المقال رقم 8 من 13 في سلسلة كنيستنا وتدوير الهرطقات
الجوهر الواحد والاتحاد الجوهري

في المحاضرة التي خصصها الأنبا أغاثون والعدوة للرد على اتهامه بالية استعان بأحد مؤلفات الأنبا اغريغوريوس المتنيح، وهو كتاب “عن ” والفقرة التي أوردها جاء فيها:

إذا هو الإله المتجسد، جوهر واحد، شخص واحد، أقنوم واحد، طبيعة واحدة، أو هو طبيعة واحدة من طبيعتين، وبعبارة أخرى ممكن أن نتكلم عن طبيعتين من قبل أن يتم الاتحاد، أما بعد الاتحاد، فهناك طبيعة واحدة

(الأنبا اغريغوريوس، كتاب عن طبيعة المسيح)

هناك مآخذ عدّة على هذه الفقرة:

أولها، إن عبارة “ممكن أن نتكلم عن طبيعتين من قبل أن يتم الاتحاد، أما بعد الاتحاد فهناك طبيعة واحدة” وهي نفس العبارة التي قالها في مجمع القسطنطينية المكاني بحروفها، هي خاطئة جدا ما لم يليها شرح ينفي عنها التراتبية الزمنية والتعاقب، وإذا أمكن أن نلتمس لأوطاخي العذر لضحالة فهمه عن اللاهوت، فكيف ندافع عن معلم لاهوت بارز في كنيستنا.

ثانيهما، إن هذا الإطناب ومحاولة الترادف: (جوهر واحد، شخص واحد، أقنوم واحد، طبيعة واحدة) لا يفيد التوكيد بحال، ولكنه يربك المتلقي، يضر كثيرا بالمعنى، ويشي بعدم فهم مدلولات كل “مصطلح” من وجهة نظر اللاهوت، فالقول بطبيعة واحدة دون ذكر “متجسدة” وأقنوم واحد دون ذكر “متجسد” ينسف الفهم اللاهوتي الإسكندري اللا خلقيدوني من جذوره، ويطعنه في مقتل، كما سيرد تفصيله عند الحديث عن النسطورية، أما الطامة الكبرى التي أسفر عنها هذا الإطناب المكروه، هو استعمال مصطلح “جوهر واحد” لوصف أقنوم الكلمة المتجسد، وهذا الاستعمال يذهب بنا مباشرةً إلى قاع الأوطاخية، حتى نبرز خطئها الجسيم سنستعين بقديسنا العظيم ، وننقل عنه هذه الفقرة من رسالته الثالثة إلى :

يناسبنا لأن نقول “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” هذه التي للقديس ل والحكيم كيرلس، فأين قرأت لأنت في مؤلفاتهما إذ إنهم دعوا عمانوئيل جوهرا واحدا، وصفة واحدة، فمنذ أن علموا أن خطأ تشويش الطبائع [يقصد الأوطاخية] هو على عكس الجهة الأخرى لأولئك الذين يقسمون المسيح [يقصد النسطورية] استخدموا مصطلحات مصقولة ودقيقة.

(القديس ساويرس الأنطاكي، الرسالة الثالثة إلى سرجيوس النحوي)

عبارة أخرى تماثلها ولا تقل عنها خطورة هي عبارة “الاتحاد الجوهري” وهي منتشرة أيضا في كتابات معلمينا، حتى إنك ستجدها في كتاب مثلث الرحمات البابا “طبيعة المسيح” أكثر من مرة، بدءا من مقدمة الكتاب نفسه والمقصود منها هو أن الاتحاد قد تم على مستوي الجوهر، ليتكون من الجوهرين جوهرا واحدا، وحيث إن الجوهر -حسب آبائنا الإسكندريين- هو الأساس المجرد الذي لا يمكن وجوده في الواقع دون “ظهوره” في أقنوم، فالحديث عن الجوهر هو بغرض فلسفي بحت ولا يقترب بأي صورة من الواقع الحقيقي فلا يوجد الجوهر الإلهي دون الأقانيم الإلهية، ولا يوجد جوهر إنساني مجرد دون كيان إنساني محدد، فكيف إذن نفترض اتحادا بين “مفاهيم” لا يمكن إدراكها إلاّ فلسفيا؟ حتى على المستوى النظري التنظيري، فالاتحاد بينهما لا بد أن يؤدي إلى جوهر جديد تماما، غريب عن مكونيه حيث إن الجوهر لا يقبل التركيب.

