المقال رقم 7 من 13 في سلسلة كنيستنا وتدوير الهرطقات
تحوي الة -كمصطلح- طيفا واسعا من الهرطقات التي تتعلق بفهم العلاقة بين أقنوم الكلمة و"العينة" الإنسانية المأخوذة في الاتحاد، كما تتعلق بفهم سلوك هذه العينة في الاتحاد، وهي في الأغلب انزلاقات فكرية أكثر منها معتنق يتم الترويج له، على أن هذا لا ينفي خطورتها الجسيمة على الإخلال بفهم التدبير الإلهي في التجسد. وسنستعرض تباعا بعض أطياف هذه الهرطقة والانزلاقات القبطية إليها.
الأبولينارية – Apollinarism

تنسب إلى الأسقف الأنطاكي لمدينة اللاذقية، الذي عاش في القرن الرابع، كان عالما مثقفا تقيًا، ذو تاريخ مشرف في محاربة الأريوسية وحصارها، إلا أن الرياح تأتي أحيانا بما لا يرغب به أحد.

يقول مثلث الرحمات ال عن ال في كتيبه “”:

هرطقة أبوليناريوس: “وكان ينادي بلاهوت المسيح، ولكنه لا يؤمن بكمال ناسوته، إذ كان يرى أن ناسوت المسيح لم يكن محتاجا إلى روح، فكان بغير روح، لأن الله اللوجوس كان يقوم بعملها في منح الحياة، ولما كان هذا يعني أن ناسوت المسيح كان ناقصا، لذلك حكم مجمع القسطنطينية المسكوني المنعقد سنة ٣٨١م بحرم أبوليناريوس وهرطقته هذه”.

(البابا شنودة الثالث، كتيب “طبيعة المسيح”)

الاقتباس السابق لا يحمل من الحقيقة حتى ولا شبهة ظل، وأنا في غاية الاندهاش، فالتحجج بقلة المصادر والترجمات يَجِبُ ألاّ يشملا أسقفًا للتعليم، فالجهل لا يحوي فقط التاريخ، بل ينسحب على أصول الهرطقات، مما دفع بالرجل لانزلاقات هرطوقية متنوعة، الأخطر أنها أصبحت تعليما مستقرا في كنيستنا لا يقبل المراجعة.

نشوء الهرطقة

بعد كان الاضطراب الكنسي لا زال قائما، وبدأت أفكار كثيرة تتسرب إلى التعليم. الأريوسيون يخفضون لاهوت الكلمة إلى درجة المخلوق، وينفون وحدانيته في الجوهر مع الآب، والأنطاكيون بدأت تعاليمهم تنحو إلى تقسيم المسيح إلى اثنين، إله وإنسان، في مقابل الأرثوذوكس الذين يصرون على فهمهم للكلمة المتجسد، وهو نفسه الله الكلمة، وهو نفسه إنسان كامل.

كان أبوليناريوس يعترض بشدة ويعلم ضد كل من الأريوسيين والأنطاكيين، إلا أن اعتراضا جديدا له قد ظهر ضد الأرثوذوكسية نفسها، كان الرجل عليمًا بفلسفة التي تفكك الإنسان إلى جسد يمنحه الوجود الفيزيقي، ونفس تمنحه الحياة، وروح عاقلة تمنحه العقل والإرادة والحرية، ووجد ما يؤيد هذا الطرح في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي (5: 23)، فانطلق من هذه المعرفة ليصُغ مسيحا جديدا يتلافى اعتراضه على المفهوم الأرثوذوكسي للتجسد، الذي كان: كيف يأخذ الكلمة طبيعة إنسانية كاملة بروح عاقلة ذات إرادة ولا يخطئ؟ حيثما وجدت الإرادة، فلا بد أن توجد الخطية.

كان الناسوت المأخوذ لمسيح أبوليناريوس يتكون من الجسد والنفس المحيية فقط، ولم يكن له حاجة بالعقل والإرادة، وفيم الحاجة للعقل إذا اتحد باللوجوس العقل الكلي؟ وما الحاجة للإرادة إذا كان الأقنوم له الإرادة الإلهية كلية الصلاح؟

كان مسيح أبوليناريوس هو مسيح الإرادة =(المشيئة) الواحدة، ولا شك أن مسيح أبوليناريوس قد تجنب كثيرا من الإشكاليات اللاهوتية، فقد جنب التفكير في “ابنين” متصلين، كما بدأت الإرهاصات في أنطاكيَة، وسهل قَبُول مبدأ “الاتحاد الطبيعي” في شخص الكلمة المتجسد، إلا أن هذا المسيح نفسه لم يكن مناسبا لإتمام الخلاص، تجديد الطبيعة البشرية، وتقديس الإنسان. المعصية الأولى هي بالأساس نتاج استخدام الإرادة البشرية، فلم يكن للتبرير منها سبيل إلا بعلاجها هي نفسها.

يقول القديس ساويرس:

“إن خلاص الإنسان هو تدبير وعمل الله، ولكنه لم يتم بعمل إلهي محض بمعزل عن الإنسان، لأنه إذا كان الإنسان قد أساء استخدام هبة “الإرادة” وابتعد عن الله، فينبغي أن يتم الخلاص من خلال حياة إنسانية حقيقية وكاملة يتم استخدام الYرادة فيها بالطريقة الواجبة”.

