- كنيستنا وتدوير الهرطقات
- مجمع قرطاجنة: الظروف والنشأة
- مجمع قرطاجنة: إعادة فحص
- مدخل إلى هرطقات التجسد
- هل كان أوطاخي أوطاخيًا؟
- مجمع أفسس الثاني
- انزلاقات قبطية نحو الأوطاخية
- انزلاقات اوطاخية معاصرة
- ☑ إعادة فحص لهرطقات التجسد
- طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة
- النسطورية: اقتراب حذر
- النسطورية.. دليلك الفريد للنقد والتفنيد
- البطريرك الغامض والاعتراف الأخير
لا شك أن التعبير البشري عن "كينونة" التجسد سيقف عاجزا، فنحن نستعمل المفردات المتاحة لدينا، التي أنتجها العقل البشري، ولكن ماذا عن "سر" التقوى!! لا شك أنه يفوق قدرات التصور، حتى حين اجتهد الآباء لاستخدام أمثلة تقرب "الحدث" جاءت قاصرة تغطي جانبا واحدا فقط، وعليه فنحن نستطيع القول إننا نعرف كيف "لا يكون" التجسد، أكثر بكثير مما نعرفه عن كيف "يكون" التجسد، الأمر والحالة هكذا. لا مناص من أن يؤدي إلى خلافات عميقة تظهر فهما مختلفا لزوايا "السر".
في مقال سابق “مدخل إلى هرطقات التجسد” تحدثنا عن حالات الخلل في فهم التجسد، وحان الآن أن نسبح أكثر عمقا مستخدمين المفاهيم التي استعملها الآباء لمحاولة الاقتراب من فهم “كينونة” التجسد، أو بالأحرى كيف “لا يكون” التجسد (وهو ما يعرف بالهرطقات).
جوهر.. طبيعة.. أقنوم.. شخص..
كان من المحتم استخدام الآباء للمفردات التي تناولت الوجود الفيزيقي والميتافيزيقي من قبل الفلاسفة السابقين على ظهور المسيحية، فمن ناحية: لوحدة الموضوع وسبق فحص العلاقة “المخلوق – الخالق”، ومن ناحية أخرى: لخلق لغة مشتركة مع الوثنيين تسهل من فهمهم للمسيحية. ولا شك أن الفضل الأعظم لهذا يعود للسكندريين، وباﻷخص العلّامة القدير “أوريجانوس”، الذي أدخل استعمال هذه المفردات في اللاهوت، ونقلها عن السكندريين الآباء الكبادوك، حتى استقرت مفاهيم ودلالات هذه المصطلحات في مجمع سكندري عقد برئاسة القديس أثناسيوس عام 362م، وأصبح وصف الثالوث الإلهي بعبارة “جوهر واحد وثلاثة أقانيم” هو علامة الاستقرار على الاستخدام الشائع للمصطلحات مسكونيا.
الجوهر:
الجوهر هو الأساس المجرد المشترك لأفراد من نفس “النوع”، والجوهر هو ما يجعل الفرد منتميا لهذا “النوع” طبيعيا، وهو أيضا ما يعطي لهذا “النوع” فرادته بين باقي الأنواع.
فالجوهر الإلهي هو المشترك بين ثالوث الأقانيم الإلهية.
والجوهر البشري هو المشترك بين جميع أفراد [=أقانيم] البشرية منذ خلقهم حتى اليوم الأخير.
الجوهر يمكن إدراكه بالذهن فقط، فهو لا يوجد في الواقع إلا خلال أقانيم تمثله، وسنلاحظ أنه لا يمكن تصور أنه يقبل التركيب وإلا أنتج جوهرا جديدا و”نوع” جديد.
الأقنوم:
الأقنوم هو التعبير عن [=ظهور] الجوهر ووجوده المستقل في الواقع.
والأمر هنا معقد قليلا، فهناك تصنيفات مختلفة للأقنوم.
فمن حيث البساطة: هناك أقنوم بسيط مفرد مثل أقانيم الثالوث القدوس، وهناك أقنوم مركب كالأقنوم البشري، مكون من أقنوم الجسد وأقنوم الروح العاقل.
ومن حيث التفاعل: هناك أقنوم قائم بذاته قادر على التفاعل مثل أقانيم الثالوث القدوس، والأقنوم البشري، وهناك أقنوم اعتمادي غير قائم بذاته غير قادر على التفاعل، مثل أقنوم الجسد في الأقنوم البشري.
الشخص:
الشخص هو فقط كل أقنوم قائم بذاته قادر على التفاعل، مثل أقانيم الثالوث القدوس، والأقانيم البشرية: فلان، زيد، …….، الشخص هنا أقنوم بلغ كمال الوجود، وتميز من جهة الاسم وما بعده.
الطبيعة:
استخدم السكندريون مفهوم الطبيعة بمعنى الإطار الجامع لأقانيم من نفس النوع بمعنى عام يقترب من “الجوهر”، وذلك في السياق العام والشرح الكتابي. أما في السياق الكريستولوجي، فكان الاستعمال بالمعني المتخصص المتفرد [الأقنوم] فمثلا: طبيعة واحدة متجسدة تطابق تماما أقنوم واحد متجسد.
