إن أروع حدثين سجلهما الوحي المقدس لنا في سيرة يعقوب أبو الآباء كانا في أحلك ساعات حياة أبينا يعقوب . الحدث الأول كان أثناء هروبه من أرض الميعاد ” أرض كنعان“ من وجه أخيه عيسو الذي أراد قتله . فظهر الله في حلم ليعقوب وكان الله واقفاً علي رأس سلم يربط الأرض بالسماء ( تكوين ٢٨) :
” فاضطجع في ذلك المكان. ورأى حلما، وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء ، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها . وهوذا الرب واقف عليها، فقال: « أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك … ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض . وها أنا معك ، وأحفظك حيثما تذهب ، وأردَّك إلى هذه الأرض ، لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به ». فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: « حقا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم ! ». وخاف وقال : « ما أرهب هذا المكان ! ما هذا إلا بيت الله ، وهذا باب السماء »… ودعا اسم ذلك المكان « بيت إيل »“ .
كان هذا الحلم نبؤة عن التجسد الإلهي ليسوع المسيح الرب الإله الذي ظهر في الجسد ليكون هو وبشخصه الطريق ( السلم ) الحق الوحيد الي الحياة الأبدية . وقد أكد المسيح أنه هو المقصود من حلم يعقوب وسلم يعقوب ( أنظر يوحنا ١) :
” أجاب نثنائيل وقال له: « يا معلم، أنت ابن الله ! أنت ملك إسرائيل ! »… أجاب يسوع وقال له : « الحق الحق أقول لكم : من الآن ترون السماء مفتوحة ، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان ( السلم ) » .
والحدث الثاني ، كان مصارعة يعقوب مع الله في حلم ( تكوين ٣٢ ) عند رجوعه ثانية ً الي ارض الميعاد وكان لا يزال عيسو أخاه يريد أن يقتله :
” فبقي يعقوب وحده ، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حُق فخذه ، فانخلع حُق فخذ يعقوب في مصارعته معه . وقال: «أطلقني، لأنه قد طلع الفجر». فقال: « لا أطلقك إن لم تباركني » … فقال: « لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت».
فدعا يعقوب اسم المكان «فنيئيل» قائلا: «لأني نظرت الله وجها لوجه، ونجيت نفسي». وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه . لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حُق الفخذ إلى هذا اليوم ، لأنه ضرب حُق فخذ يعقوب على عرق النسا .“
إن الحدث الأول كان في فاتحة طريق حياة يعقوب حين هرب الي خاله -الذي عبد الأصنام -في أرض آرام وحاران ( قرب العراق) وتزوج رفقة وليئة . إلا أن الرب الإله كان علي رأس هذا الطريق – الذي أظهره الحلم – إذ كان الرب واقفاً علي رأس السلم . كان الأمر يبدو كأنه أحداث لإنسان في مسيرته علي الأرض بكل ما أشتملت من معاملات بشرية ، إلا أنه في الحقيقة ، وكما كشف لنا الحلم ، كان طريقاً مسجلاً في السماء يباشر الرب خطواته من فوق .
هنا تتضح العلاقة بين هذا الحدث و بين تجسد المسيح كما أشرنا قبلاً من أن حلم يعقوب هو نبؤة عن التجسد الإلهي . لأن التجسد الإلهي قدَّس طريقنا في حياتنا علي الأرض بكل ما تشمله من نشاط أنساني وجعلها لحساب السماء ، وذلك عندما لبس الإله حياتنا الإنسانية وظهر في جسدنا ونشاطنا الإنساني فتقدس وتمسحن وتروحن بسيرة الإله الذي عاش أنسانيتنا فصارت حياتنا علي الارض هي لحساب السماء بفضل هذا السلم أي الطريق الذي هو يسوع المسيح ”أنا هو الطريق والحق والحياة“. هذا هو سر قول الرب ” من أجلهم أقدس أنا ذاتي ( كإبن الإنسان)“ .
ثم جاء الحدث الثاني في لحظة حالكة مثل الأولي في حياة يعقوب كما شرحنا. ولكنها لحظة لا تمثل الخوف المرتبط ببدايات الحياة وضروراتها من بناء أسرة وكسب مال وتربية بنين . ولكن هي لحظة الخوف من ضياع كل هذا الذي حققناه في حياتنا علي الأرض من أمجاد. والموت هو الذي يلخِّص كل خسارة . وقد واجهه يعقوب علي يد عيسو أخيه الذي اراد قتله عند رجوعه ارض الميعاد .