(القديس )

وهنا نذهب للقديس اغريغوريوس اللاهوتي الذي يخبرنا:

“ما لم يتحد به الرب عندما تجسد هو ما بقي دون شفاء، أما ما اتحد بألوهيته فقد خلص، لقد سقط بعقله أولا، ولذلك كان على المسيح أن يأخذ عقلا إنسانيا لكي يقدسه”

((القديس اغريغوريوس اللاهوتي)

أثار ظهور هذا الفكر موجة انزعاج عارمة في الكنيسة شرقا وغربا، نال الانزعاج من القديس ، وإبيفانيوس أسقف قبرص، والبابا داماسوس بابا روما، وعقدت المجامع تباعا لدحضه.

بدأت المجامع بالإسكندرية برئاسة أثناسيوس عام 362م، مجمع في روما عام 377م، وحكم هذا المجمع بحرم ثلاثة أساقفة أبوليناريين، بينهم المبتدع نفسه، ثم مجمع في الإسكندرية برئاسة البابا بطرس عام 378 م لتأييد قرارات مجمع روما، ثم مجمع أنطاكي مماثل عام 379م، حتى عُقد مجمع القسطنطينية المسكوني عام 381م مؤيدا لقرارات المجامع المحلية السابقة، بقي الفكر الأبوليناري بعدها محصورا في مجموعات صغيرة من أتباعه دون أن يسبب مشكلات كنسية.

أود هنا أن اختتم هذا الجزء بفقرة بديعة من قديسنا شارحا مفصلا كعادته:

“لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي”

(إنجيل يوحنا 6: 38)

 

إننا لا نقر أبداً عن الواحد جوهرياً أنه قد انقسم ضد نفسه، أو انشطر إلى آراء متعارضة متباينة، أو أن الأب أو الابن أو الروح القدس انقسموا إلى ما قد يبدو صالحاً لكل منهم على حدة، وهم يتفقون في كل شيء، ولأنهم لاهوت واحد، فمن الواضح، أن تكون لهم نفس الإرادة، في الثالوث القدوس كله.. لأنه حال كونه ما هو عليه، إلهٌ من إلهٍ، كاملٌ من كاملٍ، الخَتْم الحقيقي لجوهر أبيه، لا يفكر إلا كما يفكر الآب أيضاً، فهو ذات مشورته وكلمته، ويشاء تماماً ما يشاؤه الآب ويفعل بالتمام والكمال ذات ما يفعله الآب، بشكل تلقائي بسبب قوانين وحدانية الجوهر، يشترك مع الأب في أن يريد كل الصالحات فلا تستاء أيها الإنسان، حينما تسمعه يقول: لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني (إنجيل يوحنا 6: 38). لأن كل ما قلناه في البداية سوف نقوله مرة أخرى، قال المسيح ذلك عن أمر واضح ومحدد، لأنه يقول تلك الكلمات معلما أنه أراد أن يموت عن الجميع لأنه هكذا أشارت الطبيعة الإلهية، لكنه لم يرد (ذلك بسبب الآلام على الصليب، ويقدر ما هو متصل بالجسد الذي يستنكر الموت. وقد أسهبنا فعلاً في الشرح لكن من المناسب أننا يجب أن نفهم من طبيعة الأشياء ذاتها أن الآلام على الصليب لم يكن يريدها المسيح بسبب كونه إنساناً.

(القديس كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا، كتاب 4: 1)

يتبقى في النهاية أن أورد -في عجالة- حادثة تاريخية، كانت الأبولينارية فيها محاولة يائسة لتوحيد الامبراطورية البيزنطية التي أهلكها الانقسام الخلقيدوني، ونال منها على كل الأصعدة، كانت الجيوش العربية على مرمى حجر من حدود الامبراطورية في القرن السابع، فتفتق ذهن الإمبراطور “” مع البابا “سرجيوس” بابا القسطنطينية، لمحاولة لملمة الشمل ترفع لافتة “المشيئة الواحدة” لأقنوم الكلمة المتجسد، وقصد بها تحديدا “مصر” جوهرة التاج البيزنطي، فأعد الإمبراطور مشروعا للوحدة (المشيئة الواحدة- Monotheletism) وطبع منشورا عرف باسم (إكثيسيس- Ecthesis).

تجنب تماما ذكر ، ذاكرا الاعتراف بمشيئة واحدة للكلمة المتجسد، آملا أن يحظى بقبول اللا خلقيدونيين، أرسله لواليه على مصر “كيرس” مع تعليمات مشددة بفرض الوحدة، وعندما وصل المنشور إلى الإسكندرية، عقد كيرس اجتماعات مطولة وحاول استدعاء البابا بنيامين الذي كان هاربا، وأوصل إليه المنشور، لكنه فوجئ بالرفض العارم لمحتوى المنشور واعتباره هرطقة جديدة تضاف للرصيد الخلقيدوني، مما دعاه لاستخدام العنف، دون جدوى.

ولا يفوتنا هنا التنويه إلى أن حادثة العنف التي طالت القديس “صموئيل المعترف” كانت بسبب تمزيق هذا المنشور، وليس كما يذكر ال -بسذاجة- أنها كانت رفضا لطومس الذي كان الزمن قد تجاوزه بما يقرب من قرنين فتذكر -يا رعاك الله- حين ترى صورة للقديس صموئيل المعترف، أن الرجل قد فقد عينه رفضا لهرطقة تعتنقها أنت الآن اسمها “المشيئة الواحدة” دون أن تعي وجود المشيئتين في أقنوم الكلمة المتجسد.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: كنيستنا وتدوير الهرطقات[الجزء السابق] 🠼 مجمع أفسس الثاني[الجزء التالي] 🠼 انزلاقات اوطاخية معاصرة
رجائي شنودة
[ + مقالات ]