منذ أن وقع الاختيار على الأنبا تواضروس أسقف عام البحيرة في 4 نوفمبر 2012 ليكون بابا الإسكندرية وبطريرك الكرزاة المرقسية رقم 118، أعلن بكل وضوح عن حاجة الكنيسة للمأسسة، موضحًا أنه ليس مثل البابا الراحل شنودة الثالث ولا يمتلك قدراته التي أدار بها الكنيسة طيلة 40 عامًا، واتجه البابا تواضروس لإعادة تنظيم بعض الأمور داخل الكنيسة بشكل مؤسسي، لكن بعد مرور أكثر من 12 عامًا لماذا تبدو خطوات البابا تواضروس الإصلاحية متعثرة أمام التركة الصعبة والثقيلة التي تركها سلفه البابا شنودة؟
أعتقد أن إجابة هذا السؤال سهلة وصعبة في نفس الوقت، فالسهولة تكمن في أنه يمكن لأي متابع لشؤون كنيسة الإسكندرية العريقة عن قرب أن يضع يده على مواطن الخلل ويحدد ذلك في نقاط محددة، لكن الصعوبة تكمن في أنه لا يمكن علاج هذا الخلل بسهولة، لأنه طوال عهد البابا شنودة الذي أدار فيه الكنيسة منفردًا بشخصيته القوية، تكونت حوله شبكة مصالح كبيرة استقرت مدة أكبر من 40 عامًا، وصارت مسيطرة على مفاصل مهمة في بناء الكنيسة الإداري والسلطوي، ولا يمكن تفكيك تلك الشبكة بسهولة، حتى أنه في سنوات حبريته الأخيرة التي بدأ المرض يهزم جسده فيها، لم يعد له القدرة للسيطرة عليهم أو ردعهم، وعانى من صراعاتهم ضد بعض.
تلك الشبكة ناصبت البابا تواضروس العداء منذ اللحظة الأولى لاختياره، حتى يمكن العودة لتاريخ نشأة الصفحة “المهكرة” للرابطة إياها سنجد أنها تأسست في أوائل أكتوبر 2012، وهو توقيت خروج الأنبا بيشوي مطران دمياط الراحل من الترشيحات على الكرسي البابوي مرغمًا، بعدما تقدمت وثائق تمنع ترشحه وفقًا للقواعد المتواجدة بلائحة 1957 التي جرت عليها الانتخابات، وجرت الانتخابات في 29 أكتوبر من نفس العام، وبعدها في 4 نوفمبر كانت مراسم القرعة الهيكلية.
بين 10 و13 مايو 2013 زار البابا تواضروس البابا فرنسيس في الفاتيكان في نفس موعد زيارة البابا شنودة 1973 للبابا بولس السادس، وكان واضحًا أن البابا تواضروس يرغب في إعادة فتح باب التواصل والحوار اللاهوتي بين كنيستي الإسكندرية وروما، هذا الأمر لم يعجب مجموعة الأساقفة القدامى وخصوصًا الأنبا بيشوي ممثل الكنيسة في أي حوار لاهوتي طوال عهد البابا شنودة، وتعامله بتضليل مع الكنائس الأخرى باعترافه هو شخصيًا في إحدى اللقاءات، وكان يتم تجهيز مجموعة من شباب المرتلين داخل المركز الثقافي القبطي للتظاهر ضد البابا تواضروس في الكاتدرائية، وربما منع حدوث ذلك هو مشاركة الأنبا بيشوي في وفد الأساقفة المرافق للبابا في زيارة الفاتيكان.
وحينما شعرت شبكة المصالح بالتهديد من علم وتواضع الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، الذي عينه البابا تواضروس ليكون مراقب بابوي على الحوار اللاهوتي، وكثيرًا ما انتدبه ليمثل كنيسة الإسكندرية في عديد من اللقاءات والحوارات اللاهوتية، بدأ التحريض على قتله علنًا على صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لهم، إلى أن قُتل فعلًا، وأصبح قتل إبيفانيوس بمثابة تهديد، لمن يحاول الاقتراب من مصالح تلك الشبكة سواء بقصد أو دون قصد، والأكثر أنهم يتمادون في تهديدهم وتحريضهم بكل فجاجة على أي صوت ينشر التعليم والمعرفة.
