من البديهي أن يكون قانون التطور فعال على مر العصور، فتكون استمرارية العبادة اليهودية في أشكالها المسيحية من الممكن جدًا وجودها، وهذا نجده مؤكد في عدة أسباب، وأبسطها هي أن بعض اليهود بعد قبولهم للمسيح ودخولهم في شركة الكنيسة مازالوا يتعبدون في المجمع اليهودي كما ذكرنا سابقا، فيذكر القديس يوحنا ذهبي الفم بأنه كان هناك بعض المسيحين العاديين يحضرون في كل من المجمع اليهودي والكنيسة في وقت واحد. [1]
ومن هنا نجد كل هذه العبادات والصلوات قد أثرت في حياه الإنسان اليهودي التقى، والتي كانت تشكل بالنسبة له اقترابه إلى الله، وبالتالي عند تحوله إلى المسيحية كان من الصعب أن يترك كل هذا خلفه، ولكن نجد أن المسيحية قد فعلّت هذه العبادات ولم تتركها خارجًا، ولكن فعلتها بطريقة مسيحية بهدف أسمى، ومن هنا نجد التأثيرات اليهودية على حياة المسيحين في الكنيسة الأولى.
نتوقع أن المسيحية ورثت العديد من الممارسات الليتورجيا من اليهودية، وهذا يطرحه بعض العلماء منذ أواخر القرن السابع عشر مثل العالم البروتستانتي الهولندي Campegius Vitringa (1659-1722م) وهو أول من تحدث عن هذه النقطة. [2] ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تطرق إليه أكثر من عالم في القرن الثامن عشر وأيضًا التاسع عشر. [3]
يوم الرب:
كما كان اليهود يقدسون يوم السبت كما أمر الناموس ويخصصونه للعبادة والصلوات والتسابيح، ورثت الكنيسة الأولى أيضًا هذا التقليد، فكان يوم الأحد هو يوم الرب، وهذا استنادًا لقيامة رب المجد منتصرًا من الموت.
وقد تعين لنا هذا التقليد عندما ذكره يوحنا الحبيب في إنجيله (يو 26:20)، حيث كان في الأسبوع التالي للقيامة عندما كانوا مجتمعين في العلية، وقد ذكر عنه ثلاث إشارات في أسفار العهد الجديد، قد ذكر باسم “أول الأسبوع” في مرتين (اع 7:20، 1 كو2:16) وأيضًا قد أشار إليه باسم “يوم الرب” (رؤ 10:1).
وأيضًا قد ذكر خارج الأناجيل بيوم الأحد في كتاب تعاليم الرسل “الديداخى” [4]، وكانت الكنيسة الأولى تتوقع مجيء يوم الرب في يوم الأحد.
أنماط الصلاة:
كان طقس يوم الرب حسب ما ذكر يوستينوس الشهيد في دفاعه الأول نقلا عن كتاب النصوص المسيحية في العصور الأولى :
ولنا في اليوم الذي يدعى يوم الشمس [أي يوم الأحد] اجتماع لكل سكان المدن والضواحي وفى هذا الاجتماع تقرأ مذكرات الرسل [يقصد بها الأناجيل] أو كتابات الأنبياء حسبما يسمح الوقت، وبعد الانتهاء من القراءات يتقدم الرئيس ويعظ الحاضرين ويشجعهم على ممارسة الفضائل، ثم نقف جميعاً لرفع الصلوات، وكما قلنا من قبل بعد أن ننتهي من الصلوات يتم تقديم الخبز، والخمر، والماء، ثم يصلى الرئيس ويرفع الصلوات والشكر على قدر استطاعته، أما الشعب فيرد “أمين” ثم توزع الإفخارستيا على الحاضرين ويرسل منها للغائبين عن طريق الشمامسة. [5]
(يوستينوس الشهيد، النصوص المسيحية في العصور الاولي، القاهرةـ دار باناريون للنشر، 2012)، 94،95)
نرى في هذا الشرح ليوم الأحد بعض الملامح الليتورجيا التي كانت للكنيسة الأولى مثل:
- القراءات من كتابات الرسل، أو من الأنبياء (كما كان يحدث في المجمع اليهودي)، ويعقب القراءات العظة كما كان في المجمع اليهودي أيضًا (لو 4: 16-30).
- الصلوات لأجل المسيحين ولأجل العالم كله.
- صلوات خاصة على الخبز والخمر وكان هذا طقس ضروري يسبق الإفخارستيا التي كان رمزها الذبائح في العهد القديم، وكما ذكرنا سابقًا لم تكن الذبائح تقدم إلا بعد صلوات البركة.
- التسبيح واستخدام المرد “أمين” من الشعب على من يرأس الصلوات (مثلما كان يحدث أيضا في المجمع حينما يقومون بصلوات البركة ليتأكدوا بأن الشعب على إيمان وعقيدة واحدة ونفس واحدة).