يقول القديس كيرلس:

لأن الذين اجتمعا معا في وحدة تدبيرية ليسا مجرد مظهرين أو “شيئين غير متأقنمين” بل شيئين حقيقيين، حتي يصير التأنس قابلا للتصديق والإيمان به فعلا.

(القديس )

يضيف القديس ساويرس في دفاعه الثاني ضد النحوي:

لقد أظهرنا بوضوح كيف عندما نقول “من طبيعتين” لا نفهم أن هاتين الطبيعتين هما جوهرين، بالمعنى العام الذي يجمع أقانيم عدة، كما لو كان -حسب ضلالك الخبيث- قد تجسد في البشرية جمعاء، أي كل الجنس البشري، بل فقط الأقنوم الواحد لله الكلمة، وأقنوم واحد للجسد المحيي بنفس عاقلة المتخذ من العذراء والدة الإله، ومعروفين في تركيب بغير تغيير، وبقيا على ما هما عليه (ليس في استقلالية الوجود) أو قائمين بازدواجية الطبائع، بل باجتماعهما في وحدة قد أكملا طبيعة واحدة متجسدة، أقنوم واحد متجسد، شخص واحد,

(القديس ساويرس الأنطاكي، ضد النحوي)

سأورد نصا أخيرا للقديس ساويرس ينتقد فيه الاستعمال الخلقيدوني لمفهوم “طبيعة”، فالطبيعة عند الخلقيدونيين لا تعني إلا “الجوهر” فيقول في رسالته إلى “مارون”:

ولكن الناس الذين بتجديف يدعون المسيح الواحد طبيعتين مستخدمين كلمة “طبيعة” بدلا من التسمية المفردة، بل قائلين إن الله الكلمة طبيعة (يقصد اللاهوت)، والإنسان الذي من مريم هو طبيعة أخري (يقصد الناسوت)، فإنهم لم يبلغوا هذا القدر من الحماقة الذي يجعلهم يقولون إنهم يستخدمون كلمة طبائع بنفس معني الجوهر، لأنه إن كان الثالوث القدوس هو طبيعة واحدة، والبشرية كلها هي طبيعة واحدة، سينتج عما يقولون شيئا غير معقول، إن الثالوث القدوس قد أصبح متجسدا في كل البشرية.

(القديس ساويرس الأنطاكي، الرسالة إلى مارون)

إن استخدام لفظي “لاهوت”، و”ناسوت” لوصف كيفية الاتحاد هو من الحماقة كما يقول القديس ساويرس، ثم أن استعمالها لوصف ما بعد التجسد دون حكمة هو أمر أكثر حماقة حتى أنه يندرج تحت الحرم الرابع للقديس كيرلس، ولعلي أقول إن الاستخدام غير المنضبط لهاتين الكلمتين كما اعتاد مثلثو الرحمات المعاصرون واللاحقون، هو أحد أكبر مشكلاتنا العقائدية الحالية ومن هنا نرى خطورة استعمال هذين التعبيريين -الجوهر الواحد والاتحاد الجوهري- التي دعت القديس ساويرس بوصفها بالضلال الخبيث، للتشويش الذي يحدثه هذان التعبيران في اللاهوت الإسكندري شديد الدقة. وإنني أدعو مجمع أساقفتنا ولجنة الإيمان والعقيدة به لمنع إعادة طباعة هذه الكتب، وإصدار بيان يوضح خطأ هذين التعبيرين في هذه الكتابات.

جدير بالذكر أيضا انه هناك كتابات قديمة لآباء ما قبل تصاعد الجدل ال قد جاء فيها هذين التعبيرين، ويبدو أن أمانة التَّرْجَمَةً قد استدعت من المترجم الإبقاء على هذين التعبيرين بحالهما، وهنا أرجو ان يتدخل الناشر بإضافة حاشية توضيحية وعودة إلى افتتاحية المقال، فإنني أدعو  الأنبا أغاثون -مع لجنة الإيمان والعقيدة بالايبارشية- إلى التوقف عن التعليم العلني لحين تلقي دراسة حقيقية، والحصول على فهم دقيق يمكنهم من التعليم دون الانزلاق في أخطاء يصعب تداركها، وتسبب تشوها وتشويشا مزعجا، فهم يبدون كالمستجير من الرمضاء بالنار.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: كنيستنا وتدوير الهرطقات[الجزء السابق] 🠼 انزلاقات قبطية نحو الأوطاخية[الجزء التالي] 🠼 إعادة فحص لهرطقات التجسد
رجائي شنودة
[ + مقالات ]