تناولت المقالات السابقة نظرية "يحزقيل كوفمان" عن ثورة التوراة في مواجهة نصوص الشرق الأدنى اللاهوتية، وفي هذا المقال، سنتناول نِقَاط التشابه اللاهوتية بين يهوه والإله إيل.
من هو إيل؟
لعلك سمعت وقرأت هذا الاسم كثيرًا؛ فهو مرتبط بكثير من أسماء العهد القديم الشهيرة؛ مثل، بيت إيل، وإسرائيل، وإسماعيل، وإيلوه، وإيلوهيم، وإيل شداي. لعلك تعرف أيضا أن بعض الأسماء في العهد القديم مشتقة من إيل والبعض الآخر مشتق من يهوه (مثل إيليا). لعلك أيضًا بحثت عن معنى الاسم لتقرأ أن إيل تعني إله في العموم ويمكنها أن تشير إلى أي إله سواء في الأساطير الوثنية أو يهوه.
هذا جزء من الحقيقة فقط؛ لأن إيل أيضًا اسم إله وثني شهير عبده القدماء في كنعان قبل أحداث التوراة، وهو رئيس معبد/ مجلس الآلهة في كنعان، وإله السماء العظيم أو القدير، وأبو الآلهة، وتصفه النصوص الكنعانية بأنه ذو لحية بيضاء طويلة، ويسكن في أعلى الجبال داخل خيمة، وتشمل ألقابه “أب جميع المخلوقات”، و”الثور”، و”الملك”.
وهو أيضًا إله جبل حرمون الذي يعد البشر بالذرية. ففي الأسطورة الأوغاريتة للملك كيريت، يفقد الملك زوجتيه وأبنائه، فيذهب إلى معبد الإله إيل ويتزوج مرة أخرى ويعده الإله أن زوجته الجديدة ستنجب له سبعة أبناء. (Theological Dictionary of the Old Testament: Volume VI ص 78).
ما علاقة يهوه بإيل؟
وفقًا للعهد القديم، فإن المرة الأولى التي أعلن فيها يهوه عن نفسه باسمه كانت أمام موسى في العلية:
وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ.(سفر الخروج 6: 3)
“الإله القادر على كل شيء” هي تَرْجَمَة “إيل شداي” في النص العبري، ونجد الاسم في الكثير من الترجمات الإنجليزية للكتاب المقدس. أما الترجمات العربية فقد أزالته واستعاضت عنه بالإله القادر.
I appeared to Avraham, Yitz'chak and Ya‘akov as El Shaddai, although I did not make myself known to them by my name, Yud-Heh-Vav-Heh [Adonai]
(Exodus 6:2-4. Complete Jewish Bible)
يشير هذا النص إلى أن الآباء إبراهيم واسحق ويعقوب لم يعرفوا اسم يهوه؛ لأنه تعامل معهم باعتباره إيل.
لم ينته الجدل حول هذا الأمر، فوفقًا لبعض التفسيرات على موقع الأنبا تكلا الأرثوذكسي، لا يعني هذا النص أن الآباء لم يعرفوا الاسم قبل موسى، لكنهم فقط لم يعرفوا “كامل معنى الاسم،” و”الصفات الإلهية”، لكن، هذا التفسير ضعيف للغاية؛ لأن به ثلاث مشكلات: الأولى هو إننا نقرأ باستمرار عن تجنب يهوه لذكر اسمه للآباء وأبرز مثال على ذلك هو قصة صراع يعقوب.
وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ.(سفر التكوين 32: 29)
المشكلة الثانية هي أن المعنى لم يتضح لموسى في العلية، لأن “أهية الذي أهية” تعني “أكون من أكون”؛ بالتالي، فكرة اتضاح المعنى لموسى أكثر من الآباء غير موجودة.
فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».(سفر الخروج 3: 14)
المشكلة الثالثة والأهم، في رأيي، هي أن الآباء إبراهيم واسحق، ويعقوب، ويوسف هم أبطال الإيمان، وقد اختبروا الله أكثر من أي أحد وعرفوا صفاته أنه سرمدي، وقدير، وجدير بالثقة. فكيف نقول إنهم لم يعرفوا صفات الاسم بوضوح؟
لعل الغرض من هذا التفسير هو إزالة إشكالية وجود اسم يهوه في التكوين قبل ظهوره لموسى، كما هو الحال في موضع “يهوه يرأه” موضع تقديم اسحق محرقة ويوكابد، أم موسى. لكن أصحاب نظرية المصادر الأربعة (اليهوي J، والإيلوهي E، والتثنوي D، والكهنوتي P) يعتقدون أن كاتب التكوين قد وضع اسم يهوه في أثناء الكتابة حديثًا بعد أن أصبح معروفًا، مثلما تغيرت أسامي المدن لتوافق اسمها الحديث، وأن هذه التعديلات تعود للمصدر اليهوي. أو أن موسى هو من أضاف اسم يهوه على الأسماء القديمة إذا فرضنا أن هو الكاتب.