جدير بالذكر، أن الكنيسة الأولى لم تهتم جليًا بشكل العبادات الأخرى باستثناء ممارسة عشاء الرب، فكان أمر العبادة اليهودية من الممارسات الطبيعية لديهم، فتابعوها مثل التسابيح وتماجيد الرب والصلاة الربانية التي ذكرها المسيح، أيضا كانوا يرتلون المزامير اليهودية، وأضافوا فيما بعد ترانيم العذراء، وترنيمة زكريا، وترنيمة سمعان الشيخ، كما ذكر إنجيل لوقا، نلاحظ أيضا إشارات الرسول بولس إلى مزامير وتسابيح وأغاني روحية (اف 19:5 – كو16:3). [6]
نجد أيضًا صلوات البركة قد أخذ منها في نصوص الليتورجيا التي كانت تقال في ليلة كسر الخبز كما ذكر في شرح كتاب الديداخي “إن البركات التي كانت تقال على المائدة اليهودية، قد خدمت بكل تأكيد نموذج الصلوات الإفخارستية في الكنيسة الأولى“. [7]
أيضًا البركة على الكأس تتوافق مع التقليد اليهودي (انظر التلمود البابلي)، فبعد صلوات البركة التي تقال على الكأس وعلى الخمر فالإنسان كان يأكل ثم يشرب من الخمر ثانيًا. انظر ديداخى (5:9، 3:10) [8]
نجد في نصوص الديداخى أيضا بخصوص صلوات الإفخارستيا، يقال أولًا بخصوص الكأس، نشكرك يا أبانا لأجل كرمة داود فتاك المقدسة التي عرفتنا إياها بواسطة يسوع فتاك لك المجد إلى الآبد
. [9]
هنا قد صارت البركة اليهودية التي كان لقبها يطلق على شعب إسرائيل متنصره ومتممة فالمسيح يسوع فقد صارت هنا بركة مسيحية حينما جاء المسيح وتجسد وتحقق الرمز بالمثال الأسمى يسوع المسيح وأطلق اللقب على إسرائيل الجديد الحقيقي.
في حين دراسة أصول التسابيح التي كانت تقال في الكنيسة الأولى من حيث تركيبها اللغوي كما ذكر كتاب الديداخى، وهو أول الكتب التي ذكرت بعض النصوص وطرق العبادة فالكنيسة الأولى في أورشليم وهي كنيسة الرسل سنجدها قريبة في مضمونها من العقلية اليهودية.
لكن من المهم أن نذكر الاختلاف الأهم والمحوري الذي يختلف في عمق الصلوات والتسابيح المسيحية عن قرينتها فاليهودية، وهو غرض ودور الصلاة الأساسي فاليهود منذ نزول الشريعة والناموس وهما يسبحون الإله الجبار الذين يعبدونه، فكان نظرتهم له بتعبد خاضع من إنسان ضعيف إلى الإله الذي أخرجهم هم وآبائهم من أرض مصر واهلك الفرعون وجنوده، أما المسحية متمثلة في الكنيسة الأولى كانت النظرة الحقيقية هي نظره من ابن إلى أبيه، فهي ببدالة البنوة الحقيقية المليئة بثقة في المسيح الذي تجسد عن العالم ليأخذنا في اتحاد حقيقي دائم فعرش النعمة الإلهية.
الخاتمة
لقد كانت الليتورجيا منذ القدم من المفاهيم المهمة لدى الكنيسة، لأنها تضم الطقوس والعبادات والتسابيح التي نشأت بمرور السنوات من اللحظة التي عرف فيها الإنسان الله وبدأ في العبادة.
إن الليتورجيا هي الطقوس التي نشترك نحن فيها مع الطبيعة المادية المخلوقة، وهذا ليس مخالف أبدًا لتعاليم المسيح، بل هو في صميم التجسد لأن الله لم يأت ليقدس الإنسان فقط ولكن قدس كل العالم فيه حيث كان متحد مع الكل في الابن، “لأن الخليقة أيضا ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله” (رو21:8).
ومن الليتورجيا في العهد القديم سنجد أهميتها في التقرب من الله الذي عبر بهم من أرض مصر وشاركهم رحلتهم من العبودية، أما في العهد الجديد سنجد الليتورجيا أصبحت دليلًا على حضور الله واتحاده بالخليقة من خلال الرموز التي تقودنا في رحلة لاكتشاف الله.
في القديم قد انقاد موسى في البرية ووقف أمام يهوه ليتغطى بمجده، أما نحن اليوم في العهد الجديد ومن الليتورجيا والتسابيح ننقاد إلى الاتحاد العميق ونصير أطفالا لله، فنستعيد بالتراتيل، والنغم الموزون، والألحان، والطقوس المسيحية، حياة الطفولة البريئة في أسمي معانيها والواقع المسيحي المبارك التي تقدمه لنا الليتورجيا.
أخيرًا، إن الليتورجيا هي حياة وليست مجرد طقوس خالية من اتجاه القلب، بل هي علاقة كيانية بين الإنسان والله، فالصلاة وممارسة الأسرار هي شركة حقيقية في حياة الله نفسه من خلال الابن بالروح القدس. من خلال الليتورجيا نفسها ينمو الإنسان نمو دائم اتجاه الغاية الأسمى والأعظم من كيانه هذه الغاية هي الله.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
Studies at Evangelical Theological Seminary in Cairo - ETSC
تمت الدراسة ايضا بمدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتي والوعظ
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- إعادة تعريف.. القلم: صديقٌ حميم! النجوم: بوصلةٌ سماوية! الألوان: أثوابُ العيون! الخُذلان: موتُ السنابل عطشاً في أرضٍ تزورها الجداول والغدران! الضباب: غشاوةُ دمع عين الأرض الباكية ليلا! المطر: مواساةُ دافئة! المفاتيح: أدواتٌ حملت على جسدها ضِدّينِ مُتضاديّن! القُبح: عِللٌ نراها في كُلِّ الضمائر (هو، أنت، أنتما، أنا، نحنُ….) الذِكريات: (هو) الغائب الحاضر بألفِ صِيغة! العِطر: إحساسُ زهرٍ......