- كنيستنا وتدوير الهرطقات
- مجمع قرطاجنة: الظروف والنشأة
- مجمع قرطاجنة: إعادة فحص
- مدخل إلى هرطقات التجسد
- هل كان أوطاخي أوطاخيًا؟
- مجمع أفسس الثاني
- انزلاقات قبطية نحو الأوطاخية
- انزلاقات اوطاخية معاصرة
- إعادة فحص لهرطقات التجسد
- طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة
- ☑ النسطورية: اقتراب حذر
- النسطورية.. دليلك الفريد للنقد والتفنيد
- البطريرك الغامض والاعتراف الأخير
هناك مجموعة من المنطلقات أخذها الآباء كضرورة مع محاولة فهم التجسد، وتكوين نموذج كريستولوجي يستلهم مقاصد التدبير الإلهي لحدث التجسد. هذه المنطلقات يمكن إجمالها فيما يلي:
الأول: واحدية شخص الكلمة المتجسد.
الثاني: تنزيه “الكلمة” كجوهر عما لاقاه شخص الكلمة المتجسد ولا يسري على الإله.
الثالث: ضمان كمال “الإنسان” في شخص الكلمة المتجسد، حيث أنه المعني بالخلاص وتمام التدبير.
الرابع: الحفاظ على “مركز الفعل” للكلمة نفسه، لأنه إذا لم يكن الله هو من قام شخصيا بخلاصنا، فباطل كل إيماننا.
بِنَى السكندريون نموذجهم مبكرا جدا، بالالتزام الصارم بهذه المنطلقات الذي يمكن إيجازه في العبارة الملهمة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”، وميزه “الاتحاد الأقنومي” أي إن الاتحاد تم على المستوى الأقنومي لطرفيه؛ أقنوم الكلمة أخذ أقنوما بشريا لم يحظ بوجوده المستقل قط خارج الاتحاد (ليس شخصا) فأصبح به أقنوم الكلمة مركبا ومتجسدا ومتأنسا.
هذا النموذج قبل مسكونيا ونظر له -بجانب السكندريين- لاهوتيو روما والآباء الكبادوك، وغالبية لاهوتي الشرق.
على الجانب الآخر لم يرق هذا النموذج لآباء مدرسة أنطاكيَة اللاهوتية وشرعوا في بناء نموذجهم الخاص، كان الاعتراض الرئيس هو أن هذا الاتحاد الأقنومي صائر حتما إلى الاختلاط، ثم أن “تخصيص” الكلمة (=شخص اللوجوس) كمركز للفعل قد أطاح مبدأ “عدم تغير الألوهة”.
لا أرى داعيا للتطرق لتاريخ التطور الفكري لهذه المدرسة، ما يهمنا أن الأمر انتهى لعدد من التلاميذ المخلصين الذين تجلّسوا على مقاعد الأسقفية في الشرق، سيلعب اثنان منهم في الأقل أدوارا مهمة في التاريخ الكنسي، وأعني بهما “ثيودوريت” أسقف قورش، و”نسطوريوس” بطريرك القسطنطينية الذي سنورد هنا بعض من اعتراضاته -باعتباره أحد الحلَقات الفكرية الهامة للأنطاكيين- على النموذج السكندري، الذي مثله في هذه الحِقْبَة القديس كيرلس الكبير.
فطبقا لنسطوريوس التأسيس على بداية بالله الكلمة لابد أن يقود حتما إلى الدوسيتية أو الأبولينارية، مثلما يقود التأسيس على الإنسان يسوع إلى “التبني”، فيقول مخاطبا ق. كيرلس:
“لقد بدأت تصورك مع خالق الكون، وليس مع بروسبون [شخص] الاتحاد، ليس اللوجوس هو من حوى الطبيعتين، بل هو الرب، الابن الواحد، يسوع المسيح هو من حواهما، هو الذي جمع كل صفات اللوجوس، الأزلي الخالد غير المتألم، مع صفات الناسوت وهو مخلوق، مائت و متألم، أضف إليه الصفات التي للاتحاد والتجسد”
(نسطوريوس مخاطبا القديس كيرلس السكندري)
ولكي نتابع فكر الرجل فهو ينفي كون “يسوع المسيح” هو اللوجوس نفسه متجسدا، هو يخلق “شخصا” جديدا يحوي شخص اللوجوس، بجانب شخص بشري، كل شخص من شخصي الاتحاد له مركز فعل مستقل، متحدان معا بالحب الإلهي والنعمة.
ما وصل إليه الرجل هنا حتمي ولا مفر منه، لمن يرفض التجسد بالاتحاد على المستوى الأقنومي، لأنه إذا كان الاتحاد الجوهري (على مستوى الجوهر) مرفوضا منطقيا، فلن يقودك الفكر إلا للاتحاد الشخصي، مع ما سينتجه هذا من صعوبات فنية وعدم مرونة فكرية.
ففي مقابل النموذج السكندري الذي ينتهي إلى شخص واحد هو الكلمة نفسه متجسدا، لدينا في النموذج الأنطاكي ثلاث شخوص؛ الكلمة، الإنسان يسوع، والمسيح الذي هو بروسبون الاتحاد الحاوي لهما معا.
