على خلفية حادث كنيسة الشهيد أبي سيفين بحي إمبابة الشعبي المختلط بتاريخ القاهرة الكبرى، الذي أفجعنا منذ أيام، لا أزال أتعجب كيف يمتلك أحدهم كل ذاك التبجح أمام شبح الموت ومخالبه الباطشة؟ كيف بحق أيا كنتم تعبدون، أن تأخذكم العجرفة ونفي الاتهامات وتأليف المعجزات أمام جثامين أكثر من خمسة عشر طفلًا دنسها الإهمال؟! ثم قاطعني صوت "مصطفى خلف" المحامي الشهير في ضد الحكومة صارخًا: "كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا!" نعم، وأنا كذلك، لا ولن استثني أحد: من إعلام فاشل، ودراويش مغيبيين، وقادة متنطعين، وتعليم ضحل، وهلوسات نظريات المؤامرة الساذجة.. لا استثناءات! الكل متهم!
“أنني لن أغير سير الشريعة ولن أُقيد الجهالة، دع الجهل يستثمر ذاته حتى يمل ذريته. دع العميان يقودون العميان إلى الحفرة، ودع الموتى يدفنون موتاهم حتى تختنق الأرض بأثمارها المريرة”.
(جبران خليل جبران، كتاب يسوع ابن الإنسان)
في هذه القبيلة، لا احترام لمهابة الموت ولا أنين المفجوعين، حتى تتطبع المفجوعون بطباع القبيلة وأنكروا على ذواتهم الحزن، ذاك الذي تجرعه المسيح في جثسيماني!
مع الساعات الأولى بعد الحادث قرر مُرْتَزِقَة الإعلام القبطي -هذا الوصف ليس هجاءا؛ لأنهم ليسوا دارسي إعلام متخصصين وإن درسوا فهم لا يمتلكون الحد الأدنى للاحترافية- ممارسة هوايتهم المفضلة في تغطيات عشوائية وجلب ضيوف عشوائية لبرامجهم والمزايدة على آلام البشر إلى تصدير غيبيات جديدة وإهانة كل من أدان الإهمال وحاول وضع الأمور داخل نصابها السليم.
إليك بعض الأمثلة مما ترويجه:
– ده فيديو ٢٠ ثانية يا ظلمة لحقتوا تنظروا وتحللوا!
– الذبيحة أهم من كل شيء!
– لا تدينوا!
– الكاهن الشهيد!
– يا بختهم!
– أنتم أعداء الكنيسة ومضللين!
– متقولوش يا جماعة قدام الكاميرات أنه ماس!
– معجزة هنا…معجزة هنا…معجزة هنا!
وغيرها العديد والعديد مما يُثير الغثيان حقًا! والحق ربما هذا ليس انتقاصًا من شخوص بعينها بينما محاولة تشريح فيما يجول داخل عقلية شريحة كبيرة من أقباط مصر!
١- في بادئ البداية، يتميز هذا الجيل تحديدًا من الأقباط المصريين دونًا عن غيرهم من مسيحيي العالم بعشق نظرية المؤامرة الكونية، ولأجل الصدق فهم أكثر من عانوا أحداث بشعة تظل ذكراها عالقة في أذهاننا جميعًا من أحداث الكُشح ونجع حمادي وطنطا والبطرسية إلى حوادث الشارع والمواصلات العامة التي تقع فريستها الأولى سيدات وفتيات يجدن أنفسهم في دائرة عنف جندري/ديني ويقفن بصمت يعتصرهم الخزي مع المزيد من التنكيل في جلسات عرفية رديئة السمعة. هذا لا ينكره إنسان ولكن يا عزيزي المواطن لماذا لا يمكنك الاعتراف بخطأ إهمال جسيم ناجم عن المؤسسة نفسها؟
للأمر بعض الأبعاد السيكولوجية سأحاول في إيجاز تلخيصها:
تربى أطفال المؤسسة الكنسية على أن هذه المؤسسة: “مقدّسة”، ﻻ تخطئ، ورجالها “قديسون”، ﻻ يخطئون، ولا حتى العاملون فيها من كهنة وإكليروس، وبهذا نفوا عنهم أي صفات إنسانية فيما يُشبه التأليه المستتر، وأخذوا يكررون الأمر مرارًا وتكرارًا بوعي أو دون وعي، حتى بات من المستحيل، وﻻ بالأدلة الجنائية، أن يصدقوا أن هناك رجل دين متحرش أو قاتل تحت شعار: “ده كاهن أنت بتقول إيه” في مسلسل عبثي سوداوي لسياسة قطيع يلهث وراء جلاده في حنان وهيام بلا ذرة تعقل أو وزن للأمور!