هل هناك اختلافات بين يهوه وإيل؟
يتصف إيل بأنه أحد الآلهة عديمة الجدوى (Otiose Deity) ذوي القدرة المحدودة؛ فكثيرًا ما يتوارى خوفا من الآلهة الأخرى، ويأخذ دور شرفي في مجلس الآلهة. وينجح الإله بعل في الاستيلاء على مكانه. بينما لا نجد تلك الصفات عند يهوه. لكنه يتفق معه في صفات منها الحكمة والحنان.
كيف يفسر المؤمنون ذلك؟
نعم، يبدو الأمر صادما للبعض، لأنه يأتي على عكس ما نعرف أن التوحيد بدأ من أول آدم، مميزًا الشعب اليهودي عما قبله من أديان تمييزًا قاطعا. لكن، ثمة مؤمنون تعاملوا مع الأدلة بنضج دون تحايل على التاريخ أو تزييف.
لعل أشهرهم هو المؤرخ مارك إس سميث، الذي سؤل صراحة من أحد الحاضرين لمؤتمر ألقاه في المغرب عن تصالح الإيمان مع تلك الحقائق التي يكشفها المؤرخون. رد مارك قائلًا:
أنا أفصل تماما بين عملي كمؤرخ وكوني مؤمنا مسيحيا كاثوليكيا. فدوري كمؤرخ يدفعني أن أحترم ما لدي من براهين.(مارك إس. سميث، مؤتمر طنجة الدولي)
يرى مارك أن اليهودية ليست مجرد ثورة على الديانات القديمة، وهي إلى ذلك ليست امتدادًا لها فحسب؛ بل هي مزيج من التشابه والاختلاف. كان التوحيد وليدًا للوثنية التي سارت معه جنبا إلى جنب حتى تلاشت. هكذا يصف مارك نشوء التوحيد.
يرى أيضا سي. إس. لويس أن رؤيتنا للديانات القديمة كأديان شيطانية محضة لا نريد أن تربطنا صلة بها رؤية ساذجة، وتضع الله في مشكلة؛ لأن القدماء كانوا بشرا مثلنا، فلما لم يتواصل معهم؟ وما المشكلة في أن يتواصل بواسطة آلهتهم ومحاولاتهم للتقرب له؟
لماذا يصعب على البعض تقبل ذلك؟
لا نتعجب أن نجد موقعا مثل موقع الأنبا تكلا -الذي يعج بمقالات عن الهراطقة- يرفض أن يكون الله متسامحًا مع الوثني والمختلف بهذا الشكل. فالاعتقاد أن بطل الإيمان إبراهيم كان أحد المؤمنين بإيل أمر مرفوض تمامًا؛ لأن بطل الإيمان لا يمكن أن يكون وثني، لا يعرف اسم يهوه. فحين تكفر من ينتمون لنفس ديانتك، لن تتقبل وجود مؤمنين خارج الإيمان القويم حسب معاييرك.
لذلك، يفسر الموقع اسم إيل على أنه فقط كلمة في اللغة تعني “إله” بوجه عام، متجاهلًا حقيقة وجود إله معرف بهذا الاسم في جبل حبرون، مكتوب عنه أنه يعد مؤمنيه بالنسل في الأساطير، ويسكن في خيمة، ومتغافلا عن قول الله لموسى أنه تعامل مع الآباء باعتباره إيل.
تعلمنا قصة العلية أن يهوه لم يهتم بأن يعرف الآباء اسمه، وتراءى للوثنيين بصفته الإله إيل وتعامل معهم وطور من فكرهم عنه فتعلموا الاعتماد عليه والتسليم له، فتغيرت صورة الإله إيل السلبي للإله يهوه الذي يقود شعبه. ومن وقت يشوع، الذي دعا الشعب صراحة لترك الآلهة المختلفة التي عبدها الآباء، بدأت ديانة يهوه تتخذ معالمها الخاصة. لم يعبد اليهود الإيل الواحد الذي لا شريك له، ويهوه نفسه يقر بذلك.
فَالآنَ اخْشَوْا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِكَمَال وَأَمَانَةٍ، وَانْزِعُوا الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمْ فِي عَِبْرِ النَّهْرِ وَفِي مِصْرَ، وَاعْبُدُوا الرَّبَّ.(سفر يشوع 24 :14)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- القدوس: هل تعني “بلا خطية”؟ الصفات الإلهية هي قاعدة حياة الشركة القوية بين الله والإنسان. وقد أعلن الله صفاته الإلهية للإنسان لكي يعرف كيف يؤسس علاقته به. وإن كل دراسة جيدة لصفات الله هي دراسة لحياة الشركة نفسها، وليست مجرد حلية ينبهر الإنسان بها. القدوس هي صفة لله، ولا تعني أن الله بلا خطية لأنها تخلو من المعاني السالبية، بل......