لم يوجد كهنوت خاص إلا في العهد القديم وكان في سبط لاوي ” وتفرز لي اللاويين من بين بني أسرائيل فيكون اللاويون لي“ (عدد ١٤:٨). فقد كان الكهنوت في اليهودية خاصاً ومنفصلاً عن الشعب بل ومحظوراً عليه. وكان هناك حداً يفصل كهنة الهيكل عن الشعب وستاراً يحجب قدس الأقداس . فبقي الكهنوت محصوراً في سبط لاوي في العهد القديم ولم يشمل كل شعب إسرائيل.
ولكن الله أعطي وعده بعهد جديد يكون فيه الكهنوت للشعب جميعه وليس لفئة خاصة: “فالآن إن سمعتم لصوتي، وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإنَّ لي كل الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة . هذه هي الكلمات التي تكلم بها بني إسرائيل».” (خروج ١٩). وطبعا معروف تاريخياً أن هذا لم يتحقق في العهد القديم، لأنه لم يحدث أن كل شعب مملكة إسرائيل صاروا مملكة كهنة. بل ظل الكهنوت محصوراً في سبط لاوي حتي زوال العهد القديم.
بل وقد كان الموت هو عقوبة كسر هذه التفرقة بين الكهنة والشعب قديماً وقبل أوان تحقيق الوعد بزوال التفرقة في العهد الجديد. رأينا هذا في حادثة قورح وداثان وأبيرام ( سفر العدد ١٦). فقد واجهوا موسي النبي بوعد الله الذي لم يتحقق بعد أن الكهنوت سيكون لكل شعب الله . فقد كان مضمون الوعد أن الجميع سيكونون كهنة لله العلي، لأن الرب في وسطهم، وبذلك يصير الجميع قديسون وكهنة، ولا أحد فوق شعب الله بسبب كهنوت خاص كما حدث في سبط لاوي في ذلك الزمان . لذلك فتحت الأرض فمها وابتلعت قورح وجماعته.
ثم تجسد المسيح وأفتتح العهد الجديد، عهد النعمة، وتحقق الوعد بالكهنوت لكل شعب الله بسبب تدخل النعمة، بعد أن فشل تحقيق الوعد عن طريق جهاد شعب إسرائيل بالبر الذاتي للإنسان وفشلهم في محاولة تطبيق الشريعة وتكميل الناموس بالجهاد دون النعمة. ففي العهد الجديد أصبح شعب الكنيسة هو شعب الله وكهنته دون تفرقة بين كهنة من سبط لاوي وبقية شعب الله إسرائيل كما كان قديماً “كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً، كهنوتاً مقدساً، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح. 9 وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب أقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. 10 الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأما الآن فأنتم شعب الله. الذين كنتم غير مرحومين، وأما الآن فمرحومون.” (بطرس الأولي ٢). أنظر أيضا سفر الرؤيا ص٦:١ & ص ١٠:٥& ص ٦:٢٠.
فكهنوت العهد الجديد هو كهنوت كل شعب الكنيسة وليس فيه أختلاف كياني بين سبط وسبط آخر أو فصيل دون فصيل. بل هو كهنوت عام ملوكي. وكلمة ملوكي أي يتبع الملك المسيح في ملكه الألفي الذي بدأ بقيامته من الأموات ليملك علي كل أعضاء الكنيسة الذين يُكَّونون مملكة المسيح وكهنته ويقدِّمون التسبيح لملكهم المسيح
فكنيسة العهد الجديد هي كنيسة مواهبية، نسبةً إلي مواهب الروح القدس. فجميع شعب الكنيسة لهم مواهب الروح القدس وليس لفئة خاصة دون أخري. ولكن يوجد بينهم تنوع في المواهب من أجل تقديم خدمات وظيفية متنوعة. فالقسوس والأساقفة لا زال كهنوتهم هو الكهنوت العام المتساوي مع كل كهنوت شعب الكنيسة. أي أنه ليس لهم كهنوت خاص بهم. ولكنهم يتميزون بأن لهم وظيفة خاصة بهم ”لا يأخذ أحد هذه الوظيفة من نفسه بل المدعو من الله“، مثلما هو الحال لكل فرد في شعب الله في الكنيسة له وظيفة خاصة به، ولأجلها يأخذ موهبة من الروح القدس. فالكهنوت واحد في الكنيسة، ولكن الوظائف ومواهبها تتنوع بين أفراد شعب الكنيسة من أجل خدمة الكنيسة جسد المسيح. وتعريف وظيفة القسوس والأساقفة هي أنهم خدام أسرار المسيح رئيس الكهنة الأعظم، حيث الكهنوت لجميع شعب الله وليس لفئة بعينها دون أخري.