سيستند الأنطاكيون إلى أن الكتاب المقدس عندما ينسب فعلا للتجسد، يتحدث عن المسيح أو الابن أو الرب، وليس عن الله الكلمة، الأمر نفسه في استنادهم للآباء وحتى لقانون الإيمان النيقاوي، فلهم تفسيرهم الخاص. فيقول نسطوريوس مخاطبا ق. كيرلس:
“إذا نظرت بتدقيق، ستجد أن آباء نيقية لم يقولوا إن طبيعة اللاهوت قابلة للمعاناة، ولا إن الواحد الأزلي مع الآب ولد زمنيا، ولا قالوا إن الذي أقام الهيكل المنقوض هو نفسه قام، انظر كيف استخدموا المفاهيم “رب” ثم يسوع، والمسيح، والابن، كأساس لهم، وبهذه الأسس يبنون تقليد التجسد، الآلام، والقيامة.”
(نسطوريوس مخاطبا القديس كيرلس السكندري)
سنستعرض هنا عدد من أقوال الرجل، التي ستوضح فكره، وربما أيضا تزيح بعض الأساطير التي تعودنا سماعها
“المسيح غير قابل للتقسيم، لكنه ثنائي، إله وإنسان، نحن لا نعترف بمسيحين، لكنه نفس الواحد الذي رأيناه في الخالق والمخلوق”
“لقد أبقيت الطبيعتين [في وجودهما] لكني وحدت العبادة، فهذه العبادة الموجهة للمسيح الواحد، تمتد إلى الإنسان أيضا، أنا أعبد ذلك الحامل من أجل الذي يحمله، ذلك المرئي من أجل ذلك المحتجب”
“لم أقل إن الإنسان كان واحدا، واللوجوس أخر، ما قلته أن اللاهوت بالجوهر شيء، والإنسان بالجوهر شيء آخر، لكن هناك ابنا واحدا بالاقتران [المصاحبة]”
(من أقوال نسطوريوس)
بدأت المناوشات بين المدرستين اللاهوتيتين بحذلقة لغوية نسطورية، في رفض استخدام اللقب المسكوني “والدة الإله” للقديسة العذراء، وتفضيل التسمية “والدة المسيح”.
فأثر جدال صاخب تسبب به أحد مقربينه الذين أحضرهم إلى القسطنطينية، وافق نسطوريوس أخيرا أن المصطلحين “والدة الإله” و”والدة الإنسان” غير هرطوقيين بذاتهما، إلا أن أيهما قد يقود إلى آراء حمقاء هرطوقية، فمن ناحية لم تكن العذراء هي مبدأ الكلمة، ومن الأخرى لم يكن المولود مجرد إنسان، والمصطلح الصحيح والأدق هو “أم المسيح”.
وجاء الرد فوريا وساخرا: “إذا كانت العذراء ليست -على وجه التحديد- أم الله، حينئذ ابنها ليس -على وجه التحديد- الله.
وبسبب هذه البداية شاع عن نسطوريوس أنه كان يعلم بوجود “ابنين” بالرغم من أنه لم يصرح بذلك أبدا، ولاحقا -في المنفى- أدان هذا التعليم بشكل واضح.
لا يعني هذا بالتأكيد براءة الرجل وأرثوذكسيته، فالخلل كامن في نموذج الاتحاد الشخصي الذي نظر له، وهو خلل جوهري.
الاعتراضات على هذا النموذج المعيب وجدت مطاعنا كثيرة، والحق أن هذا النموذج ينسف كثيرا من مقاصد التجسد، سنستعرض بعضها على سبيل المثال فقط، وبإيجاز.
الاعتراض الأول أن الاتحاد ليس له عدو أصيل سوى العدد، فلو إنك استطعت تفكيك الاتحاد إلى عناصر يمكن “عدها” فهي موجودة بشكل مستقل، ولا اتحاد هناك، وعند السكندريين فاختلاف الطبيعتين لا يعني الانفصال إطلاقا، فالوحدة الأقنومية لاشت الوجود المستقل والانقسام.
الاعتراض الثاني هو إذا كان هناك “يسوع” كشخص بشري، فلابد أنه هو فقط من قد خلص وتبرر، دون فائدة تذكر للبشرية، على عكس التصور السكندري الذي يوصف “المأخوذ” كعجينة البشرية، وجسد كل الخطاة (بتعبير الأب متى المسكين)
الاعتراض الثالث هو إذا كان هناك “يسوع” كشخص بشري، فماذا نتناول في الإفخارستيا، هل نتناول جسد “بشري”، وبالتعبير الآخر “ناسوت”!! لا شك أن هذا المفهوم يهدم جوهرة تاج المسيحية، عربون التأله.
كان التقليد الأنطاكي محليا محصورا، لا يثير القلاقل، حتى تبوأ نسطوريوس كرسي عاصمة الامبراطورية، فأعد العدة -مع الدعم الإمبراطوري ووجود عدد من الأساقفة اللاهوتيين الأنطاكيين على رأس كراسي هامة- ليكون هو التقليد المسكوني بدلا من التقليد السكندري، لم ينجح الرجل في محاولته، لكنها كانت أساسا هاما للنجاح الساحق الذي حققه معاصروه بعد عقدين من الزمان في خلقيدونية.
يطيب لي أن اختتم الحديث بمقولة ملهمة للقديس كيرلس يوجز فيها مأساة النسطورية، وجهها للأسقف ثيودوريت الذي سيرد ذكره كثيرا في قادم المقالات:
“إذا بدا تنازل الإخلاء ثقيلا عليك، فتعجب بالأحرى من محبة الابن لنا، وما تظنه وضيعا فقد أراد أن يفعله من أجلك”
(القديس كيرلس السكندري)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