أزمة السيمنار نموذجًا
الضجة التي حدثت حول سيمنار الأساقفة في نوفمبر الماضي ما هي إلا حلقة ضمن سلسلة الاغتيالات المعنوية التي تُمارس ضد كل من يعلم تعليم أكاديمي في الكنيسة، فالهجوم على دكتور جوزيف موريس فلتس ودكتور سينوت دلوار شنودة، من قبل بعض الأساقفة الذين اعتراضوا على وجودهم كمحاضرين، وكذلك من قبل لجانهم على السوشيال ميديا، هو حلقة مما يمارس حاليًا ضد القمص يوحنا نصيف بعد الهجوم عليه ووسم تعليمه بالهرطقة من حساب الأنبا ديفيد أسقف نيويورك، الذي مسح المنشور بعد انتقادات موسعة له على مواقع التواصل الاجتماعي ثم خرجت اللجان الإلكترونية تارَة يحاولون نفي أن يكون هذا هو حسابه الشخصي، وتارة يبررون ما نشره ويدعون لمحاكمة القمص يوحنا نصيف، وحتى يضفون مشروعية على ما يدعون فإنهم يأتون بمقاطع فيديو للبابا شنودة في المقابل للادعاء بأن الشخص الذي يهاجمونه يعلم تعليم خاطئ، ولا يدرون أنهم يضعون البابا شنودة نفسه في ميزان المراجعة هو الآخر لما كان يعلم به، وهل يتوافق مع إيمان الكنيسة وفكر الآباء الأوائل أم يبعد عنه؟
ما يحدث مع القمص يوحنا نصيف وقبله وقت أزمة السيمنار حدث من قبل مع الأنبا أنجيلوس أسقف عام حي شمال شبرا بالقاهرة، بعد محاضرته الهامة عن الرمزية في تفسير الكتاب المقدس، ومن قبله مع دكتور جورج حبيب بباوي والأب متى المسكين والأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا، وغيرهم من الأكاديميين والكهنة الذين تم اغتيالهم معنويًا في عهد البابا شنودة وعن طريق الأنبا بيشوي مطران دمياط مسؤول المحاكمات الكنسية.
تحديات وقرارات غير مناسبة
بعد عرض جانب كبير من التحديات التي تواجه الكنيسة فمن الواضح أن هناك أزمة في التعامل معها من قبل البابا تواضروس، فالبابا الذي يستطيع أن يكون في يديه سلطة مطلقة يستخدمها كما يشاء كما فعل سلفه يرفض ذلك تمامًا، بل ويغلب المحبة دائمًا في كل المواقف، وهذا أمر جيد، لكن هذا النهج تسبب في تمادي الراهب الفاسد إشعياء المقاري إلى أن قتل أسقفه الذي سامحه كثيرًا، ودائمًا ما كان يوفر له فرص جديدة، فكان جزائه القتل.
لذا ربما من الأفضل أن يكون بجانب المحبة وجود شيء من الحزم والحسم والمحاسبة لمن يتجاوز، لأن هذا الصمت، يجعل المنزعجين من أسلوب تلك المجموعة أن يواجهوهم بنفس أسلوبهم، وهذا مردوده سيء على سلام الكنيسة.
ورغم خطوات البابا الإصلاحية في تنظيم الكنيسة بتعديل عدة لوائح مثل لائحة المجلس الإكليريكي وتفكيك مركزيته، والعودة لبنود لائحة 1938 الخاصة بالأحوال الشخصية وتحديد أسباب الطلاق، التي ألغاها البابا شنودة في 2008 واختزل أسباب الطلاق التسعة في الزنى فقط، إلا أن هناك مشكلة وهي اختزال الكنيسة في الإكليروس، وخصوصا طائفة الرهبان التي يأتي منها الأساقفة، وكأن الكهنة المتزوجين في مرتبة أقل من الرهبان، إضافة لعدم الثقة في العلمانيين وإبعادهم عن التواجد والاستفادة من خبراتهم في المجالات المختلفة، وكل حسب تخصصه في إدارة الكنيسة، والنتيجة ينفرد الرهبان فقط بإدارة شؤون الكنيسة، ونرى الحال التي وصلنا لها الآن من تخبط وتكون شبكات مصالح وفساد تختطف الكنيسة في اتجاه خاطئ نهايته ستكون مؤلمة على الكنيسة وتهدد سلامها وبقائها.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.