وكما قلنا فإن الكهنوت في العهد الجديد، هو كهنوت واحد فقط. وهو الكهنوت الملوكي لكل شعب الله بالتساوي. وقد كان علي مستوي الوعد فقط في العهد القديم. فلم يُسمَح لغير الكهنوت اللاوي بالخدمة في خيمة الاجتماع أو الهيكل في العهد القديم. أما في العهد الجديد فقد صارت الخيمة ”حية وغير مصنوعة بيد بشر“ و مِلكاً لجميع أعضاء الكنيسة. فشعب الله في العهد الجديد يتألف من ملوك وكهنة. وهو شعب مقدس بسبب حضور المسيح في وسطه متى أجتمع ”إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم“. ولهذا لا تبتلعه الأرض ولا تبدده النار كما حدث لقورح وجماعته.
شعب الله في العهد الجديد لا يعبد الله في ساحة الهيكل خارجاً بل في قدس الأقداس ، لأن الحاجز المتوسط قد أنشق من الوسط” وإذا حجاب الهيكل قد أنشق نصفين من أعلي إلى أسفل” (متى ٢٧)، وصار للشعب كله دخولاً إلى قدس الأقداس. شعب الله الجديد يمكنه أن يدخل حيث لم يستطع شعب الله القديم الدخول إلى قدس الأقداس. هذا صار ممكناً لكل الشعب بتجسد المسيح الذي صار جسده طريقنا إلي قدس الأقداس عندما أنشق جنبه علي الصليب وسال دمه “فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى «الأقداس» بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حياً، بالحجاب، أي جسده” (عب ١٠). فقد صار للمؤمنين في العهد الجديد دخولاً إلى قدس أقداس هيكل الله الحي، لأن قدس أقداس هيكل الله في العهد الجديد هو جسد المسيح: “فأجاب اليهود وقالوا له: «أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟». أجاب يسوع وقال لهم: «أنقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه». فقال اليهود: «في ست وأربعين سنة بُنِيَ هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟». وأما هو (يسوع) فكان يقول عن هيكل جسده.” (يوحنا ٢). وهكذا صار الكهنوت الملوكي حقيقةً وأساساً لحياة الكنيسة بنعمة المسيح في العهد الجديد.
لذلك فإن الارتداد إلي مفاهيم العهد القديم قبل أن تتكمل في العهد الجديد ، وذلك بالفصل بين كهنوت وكهنوت في كنيسة الله، هو في حقيقته ارتداد عن نعمة العهد الجديد وبالتالي هو تغييب للنعمة.
وأي محاولة لاستجداء هيبة وسلطان لفئة ما في الكنيسة علي غير أساس موهبة المحبة التي هي من مواهب الروح القدس، الذي ليس بين مواهبه سلطة أو سلطان أو شريعة أو قانون، سينتج عنه غياب النعمة. فموهبة المحبة التي هي موهبة من الروح القدس الذي ليس بين مواهبه سلطان، هي التي تضمن الهيبة و الطاعة في العهد الجديد، أما الهيبة القائمة علي الخوف مِن سلطان أو قانون أو خوف من أرض تنشق وتبتلع المخالفين كما في حادثة قورح وداثان وأبيرام في العهد القديم، فليس لها مكان في العهد الجديد.
إن الله لا يعهد بسلطته وسلطانه إلى إنسان مهما كان. بل العكس صحيح أن الله يُخضِع كل البشر للمسيح “لآنه وَضع كلَ شيء تحت قدمي المسيح“. ولا يوجد في الكنيسة سوى سلطة وسلطان المحبة، لأن المحبة هي طبيعة الكنيسة “جسد المسيح“. فليس في الكنيسة ”سلطان للكهنوت”. لأن السلطة والسلطان والتسلط ليس من مواهب الروح القدوس. إن الله لا يمنح الرعاة والكهنة سلطة و سلطان، بل يمنحهم موهبة المحبة، التي بواسطتها يَخضع الناس لهم ”كمَن له سلطان“.
