“لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا“.

(رسالة يعقوب 1: 13) 

تعريف الشر هو كل ما يتعارض مع صلاح طبيعة الله. بالتالي فإن الله يستحيل أن يُجرِّب أحداً بالشرور لأنها ليست من طبيعته سبحانه:

”أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟ وَلاَ كَذلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا“

(رسالة يعقوب 3: 11، 12)

أما التجربة التي تكلم عنها الإصحاح الأول قبلاً وكما شرحنا في المقالات السابقة، فهي الضيقات التي تواجه الإنسان في العالم، التي قد تتسبب في تفكك الإنسان أمام شدتها ومن ثمَّة سقوطه. ولكن إذا وضعها الإنسان في يد الله فإنها تصير مثل سُلَّمٍ يَصعَده الإنسان وتَزكيةً له في طريق الملكوت. فصليب المسيح وآلامه كان ضيقةً ومراراً. ولمَا صعد عليه الرب صار معبراً إلى القيامة والحياة.

“وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ“

(رسالة يعقوب 1: 14)

فإنه وطبيعته الشريرة هو الذي بغوايته للإنسان يتلاعب به، فيخدعه ويجذب رغباته وشهوة قلبه نحو مقاصد الشيطان الشريرة إلى أن يسقط.

” ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا“

(رسالة يعقوب 1: 15)

لقد خلق الرب الإله ذو طبيعة طاهرة تحمل صورة الله فيه. فلجأ عدو الخير إلى خديعة الكذب واستغل حرية إرادة الإنسان، التي بها يختار الإنسان أن ينجذب إلى شيء دون الآخر حسب ما يشاء. وتسلل الشيطان وعبث بطبيعة الإنسان فتلوثت شهوة قلبه بمقاصد شيطانية جذبت الإنسان بعيداً عن الله. فلم يعُد الله هو كل مشتهى قلب الإنسان:

”وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ“

(سفر التكوين 6: 5، 6)

هذه هي المرحلة الأولى من التفاعل بين الفكر والشعور. ثم تأتي المرحلة الثانية وهي الفعل، أي اقتراف الشر والخطية فعلًا وليس بتصور القلب فقط.

وقد استخدم الكتاب مثالاً تصويرياً بما يحدث للأم من تغيرات في جسمها إلى أن تلد طفلها ليشرح به ما يحدث من تغيرات في الجانب الروحي لعلاقة الإنسان بالله وتأثير غَوَاية الشيطان في دخول الفساد إلى طبيعة الإنسان الروحية بحيث تصبح طبيعته في النهاية غريبة عن طبيعة الله. عندئذ تستحيل شركة الإنسان في مجال حياة الله فيخرج خارجاً وهذا هو الموت ثم العدم.

ولأن صورة الله لم تفارق طبيعة الإنسان بالرغْم من سقوطه، بسبب كرامة الصورة التي خُلِقَ عليها آدم، لذلك لم يترك الله آدم ليعود إلى العدم والانقضاء كما نقول في القداس الإلهي: ”لم تتركنا عنك إلى الانقضاء بل تعهدتنا بصلاحك“. ولهذا ظل اشتياق الإنسان إلى الله خالقه بالرغْم من السقوط الذي شوَّه وطمس صورة الله في الإنسان. ولكنها لا تزول.

إن أحداث الخلق والسقوط تكشف لنا كيف أن الخطيئة تتسلل داخل الإنسان بالتدريج عبر بوابة الفكر والشعور إلى أن تقود فعله وسلوكه وأخيراً تتربع على كل كيانه مستأثرةً به في الشر. بهذا يكون الإنسان قد تغرَّب عن مجال حياة الله إلى مجال غريب يسميه الكتاب ”موت الخطية“. ولقد وصف القديس حالته عندما جاز تلك الغربة عن الله  قبل ظهور المسيح له ”تحيا الخطية وأموت أنا“.

أنه صراع بين طبيعة الحياة والموت وبين سلاح البر ضد الخطية. الذي انعكس على اللاهوت المسيحي الشرقي فكان التركيز ليس على الخطية بل على الحياة المُنشِئة لكل بر، التي أُظهرَت بتجسد المسيح ربنا لكي تخلص الإنسان من دائرة الموت الذي أمسك بآدم وذريته:

“فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا“

(يوحنا الأولي 1: 2)

لذلك فإن منهج الروحانية الأرثوذكسية يهتم بأن يوقظ وعي الإنسان إلى ضرورة أن يسرع ليرتمي في حضن الرب الإله مهما كانت درجة انجذابه بالشهوة بعيداً عن الله. بل حتى لو لم تكن مشاعره مهيئة بعد للرجوع إلى الله. فعلاقتنا بالله أساسها الانتماء إليه، بينما المشاعر تعلو وتخبوا ويبقى انتماؤنا لله لا يتزعزع مهما حدث. ولنا في سلوك ورجوعه إلى أبيه أسوة حسنة.

والسُبح لله.

بقلم د. رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رسالة يعقوب الرسول <br>الله غير مجرب بالشرور 1
[ + مقالات ]