لهذا جاء الحدث الثاني أعنف في صورته وأكثر قسوة مِن الحدث الأول . فنحن نري الآن يعقوب يتصارع مع نفس الإله الذي كان واقفاً علي رأس السلم في الحدث الأول . بل إن الحلم نستشف منه ملامح وشُبهة أنفصال . فنحن أمام يعقوب وهو يجاهد أن لا ينفصل عن هذا الإله مهما كانت الخسارة حتي لو كانت هي خسارة كل ما حققه في حياته ” لا أُطلِقك “.
إن أنجازات الإنسان في الحياة الدنيا ونجاحاته ربما تشكل أكبر تهديد لعلاقة الانسان مع الله والمسيرة نحو الأبدية . وقد تمثَّل هذا في تهديد عيسو ليعقوب بالقتل ، حتي أن يعقوب قسم عائلته وزوجتيه وما يملك الي فرقتين حتي إذا قتل عيسو الواحد يبقي الآخر .
الرائع في الحدث الثاني أن يعقوب تقبَّل الخسارة في لحمه وجلده ” ضرب حق فخذه فأنخلع حق يعقوب في مصارعته مع الله” ولكنه لم ينفصل عن الرب رغم الخسارة . فالذي ينخلع فخذه في مشاجرة يحرص أن يهرب خوفاً علي حياته أن تُزهق في هذه المصارعة. لكن يعقوب لم يبالي وتمسَّك بخُنَّاق الرب “ لا أطلقك إن لم تباركني ” . فعجيب كان أمر يعقوب وتناقضات هذا الحلم . أينتظر أحدٌ بركةً مِن الذي خلع فخذك ؟ وكيف يأتي مكسب أو بركة من داخل خسارة و قد طالت لحمك وعظمك ؟. لهذا جاء هذا الحلم في فترة غني يعقوب والتهديد بالخسارة والموت .
فالرب يحذرنا من أن يبتلعنا الخوف من فقدان ما جنيناه في حياتنا من نجاحات . ويؤكد لنا أن المهم والمطلوب هو أن لا ننفصل عن هذا الإله الذي كان مشرفاً علي بدايات حياتنا من علي رأس سلمها. فحياتنا أصلاً سلم يتجه من الارض الي السماء والرب يباشرها من فوق رغم كل ما فيها من أحداث . فإن حلم سلم يعقوب يؤكد – ومنذ العهد القديم – أن حياتنا لن تعود مرة ثانية من التراب والي التراب كما كانت . فهي أصلاً حياة سمائية – وإن كانت الآن علي الأرض – والرب علي رأس طريقها الصاعد إليه في السماء . فبعد تجسد المسيح ” آدم الثاني“ صار هو رأس خليقتنا وليس بعد ” آدم الأول ” الذي من تراب الأرض . وربما هذا ما أكده الرب ليعقوب أنه حتما سيرجعه من أرض خاله الذي يعبد الأصنام إلي أرض الميعاد حيث هيكل الله الحي ” وأردَّك إلى هذه الأرض ، لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به “ .
إن الحدث الثاني ومصارعة يعقوب لله هو من أجلنا ، لنكون مثل يعقوب علي استعداد أن نترك كل شئ مهما كان حتي و إن أصاب لحمنا وعظمنا ولكننا لا نتخلي عن رفيق مسيرتنا منذ بدايتها ، الرب المُطَّلع من السماء ، والذي هو وجهة حياتنا من الأصل . فهو القادر أن يبدل الخسارة والموت الي بركة وحياة . ولأن هذا كان قصد يعقوب الذي كشفه الحلم : أن لا يفصله عن الرب شئ – خاصة الخسارة – فإن الرب لم ينفصل عن يعقوب بل ظل معه .
فأين ظهر هذا، أن الرب لم يفارق يعقوب ؟ . نقول إن البركة في العهد القديم هي المقابل والمرادف لمفهوم النعمة في العهد الجديد . والنعمة هي شخص الرب ذاته . فشخصه هو نعمته وبركته لنا ” بالنعمة انتم مخلَّصون“ ، والمسيح هو المخلِّص .
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