نستعرض الآن موضوع أن التأله هو غاية خلق الإنسان، حيث أكد آباء الكنيسة على ذلك شرقًا وغربًا كما سنرى في النصوص التالية.
نبدأ أولاً بتأكيد العلامة ترتليان على أن التأله هو غاية خلق الإنسان، وإن الإنسان لو لم يسقط، كان سيؤخذ في المستقبل إلى الطبيعة الإلهية، حيث يقول التالي:
”والآن، مع أنّ آدم كان عرضةً للموت بسبب حالته تحت الناموس، إلا أن الرجاء كان محفوظًا له بقول الرب: 'هوذا آدم يصير كواحد منا‘ (سفر التكوين3: 22)، أي نتيجة اتخاذ الإنسان إلى الطبيعة الإلهية في المستقبل. إذًا، ما الذي يلي ذلك؟ 'والآن، لئلا يمد يده، ويأخذ أيضًا من شجرة الحياة، [ويأكل]، ويحيا إلى الأبد‘. بالتالي يُظهِر بإضافة الجزء عن الوقت الحاضر 'والآن‘، أنه قد خلقه للوقت، وللحاضر، ولاستمرار حياة الإنسان“ [117]
(Tertullian, ANF03 (Against Marcion), Trans. By Dr. Holmes, Edit. By Phillip Schaff)
وهذا ما يؤكده أيضًا ق. اغريغوريوس اللاهوتي عن انتقال الإنسان الأول قبل السقوط إلى عالم آخر في نهاية المطاف، ليصير إلهًا بشوقه لله، حيث يقول عن الإنسان التالي:
”كائن حي يقيم في الأرض، ولكنه ينتقل إلى عالم آخر، وفي نهاية المطاف، يصير إلهًا بشوقه إلى الله“ [118]
(اغريغوريوس النزينزي (قديس)، عظات عيد القيامة (العظة الفصحية الثانية)، تَرْجَمَة: القس لوقا يوسف)
ونرى مما سبق أن هذا الكلام لا يختلف مع كلام ق. أثناسيوس من أن الإنسان لو حفظ الوصية والنعمة في الفردوس كان سينال وعد الله له بالخلود في السماء، فالإنسان لم يُخلق خالدًا، بل خُلق في مسيرة نمو وتقدم نحو الخلود والتأله، كما قال الآباء السالف ذكرهم، وهذا أيضًا ما ذكره ق. اغريغوريوس اللاهوتي في عظته الفصحية الثانية عن أن الإنسان كان مدعو ليصير إلهًا وينتقل لعالم آخر، وكيف كان سيحدث هذا الخلود، سوى باتحاد الإلهي مع الإنساني في التجسد، ليؤله الإنسان مانحًا إياه الخلود، فنرى ق. أثناسيوس يقول التالي:
”ولكن لعلمه أيضًا أن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين [الخير أو الشر] سبق فأمّن النعمة المعطاة لهم بوصية ومكان، فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين، عاشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هم بالإضافة إلى الوعد بالخلود في السماء“ [119]
(أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، تَرْجَمَة: د. جوزيف موريس)
ويتحدث أوغسطينوس مثله مثل الآباء السابقين عن أن التأله هو غاية خلق الإنسان منذ البَدْء، وأنه كان سيصير إلهًا لو لم يسقط بالتعدي والعصيان كالتالي:
”هنالك في الراحة سوف ترى أنه هو الله، طبيعة سامية ادّعيناها لنا حينما هبطنا من أعالي عهده على صوت الشيطان الذي أغوانا قائلاً: 'تصيران كآلهة‘، لم نحفظ الأمانة لهذا الإله الذي كان قادرًا على أن يجعل منا آلهةً، لو لم نجحد نعمه، ونتخلف عن الاتحاد به“ [120]
(أوغسطينوس، مدينة الله ج3، تَرْجَمَة: الخورأسقف يوحنا الحلو)
ويفرق ق. كيرلس السكندري بين صورة الله ومثاله في الإنسان، حيث يرى أن لصورة الله معاني كثيرة، بينما المثال هو حياة عدم الفساد وعدم الاضمحلال، كما يؤكد على أن الإنسان لم يكن خالدًا بالطبيعة منذ خلقته، بل كان سينال الخلود بعد ذلك كعطية من الله على طاعته للوصية وثباته في الله. حيث يقول التالي:
”ورغم أن حديثي أقل من المستوى اللازم، إلا أنني يجب أن أواصل موضحًا الحالة الأولى لطبيعتنا. فإني أعرف إننا إذ نقصد بإخلاص أن ندرك معنى الكلمات التي أمامنا، فإننا سنتجنب الأخطار الناتجة عن الكسل. إذًا، فهذا المخلوق العاقل أي الإنسان، قد خُلق من البداية على صورة ذاك الذي خلقه حسب المكتوب (أنظر كو3: 10). وصورة لها معاني متعددة. فيمكن أن تكون الصورة ليس حسب معنى واحد، بل حسب معاني كثيرة، أما عنصر مماثلة الله الذي خلقه، الذي يعلو الكل، فهو عدم الفساد وعدم الاضمحلال. فنحن نعرف أن المخلوق لا يمكن أن يكون كفوًا في ذاته أن يكون هكذا كالله بمجرد قانون طبيعته الخاصة، لأنه كيف يمكن لذاك الذي هو من الأرض حسب طبيعته الخاصة، أن يملك مجد عدم الفساد، إن لم يحصل على ذلك من الله الذي بالطبيعة عديم الفساد، وعديم الفناء، وهو دائم هكذا كما هو إلى الأبد، والله هو الذي يغني الإنسان بهذه الهبة كما يهبه كل العطايا الأخرى؟“ [121]
