أينما وجد للرب حقولا وشعبا، فلا بد أن توجد الذئاب المسعورة، قاعدة كتابية وتاريخية لم تخب أبدًا، تختلف فقط في موقع الذئاب.

أحيانًا يتربع الذئب السمين على كرسي الراعي الكبير، فيجتمع حوله بقية الذئاب، ويقيمون حفلة شواء دائمة على شرف ولحم القطيع، وحين تشفق الأقدار على الرعية فينفق الذئب السمين، يخلف دغلا لا حقلا، دغلا تعيث به فسادا، الذئاب والضباع وكل أنواع الزواحف والأفاعي.

أحيانا أخرى حين تسوق الأقدار للحقل راعيا حقيقيًا، يجن جنون الذئاب ويتكالبون على الراعي الطيب، والرعية المثخنة بالجراح، يمارسون الافتراس والتمزيق.

شأن كل حقول الرب، لم تنقطع الذئاب المتسربلة بثوب الراعي عن كنيستنا، الفارق فقط يصنعه جناح علماني قوي، يضبط أداء “المرعى” ولولاه لكانوا التهمونا أحياء.

حكايتنا اليوم، حكاية عن ذئاب، لم تجد من يردعها، فتركت أثرا عميقًا ظل باقيًا حتى اليوم، وربما سيستمر أبدًا، بعد أن مزقوا أساسًا راسخًا للبناء، المرة الأولى بعد المشؤوم، تنتظم كراسي الشرق الأربعة: الإسكندرية والقسطنطينية وأنطاكيا وأورشليم، في وحدة وشركة حقيقية، لو استمرت لصار خلقيدونية أثرا بعد عين.

ولنبدأ الحكاية من بدايتها، بعد خلقيدونية بثلاثين عاما، وبعدما جرت مياه كثيرة في الأنهار، جاء “زينون” إمبراطورًا، وجاء “أكاكيوس” بطريركًا على القسطنطينية، كان الأول يرى إعادة الوحدة أهم ملفاته، والثاني مائلًا إلى غير الخلقيدونية، ولا يهمه في خلقيدونية سوى المكانة التي حصل عليها ، فصاغا معا “الهينوتيكون” منشورًا للاتحاد.

يبدأ المنشور بمقدمة عاطفية تتأسى على الحال الكنسي والواقع المزري الذي خلفه التطاحن، ثم ينتقل للاعتراف بقانون إيمان نيقية -بالفهم السكندري- كوثيقة الإيمان الوحيدة المقبولة، ثم الخطوة الجبارة بالاعتراف بالحروم الإثني عشر للقديس كيرلس، ثم، يحرم المنشور: كل من آمن أو يؤمن، الآن أو في أي وقت، سواء في خلقيدونية أو في أي مجمع، بأي إيمان آخر.

من وجهة النظر الأرثوذوكسية والإيمانية لم يشب المنشور شائبة، فضلا عن إسباغه المشروعية على الإيمان غير الخلقدوني ورفع الاضطهاد عن معتنقيه وإعادة فتح كنائسهم.

تم إرسال المنشور إلى البطريرك السكندري البابا بطرس الذي كان هاربًا متنقلًا بين عدد من أديرة الصحراء، كما أرسل للبطريرك بطرس القصار في أنطاكية، والبطريرك مارتيروس في أورشليم. اتفقت الكراسي الأربعة الشرقية -أو بالأحرى باباواتها- علي إعادة الاتحاد، إلا أن كل كرسي واجه مشكلاته الداخلية بسبب هذا التوقيع، و كان القاسم المشترك هو ال والرهبان.

في مصر تزعم مجموعة من الأساقفة آلاف الرهبان، رفضا لمنشور الاتحاد، وتصاعدت احتجاجاتهم ووصلت إلى الإمبراطور، الذي أرسل إليهم أكثر من رسول، جرت محاولات لعزل البابا القديس بطرس، لم تكلل بالنجاح لوقوف الشعب خلف بطريركه. انتهى الأمر بانشقاق هؤلاء الأساقفة ومؤيديهم وأطلق عليهم “عديمي الرأس” أو “مقاصيف الرقبة”. ولأنهم لم يستطيعوا ضم أحد من الشعب، انتهت هذه العصابة سريعا.

جدير بالذكر -والكاشف أيضا- إن أحد أفراد هذه العصابة كان راهبا نوبيا، انشق وأصبح أحد كبار المدافعين عن خلقيدونية، وهو من خلد اسمه قديسنا العظيم “ساويرس” في عمله الأول “في الرد على نيفاليوس”.

ويذكر أنه بعد وفاه البابا بطرس، رفع خلفه البابا الثاني اسمه من “الدبتيخا” طلبا لتوحيد الجميع وضم هذه الجماعة، إلا إنه اضطر إعادته تحت غضب وضغط شعبي عارم. ودائما لا يصح إلا الصحيح.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رجائي شنودة
[ + مقالات ]