هل مات أحباءنا هكذا دون داع؟ “على فشوش؟” ألا توجد مبررات درامية لموتهم؟ ليس هناك شبهة جنائية؟ ليس هناك من يريد زعزعة إيماننا؟ قد لا يحتمل عقل مواطن بسيط عانى بصدق ويلات الحياة فاجعة كهذه دون مُعزي؛ ولا أقصد بالمُعزي هنا الروح القدس قطعًا، بل أطنان من تراكمات القصص الفلكلورية والدراما الكنسية والبرامج الخزعبلية التي تؤكد حدوث معجزة ما تهون عليه ضنك الأيام. فإن كان المواطن العادي يُفجع من الشر والألم، فالمسيحي المصري لا يستطيع التعامل مع أبسط آلام يومه إلا عن طريق معجزة أيًا ما تكون! الله صانع المعجزات يستطيع كل شيء لكن من السخف أن تورطه في إصلاح “جلدة حنفية مخرومة”! وهذا تحديدًا ما أسميه العبث المعجزاتي!
في دراسة في غاية الأهمية للدكتورة “أماني مسعود” أستاذة العلوم السياسية بسياسة واقتصاد حول حي المطرية وما جاورها من أحياء فقيرة؛ بغرض البحث في أسباب تأهل هذا الحي واحتضانه لتنظيمات إرهابية وجدت التالي: “عمران المهمشين” وهو العمران المفتقد للخدمات عمومًا ومحفز للإفقار؛ يقدم قراءة اقتصادية واجتماعية للعنف…
ما دخل هذا بذاك؟ سأوضح القصد: يوجد تماس رهيب في تعريفات “عمران المهمشين” بين كل من المطرية وإمبابة؛ بيئة خصبة وثرية لمقومات العنف والإرهاب. أتتصور أيها القارئ أن المتسبب في الحادث هو وجود مولد “جينيريتور” مع “كارفانات” خشبية وتغطية بير السلم بين الأدوار ٣ و٤ لكسب مساحة أوسع للكنيسة وسطح مُقفل بشباك حديد ومن الداخل بخشب كيلا يتسرب هواء التكييف هباءً؟ هذا بالحقيقة أحط كوارث عمران المهمشين ونتائجه الكارثية.
٢- أود افتتاح التحليل الثاني بإحدى أصدق عبارات الليبي الصادق النيهوم:
“لا تخافوا على سلامة دينكم من تماثيل حجرية تزينون بها منازلكم! بل خافوا من الأصنام البشرية التي تحتل رؤوسكم وتسجد لها عقولكم”
(الصادق النيهوم)
مرفق بهذا المقال عينات عشوائية من ردود فعل شريحة كبيرة من الأقباط حول كيفية تعامل المتنيح القمص عبد المسيح بخيت مع الحادث وإكمال طقس الصلاة. ترتكز الردود المتنوعة حول مفاهيم مثل: “الأمانة والذبيحة والمقدسات وحرام ومينفعش”. أضع تحت عين القارئ بعض آيات الكتاب المقدس بالشهود حتى لا ينعتوني بالهرطقة أو الاحتكام للدامابادا البوذية:
لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ.
(يوحنا ١٧: ١٥)
لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ.
(يوحنا ١٥: ١٣)
فِعْلُ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ أَفْضَلُ عِنْدَ الرَّبِّ مِنَ الذَّبِيحَةِ.
(أمثال ٢١: ٣)
كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.
(متى ٢٠: ٢٨)
وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ.
(يوحنا ١٧: ١٩)
أنا حقًا أتعجب من هذا الشعب الذي يزعم بحثه عن الحقيقة وإيمانه بالإنسانية، فقط فتش عن أسماء الأقباط في التعليقات على الصفحات المطالبة بتجديد الخطاب الديني أو الحريات وما أن يتعلق الأمر ببحث حول سبب من أسباب حادث مروع ينتفضون متشنجين ضد كل من يحاورهم بمنطق! يبدو أن المنطق نفسه لا يحتمل ما يحدث! دعني استوضح قبل أي شيء أن الموتى بين يدي خالقهم ومن موقعي لا أحمل إدانة شخص الكاهن الفقيد إنما مباحثة حول الله الذي أعرفه.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