فلا يمكن إعطاء أي أساس آخر للسلطة في الكنيسة إلا لسلطان المحبة. وبالتالي فليس هناك ما يُشاع عن “سلطان الكهنوت“ لأن الأساس الوحيد للسلطة في الكنيسة هو وجود المسيح فيها. والمسيح لم يعط قانون أو شريعة أو ناموس أو حق يخلق سلطة قانونية في الكنيسة، بل إن المسيح رفض مثل هذه السلطة القانونية، وجعل نفسه وسلطان محبته مثالاً: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (متي ٢٩:١١). سلطة المسيح في الكنيسة، هي سلطة المحبة التي يحملها. والأساقفة يمكنهم أن ينالوا فقط ما يعطيه المسيح للكنيسة من موهبة المحبة بالروح القدس، لا أن يخلقوا بديلاً للمحبة عن طريق سلطة قانونية تخلق لهم “سلطان الكهنوت” في الكنيسة: “ولا تتسلطوا عل رعيتكم، بل كونوا قدوة للقطيع” (١بط: ٥)
أما عن مبدأ “سلطان الكهنوت” فقد دخل خلسة إلي مفاهيم البعض في كنيستنا وكان تأسيساً لسلطان ذو صبغة قانونية ناموسية كشريعة العهد القديم. فالتسلط أو الآمرة علي رعية الله تعني أستعمال سلطان غير مؤَسَّس علي المحبة. لذلك فإن ما يقال عنه “سلطان الكهنوت“ هو رِدة إلي عبودية قانون / ناموس العهد القديم. بينما العهد الجديد يقوم علي الخدمة المؤسَّسَة علي المحبة. هذا هو الخيط الرفيع الذي لو قطعناه تنشأ سلطة في الكنيسة غير مؤسَّسَة علي المحبة، فتنحسر النعمة عن الرعاية لو حدث واغتصبنا سلطان المسيح الذي لا يعطيه لأحد، بل يمنح بسلطانه هذا موهبة المحبة المتبادلة بين الراعي والرعية والتي هي أقوي من كل سلطان بناموس أو قانون أو شريعة. إن هذه النزعة الدخيلة علي منهج العهد الجديد الذي أسسه المسيح نجدها أيضاً هي السبب في التعثر في عدم التخلي عن ناموس موسي وشرائعه المتمثلة في تطهيرات للمرأة بعد الولادة وأثناء الدورة الشهرية، ولا نزال نجد البعض يفرضها فرضاً بمنع المرأة عن التناول وبقية الأسرار في هذه الفترات. فهذا أستمرار لتعليم “سلطان الكهنوت” الذي دخل خلسة في الكنيسة.
إن المسيحية وكنيسة المسيح في العهد الجديد لم تعرف الفصل بين إكليروس وعلمانيين لأنها كنيسة علمانيين (لائيكوس) في الأساس وكل فرد في الكنيسة هو ضمن كهنة الله العلي (وله رتبة كهنوتية هي رتبة العلماني: لآئيكوس. وهي رتبة كهنوتية لا علاقة لها بكلمة العالم الترابي). فالمسيح نفسه لم يكن رجل دين بل علماني. كذلك فإن آباء الكنيسة ليسوا كهنة فقط بل علمانيين أيضاً (وكل منهم هو لائيكوس). هذا نراه في طلبة أوشية / صلاة الراقدين.
وإليكم هذا الشرح عن كلمة الإكليروس وكيف أنها في العهد الجديد صارت تخص كل الشعب:
أولاً :في العهد القديم:
قال الإله ”وتفرز لي اللاويين من بين بني إسرائيل فيكون اللاويون لي“ (عدد ١٤:٨). فكان اللاويون هم قنية الله وميراثه = نصيب Kleros الله من دون بقية أسباط شعب اليهود .
بل وكان التخصيص متبادَل. فكان الله أيضا نصيب Kleros لسبط لاوي وحده ”في ذلك الوقت أفرز الرب سبط لاوي لكي يقفوا أمام الرب ويخدموه“ (تثنية ٨:١٠). لذلك لم يكن لسبط لاوي نصيباً في الأرض مثل باقي الأسباط، لأن الرب كان هو نصيبهم.
ثانياً : لما جاء العهد الجديد :
فعلي عكس العهد القديم الذي كان فيه سبط لاوي هو فقط المخصص لله كنصيب له، فإن كل شعب الله -أي الكنيسة- صار يؤلِف نصيب Kleros الله بواسطة المسيح ”أنتم للمسيح والمسيح لله“ ١كو٢٣:٣.
فيقيم الروح القدس في كل كنيسة شيوخاً (أو أساقفة) لرعاية النصيب Kleros من قطيع شعب الله الذي أقامهم عليه. فكل عضو في شعب الله هو عضو في نصيب الله = أكليريكي Klerikos
”أَطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن، أرعوا رعية الله التي بينكم (الموكلة إليكم) نظارا، لا عن أضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة Klerikoi (ولا تتسلطوا علي أنصبتكم)، بل صائرين أمثلة للرعية.“ (بطرس الأولي١:٥-٣).
وصار الرب نصيب Kleros لكل شعب الله، وعلي نفس منهج الله من جهة خاصته سبط لاوي، فإن شعب كنيسة الله لم تعد له علي الأرض مدينة باقية، بل يطلب ويسعى إلي مدينة المستقبل أورشليم السماوية : ”لأن ليس لنا هنا مدينة باقية، لكننا نطلب العتيدة“ (عبرانيين ١٤:١٣).
ولأن نصيب المسيحيين هو عبادة الله، فإنهم يكونون بالضرورة في عهدة الله، ولا ينتسبون إلا إليه. وبذلك فهم يصيرون نصيب Kleros الرب.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