قبل بداية الألفية الثالثة اعتادت الأسر المصرية أن تحلم بمستقبل أطفالها، فهذا طبيب، وذاك مهندس، وهكذا، أما أنا، فقد رأت أسرتي إنني مشروع راهب، فتعاملت عائلتي معي منذ نعومة أظافري على أني راهب المستقبل. لكن أسرتي دون أن تدري وضعت عليَّ عبئا كبيرا كطفل لم يتخط العاشرة من عمره، فكطفل كنت ألعب مع الفتيات وأنجذب لهن، لكني أعرف بداخلي أنه بعد عدة سنوات يَجِبُ ألاّ تكون لي علاقة بهن، كراهب! ولم يخرجني من هذا المأزق سوى راهب شيخ بدير السيدة العذراء الشهير بـ"البراموس"، في وادي النطرون عام 2001.
في رحلة لكنيستي بدير البراموس كنت في الصف الثاني الإعدادي، وقفت ووالدتي لتحية راهب عجوز ذو لحية بيضاء، مر بجوارنا فطلبت والدتي منه أن يصلي لأجلنا وأخبرته إنني أود الرهبنة، لكنه بمنتهى الحزم، طلب مني أن أنسى هذا الموضوع تمامًا، وقال:
“أنت لسه صغير متربطش نفسك بحاجة كبيرة زي كده، أنت متعرفش بكره فيه إيه؟! مش يمكن تكبر وتدخل الجامعة وتحب واحدة زميلتك وتتجوز، ساعتها هتعمل ايه؟ تدخل الرهبنة عشان تلتزم بالكلمة اللي قولتها حتى لو مش رغبتك، ولا تتجوز زميلتك اللي بتحبها وبقت دي رغبتك؟!”.
لم أعرف اسم هذا الراهب، ولم ألقاه مرة أخرى في حياتي، لكن هذه الوقفة العابرة التي لم تستغرق دقائق قليلة معه كانت سببا في أن أتعلم درسا مهما طيلة حياتي، وكانت سببا لعبوري من مأزِق كبيرٍ كان ينتظرني بعد عدة سنوات، فقد اعتدت أن التزم بما تعهدت بفعله، ولربما أصبحت راهبا في الوقت الحالي لكنه راهب يسبب عثرة للآخرين، فقد أدركت مع الوقت أنني لم أخلق لأكون راهبًا، وأنني لا أصلح لهذه الحياة تمامًا، كما أدركت أن إقامة علاقة شخصية بالله لا تحتاج إلى الرهبنة فقط، لأن الله له طرق عدّة ومتسعة لا يمكن حصرها في قوالب بعينها.
مرت السنوات وكبرت أكثر وبدأت تتسع دائرة قراءاتي، وأعدت قراءة الكتاب المقدس بعين مختلفة، وبدأت أرى المسيح بعيون مختلفة، فاستوقفني موقف مهم للمسيح قبل أن يقبض عليه رؤساء كهنة اليهود، حينما تحدث مع تلاميذه عما سيحدث له بعد ساعات قليلة، لكن بطرس كعادته طيب القلب لكنه مندفع لا يحسب خطواته المقبلة أبدًا، يقول ما يشعر به، لكن لم يختبر قدرته على فعل ما يقول.
٢٧ وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ ٱلْخِرَافُ. ٢٨ وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ». ٢٩ فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَإِنْ شَكَّ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لَا أَشُكُّ!». ٣٠ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ فِي هَذِهِ ٱللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ». ٣١ فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لَا أُنْكِرُكَ!». وَهَكَذَا قَالَ أَيْضًا ٱلْجَمِيعُ.
(إنجيل مرقس 14: 27-31)
في هذا المشهد تحدث المسيح بمنتهى الواقعية عما سيحدث وأن تلاميذه المقربين سيشكون فيه، إلا أن بطرس الذي يمتلئ قلبه بمحبة كبيرة للمسيح رد بمنتهى الاندفاع وقال: “إن شك الجميع فأنا لا أشك”، وهو يجهل ما سيقابل بعد عدة ساعات، رد عليه المسيح، كاشفا أكثر ما سيحدث من بطرس بأنه سينكره، وهنا كانت فرصة جديدة حتى يتوقف بطرس للحظة ليفكر فيما يقول وما سيحدث، فإنه أكمل اندفاعه وقال “لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك”، فحينما تأملت هذا النص منذ عدة سنوات تذكرت الراهب الذي التقيته مصادفة وكيف كانت نصيحته التي استمعت لها طوق نجاة لي فيما بعد.
تعلمت من هذين الموقفين ألا اندفع تجاه أية أمور مستقبلية لا أملك تأكيدًا على حدوثها، فدائما ما يجب أن أترك الباب مفتوحا لأي متغيرات، لأنه لا يمكن ضمان أي شيء في هذه الحياة، وكثيرا حينما يسألني البعض عن تصرفي أو رد فعلي في موقف بعينه، يكون ردي أنه لا يمكن الحديث عن قرارات أو مواقف أو تصرفات في أمور لم نختبرها، حتى لو اختبرناها، فكل مرة سيكون هناك اختلاف في الظروف.
“اللي على الشط عوام”
“اللي ايده في الميه مش زي اللي أيده في النار “
(أمثال شعبية)
وهنا أتذكر الصلاة الوحيدة التي قالها المسيح، فرغم بساطتها إلا أنني في كل مرة أكون مطالب بالإجابة عن أمر لم أمر به أو اختبره، أتذكر عبارة المسيح الخالدة “ولا تدخلنا في تجرِبة“، فكلما تجنبنا المرور بالمواقف الصعبة كان هذا أفضل، ولكن لا أقصد بكلامي هذا الهروب أو الخوف، بل الحكمة تقتضي تجنب الصعاب، ولكن إذا لم يكن هناك مفر، فيجب أن يواجه الإنسان بشجاعة المواقف الصعبة ويحاول حلها والمرور منها بأقل الخسائر، وهنا أعود لبطرس الذي وعد المسيح بألا ينكره لكنه حينما مر بالموقف الحقيقي للأسف هذا المحب المندفع واجه بمنتهى الجُبُن كل من سأله عن معرفته بالمسيح فأنكر، ولكن يحسب لبطرس أيضًا مراجعته لنفسه حيث ندم على فعلته “وبكي بكاءًا مرًا“، وعاد واعتذر، بالرغم من الخطأين السابقين فإنه يحسب له محاولته إصلاح أخطائه.
وهنا أود الإشارة إلى أن التعلم ليس مجانيًا، بل له ثمن يدفع، لأنه لا يوجد تعليم بلا فاتورة، والأهم ألا ندفع ثمنا كبيرًا، لكي نتعلم، وأكبر تَرْجَمَة لعبارة المسيح “ولا تدخلنا في تجرِبة”، هي التعلم من خبرات ومواقف الآخرين، التي قد تقصر علينا مسافات كبيرة نضطر أن نقطعها، ولكن هذا لا يعني ألا نختبر بأنفسنا لأن غيرنا اختبر ومر بنتيجة ما، بل القصد هو التعلم مما مر به الآخرين، والاستفادة منه ونحن نَمِر بتجاربنا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.