

شعر أباه بالفخر وهو يقول للرجل الواقف أمامه بعينين فاغرتين، أين هو إيمانك يا رجل!
وكذلك، ربما شعر الصبي بالسعادة لرؤية ابتسامة الفخر على وجه أبيه…

ولكنَّ أيًا من الاثنين لم يشعر بما كان يدور في فكر الصبي آنذاك…
لقد كان في صراعٍ داخلي مع الإيمان…

حيث اتضح أنّ أيًا منهما، لا أبو عيد، ولا الصبي، كان لديه أي إيمان حقيقي…
لقد كان كلُّ واحدٍ يحاول أن يبيع الآخر… شيئًا لا يملكه.

إيمان التبرير النظري

ربما يقول قائل أن أبو عيد رجلٌ بالغٌ راشد ولذلك فإنّ عدم استجابته لذلك التحدي الصبياني لا يعني قلة إيمان…
ربما يقول آخر أن أبو عيد كان بإمكانه الإجابة من نفس الإسلام: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة
كل هذا قولٌ حسن…
ولكن الثابت أن أبو عيد، الرجل البالغ الراشد، لم يبذل أيّ جهدٍ ليبرهن عن إيمانه بأي شكل للطائش الصغير.

ربما كان امتحان الإيمان ذاك بالنسبة للرجل، امتحانًا طفوليًا صبيانيًا،
وربما كان بالنسبة للصبي، امتحانًا خبيثًا يمتحن به الرجلَ ونفسه رغم سالف معرفته أنه لن يقدمَ عليه في اللحظة الأخيرة…
ولربما كان أيضًا مدفوعًا بروحانية السنوات التي قضاهما في وسط الرهبنة…
ربما، وربما… ومن يدري…

لكنّ أمرًا واحدًا عرفه الصبي…
وهو أنّ ذلك اليوم، كان بداية رحلة طويلة في البحث عن الإيمان…

إيمان الاختبار الشخصي

كثيرًا ما اقترب من الإيمان وهو يبحث عنه…
وكثيرًا ما ابتعد عنه…
لكنه كان دائمًا يكتشف، أن اقترابه من الإيمان وابتعاده عنه، لم يكونا نتيجة قناعات شخصية، إنما نتيجة تأثيرات خارجية…

يُقال أن بعض الناس بحاجة إلى معجزة كي يجدوا الإيمان…
والصبي الناقد يعترف بعد أن نضج وكبر بانه لم يمرّ بتجربة كهذه.

التفت إلى الآخرين – المؤمنين – يبحث عن الإيمان في نفوسهم…
لعله يستفيد من خبراتهم فيه…
فوجده إما نفاقًا…
أو جهلًا…
أو سذاجة…
أو تقليدًا…
أو وراثةً…

إيمان الخبراء الجماعي

وجده لدى أغلب رجال الدين، عبارة عن وظيفة يقتاتون منها…
ولدى آخرين من الدعاة، هو تجارة مربحة…
أما لدى السياسيين فهو أداة سيطرة وحشد جماهيري…

وجده لدى أمّه الطيبة البسيطة أدعيةً تكرر كلماتها، وتراتيل دينية تترقرق لدى سماعها الدموع من عينيها…
كما وجده لدى أم صديقه أحمد، ركعة صلاة أو ابتهالات وتعاويذ لا تفهم معناها، بل ولا تعرف من الدين غيرها…

وجده لدى أناس إعلانَ شهادةٍ ينطقون بها…
ولدى آخرين غطسةً في جرن معمودية، أو تناول قربانٍ…
وجده لدى الناس بمختلف أديانهم،
حجًا إلى مدينةٍ…
أو إلى نهرٍ…
أو قبرٍ…
أو حجرٍ…
أو تقشفًا واعتزالًا للدنيا…
أو تنسكًا في معبدٍ…
أو باديةٍ…
أو جبالٍ وعرة…

وجده في أدائهم لشعائر مختلفة،
كحلق الشعر…
أو إطالة الذقن…
أو رمي الأحجار على شياطين وهمية…
أو في عملية ختانٍ…
أو وضوء…
أو اعتراف بخطيئة…

أو في أية طقوس تخوّل الفرد عند بلوغه سنًا معينًا أن يصبح عضوًا نشطًا في حلقة المؤمنين…

رغم ذلك..
لم يتوقف الصبي الناقد عن البحث…
وقاده بحثه من جديد إلى بعض هؤلاء الذين تحدثت عنهم أنفسهم…
عاد ليجد الإيمان لدى كثيرين منهم على مختلف دياناتهم…
ولم يكن غريبًا أن وجد الإيمان عند أقلِّهم معرفةً بالدينِ وعلوم فقههِ أو لاهوته…
لا…
بل ليس غريبًا أبدًا إن قال بأنه وجد من الإيمانِ عند بعض الملحدينَ، ما لم يجده عند من يدّعون الإيمان!