ولنجمع كل ما سبق نستعين بفقرة للقديس كيرلس الكبير من كتاب الكنز:
“إن طبيعة اللاهوت بسيطة غير مركبة، ولا يمكن أبدا أن نقسمها إلى اثنين: آب وابن، أما أن هناك اختلاف بين الإثنين فأنا أقصد أن هذا الاختلاف لا يوجد حسب الجوهر، بل يدرك من الخارج، لأن كل شخص يختلف عن الشخص الآخر، ويوجد في أقنوم خاص به، لكنهما متحدان طبيعيا في وحدانية اللاهوت [الجوهر]“
(كيرلس الإسكندري، كتاب الكنز)
يتبقى الإشارة إلى أن دلالات المفاهيم التي تم إيجازها أعلاه كانت هي الدلالات المستقرة مسكونيا، ويتم استعمالها بنفس دلالاتها في الكنيسة الجامعة شرقا وغربا، حتى أتى زمان خلقيدونية ورياحه المسمومة، وفي إحدى مؤامراته جرى إعادة تعريف هذه المفاهيم لتصبح:
طبيعة = جوهر،
أقنوم = شخص،
في محاولة ساذجة لضرب الفهم اللاهوتي السكندري، ولكن المحاولة- بالرغم من استقرارها حتى الآن- أضرت بهم كثيرا حتى أنه بالنسبة لأي منصف، فمسيح نسطوريوس أكثر معقولية من مسيح خلقيدونية منطقيا، كما فند بحق قديسنا العظيم ساويرس الأنطاكي.
عودة إلى الهرطقات وكيف لا يكون “التجسد”، ومدخلنا الآن هو “مستوي الاتحاد”
القائل بالاتحاد الجوهري (الاتحاد على مستوى الجوهر) لينتج جوهرا واحدا، فهذا ذهاب إلى عائلة الهرطقات المونوفيزية (الأوطاخية) فضلا عن لا معقولية التصور نفسه.
القائل بالاتحاد الشخصي (الاتحاد على مستوى الشخص) لينتج شخصا واحدا، فهو ذهاب إلى النسطورية، فضلا عن لا معقولية التصور نفسه منطقيا، فالشخوص قد أكتمل وجودها الذاتي ولا يمكن دمجهما في شخص واحد.
القائل بالشخص الواحد في طبيعتين، يذهب إلى “اللاونية”، حيث وجود كل طبيعة لتتلقى أو تصنع ما يخصها، وهذا يجعل من كل طبيعة مركزا للفعل لا يستقيم إلا بتشخصها، فنعود إلى النسطورية ووجود شخصين لا يمكن أن يصيرا واحدا.
وإذا استبعدنا الاتحاد الجوهري والاتحاد الشخصي لأسباب تتعلق بداءة بالمنطق، دون حتى التطرق لمقاصد التدبير الإلهي الخلاصي للتجسد، لا يتبقى لنا إلا “الاتحاد الأقنومي” (الاتحاد على مستوى الأقنوم) لينتج أقنوما واحدا، وهو المنهج السكندري لشرح الاتحاد، والحق إننا لا نرى فيه مطعنا، لا منطقيا، ولا تدبيريا.
منطقيا: شخص الكلمة (أقنوم مفرد قائم بذاته) أخذ من العذراء مريم “عينة” بشرية كاملة، جسدا ذو روح محيية عاقلة [أقنوم مركب اعتمادي غير قائم بذاته (ليس شخصا)] ليصيّره جسدا له وينشأ عن الأخذ أقنوما مركبا، قائم بذاته، قادر على التفاعل (=شخص الكلمة المتجسد). البسيط أصبح مركبا. غير الجسداني أصبح متجسدا هو نفسه.
وتدبيريا أيضا فالأمر يبدو منطقيا تماما، فيقول القديس ساويرس في مقدمة كتابه “محب الحق”:
“فنحن نقصد بعمانوئيل الشخص الذي سلمنا الآباء الإيمان بأنه هو الله الكلمة، الابن الوحيد المولود من الآب أزليا بلا بداية وبطريقة غير جسدية، الذي في أخر الأيام، ومن أجل خلاصنا اتخذ من الروح القدس ومن القديسة والدة الإله دائمة البتولية مريم جسدا مساويا لنا في الجوهر، ذا نفس محيية مفكرة، لم يكن له وجود قبل نزول الكلمة بطن العذراء، لم يكن هذا الاتخاذ لكي يكمل أقنومه، لأنه غير ناقص مطلقا، بل هو كامل في كل شيء لكونه الله، [بل لغرض تدبيري بحت]، هذا هو الاتحاد الأقنومي، وبميلاده الزمني أظهر العذراء أنها والدة الإله، لهذا دُعي عمانوئيل لأنه من طبيعتين كاملتين من جهة الماهية وهو نفسه الله وإنسان في ذات الوقت”
(ساويرس الأنطاكي، كتاب محب الحق)
ويقول أيضا:
“إن خصوصية الاتحاد الطبيعي [الأقنومي] تكمن في أن الأقنومين هما في تركيب، وهما كاملان دون نقص، إلا أنهما يرفضان أن يستمرا في استقلالية الوجود، فلا يمكن أن نعدهما “إثنين” لأنهما في “تركيب” وليسا في انفصال أو استقلالية، مكونين شخصا واحدا للرب والابن يسوع المسيح، طبيعة واحدة متجسدة، وأقنوم واحد متجسد لله الكلمة”
(ساويرس الأنطاكي، كتاب محب الحق)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