(كيرلس السكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)
ثم يؤكد ق. كيرلس السكندري على أن التأله هو غاية خلق الإنسان لو لم يسقط في التعدي والعصيان، فالله كان سيجعله شريكًا للطبيعة الإلهية، كما يؤكد أيضًا على أن النفخة التي نفخ الله في الإنسان هي الروح القدس، روح الابن، وليس كما ينكر النساطرة الجدد بأن النفخة في بداية الخلق هي نفخة الروح القدس. حيث يقول التالي:
”فكما يقول بولس الملهم بكل عقل وحكمة: وأي شيء لك لم تأخذه (1كو4:7). لذلك، فلكي لا يتلاشى ذلك الذي خُلِقَ من العدم، ويعود إلى العدم مرةً أخرى، بل بالحري يُحفَظ على الدوام -كما كان قصد الذي خلقه- لذلك فإن الله يجعله شريكًا للطبيعة الإلهية، لأنه 'نفخ في أنفه نسمة حياة‘ (تك2: 7)، أي روح الابن، لأن الابن نفسه مع الآب هو الحياة، وهو يضبط كل الأشياء معًا في الوجود. لأن كل الكائنات التي تنال الحياة ‘به تحيا وتتحرك' حسب كلمات بولس الرسول (أنظر أع17: 28)“ [122]
(كيرلس السكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)
كما يؤكد ق. كيرلس السكندري على أن النفخة في بداية الخلق هي نفخة الروح القدس، ويقول إنه مَن يفترض أن نفخة الله في بداية الخلق صارت نفسًا مخلوقة هو إنسان لا يملك تفكيرًا سليمًا، ويشرح ذلك كالتالي:
”فإننا يجب أن نكرر مرةً أخرى ونقول -لا يوجد أي إنسان ذو تفكير سليم، يمكن أن يفترض أن النسمة التي صدرت من الجوهر الإلهي صارت نفسًا مخلوقة، بل إنه بعد أن صار للمخلوق نفسًا، أو بالحري بعد أن بلغ إلى كمال طبيعته بوجود النفس والجسد معًا، فإن الخالق طبع عليه خَتْم الروح القدس أي خَتْم طبيعته الخاصة أي نسمة الحياة، التي بواسطتها صار المخلوق مشكلاً حسب الجمال الأصلي، واكتمل على صورة ذاك الذي خلقه. وهكذا وُهبت له الإمكانية لكل شكل من أشكال السمو بفضل الروح الذي أُعطِي له ليسكن فيه“ [123]
(كيرلس السكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)
يتضح من هنا تأكيد ق. كيرلس السكندري على أن التأله هو غاية خلق الإنسان كما قصد الله، أي إنه يصير شريكًا للطبيعة الإلهية، ويؤكد ق. كيرلس السكندري على أن نفخة الله في بداية الخلق لم تكن نسمة الحياة المخلوقة في الإنسان، بل خَتْم الروح القدس أي خَتْم طبيعته الخاصة في الإنسان، وليس كما ينكر النساطرة الجدد ويدَّعون أن نسمة الله في بداية الخلق هي مجرد نسمة الحياة أو النفس المخلوقة في الإنسان.
هوامش
[117] Tertullian, ANF03 (Against Marcion), Trans. By Dr. Holmes, Edit. By Phillip Schaff, (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, 1845- 1916), 2: 25, p. 444
[118] غريغوريوس النزينزي (قديس)، عظات عيد القيامة (العظة الفصحية الثانية)، تَرْجَمَة: القس لوقا يوسف، (القاهرة: المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، 2015)، عظة 45: 7، ص 23
[119] أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، تَرْجَمَة: د. جوزيف موريس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003)، 3: 4، ص 8، 9.
[120] أوغسطينوس، مدينة الله ج3، تَرْجَمَة: الخورأسقف يوحنا الحلو، (لبنان: دار المشرق، 2014)، 22: 30، ص 413.
[121] كيرلس السكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي الدراسات الآبائية، 2015)، ص 214.
[122] المرجع السابق.
[123] المرجع السابق، ص 215.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- يا من أنقذ يوسف من كيد المصرية وخلصه، اسمعنا ” يا من أنقذ يوسف من كيد المصرية وخلصه، اسمعنا ” (من الصلوات الليتورجية في التراث العربي) ما تراه أمامك موثقا، هو جزء من الصلوات الليتورجية القبطية (المحلية) المدونة بالعربية حسب مخطوطات دير اﻷنبا أنطونيوس بالبحر اﻷحمر. وبالتحديد في مخطوط الصلوات الطقسية، للراهب ميخائيل الأنطوني الباقوري، وهذا المخطوط العربي أعتبره هام وخطير في دراسة التيارات......