إيمان دون دين

وجد الإيمان في بائع فواكه على عربة صغيرة، وهو يزيد الكيل بحبة فاكهة إضافية كي يتأكّد أنه لم يضع في جيبه قرشًا حرامًا…
وجده في طبيب يعالج في عيادته فقيرًا فلا يطالبه بمالٍ، إنما على العكس من ذلك، يعطيه من ماله ليشتري به الدواء…
وجده في جنديٍّ يحمل عدوّه الجريح على ظهره إلى شاطئ السلامة…

وجده في الأطفال… يلقى الواحدُ منهمُ الآخر، فيدعوه إلى اللعب معه دون مقدمات ودون سؤال عن أصلٍ أو دين…
وجده في كريمٍ محسنٍ يعطي، لا غاية له من عطائه ولا يرجو العوض، كما ولا يفرّق بين محتاج وآخر بناءً على عرقه أو دينه…

وجده في الأيدي الممدودة من أجل السلام، سواء آمن أصحابها بإلهٍ أو بحجر…
وجده في عابر سبيل مسرع إلى غايته، ولكنه لا يتردد عن العودة مسافات، ليلتقطَ من الأرض قطعة زجاج خوفًا من أن تجرح قدمًا تدوسها…
وجده في الحليم الصبور الذي لا يردّ على الإساءة بمثلها…
وجده في امرأةٍ رأت أن خير ممارسة لطقوسها الدينية هي تلك التي تتم خارج جدران هيكلها، كالأم تيريزا، التي قضت جلّ عمرها بين الفقراء والمرضى في الهند، أو الممثلة العالمية أنچلينا چولي التي تبنت أطفالا من أفريقيا السوداء ولم توقفها إصابتها بالسرطان عن العطاء…

وجده في آخرين من كل لونٍ ودينٍ وعمرٍ وجنسٍ، منهُ في كلٍّ منهمُ ما ليس لدى أنبياءَ وقديسين…
لقد رأي كل هؤلاء، يطبقون أفكار وتعاليم ذلك الشخص الذي لاحظتِ صديقته الملحدة بأنه معجب به…
سمعوا أم لم يسمعوا به…
آمنوا أم لم يؤمنوا به…
لقد رآه فيهم ورآهم فيه…

ولا أعتقد أن صديقته الملحدة تخالفه الرأي بأنّ العالم لو عمِل بتعاليم هذا الرجل، لنعِمَ كل من فيه وعليه بالرخاء والسلام.

إيمان دون إله

تسأله عما إذا كان حقًا يؤمن بوجود الله، أو بإلهٍ ما…

سيكون كاذبًا مع صديقته إن أجابها بقوله لا
وسيكون كاذبًا مع نفسه إن أجاب بقوله نعم

إن قال بوجود إلهٍ، فعليه كمفكّرٍ يقع عبءُ إثبات ما يقول…
وإن قال ليس إلهٌ، فعليه أيضًا كمفكّرٍ، يقع عبء الإثبات…
وإنه لمقرٌّ بأنه عاجزٌ عن هذا وعن ذاك…

يولد الواحد منا وربما يكون الله أولَ كلمة تغزو مسامعه…
بارك الله…
ما شاء الله…
أراه الله أيامًا حلوة…
حمدًا لله على سلامتك…
للهِ ما أجمله من طفل..
الله…

ويكبر الواحد منا ولا زال يسمع باسم الله أو الإله في كل خطوة ومرحلة من خطوات ومراحل حياته…
يخرج من البيت فتدعو له أمه بقولها، “الله معك… برعاية الله… أعادك الله بالسلامة… وفقك الله…”
يتعامل الناس مع بعضهم، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا بالله أو بإله، فيملّحون أحاديثهم باسمه كما يملّحون طعامهم…

نكبر ويصبح هذا الله أو الإله جزءًا منا…
ومن تفكيرنا…
سواء آمنا به أو لم نؤمن…
سواء عرفنا من هو، أو لم نعرف…

وإذا ما حاول الواحد منا أن يرفضه، فكأنما يحاول أن يرفض عضوًا من أعضاء جسده…
وإذا استمرّ على قبوله، فإنما يفعل ذلك إما تقليدًا أو مقنعًا أو حتى مرغمًا خائفًا من العقاب…

إيمان مجرد

أما هو…
فلا زال يبحث عن الله…
أو يبحث عن إلهٍ…
بعيدًا عن التقليد…
أو الإقناع…
أو الخوف من عقاب…

يبحث عنه وربما يموت قبل أن يجده…
ولربما يجده هو قبل أن يجده…

وحتى ذلك الحين…
سوف يكتفي بأن يراه فيمن حوله من الناس…

بائع الفواكه الأمين…
أو الطبيب الطيّب…
أو الكريم الذي لا يرجو العوض…
أو الجندي الذي يحمل عدوه على كتفه…
أو اليد الممدودة لأجل السلام…
أو عابر الطريق السامري الصالح…
أو الحليم الصبور…
أو الأم تيريزا…
أو أنچلينا چولي…

سيراه في بسمة كل طفل…
وفي حنان كل أمّ…
وفي عَرَقِ كلّ أبٍ…
وفي كلّ ابنٍ يقدّم لأبيه وأمّه كتفًا يتّكئان عليها…

سيراه في الزهور التي تزيّن الطبيعة…
وفي الأنهار…
والجبال…
والغيوم…
والبحار…

سيراه في كل ما هو جميل…
لأنه يتوقّع إن وجده أن يراه جميلًا…

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تحرير اﻹيمان من سلطة الدين[الجزء السابق] 🠼 المسيح مصلوباً