في رحلتي الأخيرة لمصر، دخلت بالصدفة لكنيسة العذراء بمحرم بك، وهي الكنيسة التي كان عليها القمص “” الذي قتل على يد احد أقطاب في الصعيد غدرا وغيلة، وهو برفقة أبناءه وبناته من الكنيسة في رحلة ترفيهية على الكورنيش. كان من السهل استنتاج ذلك من وجود الصور له وأنا بمكتبة الكنيسة، وتأكد لي ذلك بعد السؤال، ولكن مما لفت انتباهي اكثر هو وجود بعض الكتب للأب فيها كتاب اشتريته عن السيرة التفصيلية للأب متى المسكين (1919 – 2006م)، وهي ليست مذكراته التي وضعها في كتاب آخر قبل وفاته، ولكن سيرة تفصيلية نشرها تلامذته من الرهبان، وعلى الرفوف الواقعة في مواجهة باب الدخول، موقع مميز جدا بمنطق المبيعات.

ولان القضية ليست “مبيعات” بالتأكيد ولكن على الأقل مُفَاد ذلك هو عدم الحرج من عرض هذه الكتب التي ربما لا يعرف الكثير أن الأب متى المسكين منعت كتبه من العرض في حياة ال في الكنائس القبطية لأكثر من ربع قرن، ورفضت كتاباته أو أي كتابات تصدر عن الذي كان رئيسه وعليه تلاميذه من عرضها في معارض الكتاب القبطية التي نظمتها الكنيسة.

وبعيد عن الخلافات السياسية حول السلطة واتهام كل منهما الصريح أو الضمني بالرغبة في لعب دور زعامي داخل الكنيسة أو خارجها بما لا يتوافق مع تقاليد الكنيسة وروحانيتها، وشعور كل منها بان الآخر يُجيش له ويحشد الاتباع ويتحين الفرص للعب دور اكبر داخل الكنيسة وخارجها ويتحدى إرادته ولا يعترف بسلطته أو بقامته الروحية، فان الأمر انتقل من مجال الرأي السياسي الزعامي إلى اختلاف في كل أمر، وحول أي قضية تخص طريقة إدارة الكنيسة أو الدير الخاص بالأب متى المسكين، ونفوذ البابا أو هيمنة هذا القمص في مجاله الحيوي بهذا الدير وخضوعه له، إلى الأديرة بوجه عام ودورها وحدودها، إلى سياسة المجتمع القبطي والعمل الاجتماعي للكنيسة، وقضية المطالبة بحقوق الأقباط ورفع شكواهم وامتعاضهم من أي معاملة تميزية عن طريق البابا في شبه اعتراض على سياسات الدولة وعدم قبول الاضطهاد بفرح بل بتململ وجعل المطالبة بالحقوق احد مهام الكنيسة بل أولوياتها بما يبعد الكنيسة عن دورها في إعداد ورثة السماء من خلال المعاناة. بل ذهب الخلاف بلينهم إلى اتهام كل منهم للآخر في عقيدته واستقامة تعاليمه الأرثوذكسية.

والحقيقة إننا لا نعرف في التاريخ خلاف سياسي إلا أخذ في النهاية شكل اتهام في العقيدة يخفي أسبابه الموضوعية، وهي في الواقع صراع اجتماعي طبقي أو على سلطة ونفوذ، وموضوعه عروش أو هيمنة على نفوس مستعدة للطاعة، بل قل الهيام والذوبان في شخص هذا أو ذاك لا شخص المسيح كما يسهل القول ولا يليق بالعاقل تصديقه. فالسلوك والتاريخ والحاضر والماضي يكذب كل ذلك ولكن يحب الناس الصورة عن الحقيقة والكذب عن القلق، وهذا جوهر المقال الذي سنختم به، ولكن ليس قبل أن نعرض في اقتضاب موقف بعض أعلام الكنيسة لتتضح الصورة اكثر ويصير السؤال اكثر جدية مما نتخيل.

نقول أن الأخطر من ذلك هذا الصراع الذي كان للأنبا غريغوريوس، المُتوفّى عام 2001م وهو اسقف التعليم والبحث العلمي، دور فيه وموقف لا يخفيه لصالح أصالة التعاليم الأرثوذكسية للأب متى المسكين، في مقابل كل ما يبتدعه البابا من كلام في اللاهوت والعقيدة عن جهل مبين، وخلفه قطيع من الجهلة والمُجهلين لا يعرف غير التصفيق. لقد كتب الأنبا غريغوريوس ذلك صراحة في مذكراته بل ونشر نص الرسالة التي كتبها للبابا شنودة يقول فيها أنه لو جمع ما يتفوه به من أخطاء لاهوتية وهو على منبره يصول ويجول لثقلت المجلدات التي تدون عناوينها، وكذلك تصريحات الأستاذ الدكتور ، المتوفى عام 2021، المعلنة والمسجلة أيضا، والذي كان سبب غضب البابا عليه انه لم يوافقه -وهو في موضع الحظوة لديه- على أن يكتب ضد ما يعلم به الأنبا غريغوريوس أولا، ثم الأب متى المسكين، وهو أستاذ اللاهوت الدارس، بل الأكثر دراسة فيهم أكاديميًا.

وهناك تسجيلات كثيرة وطويلة متوفرة اليوم لمحاضرات ألقاها البابا شنودة على طلبة الكلية الإكليريكية يعرض فيها بدع وهرطقات الأب متى المسكين، دون الإشارة أبدا إلى خلافاتهم القديمة زمن واقتراحه اللجنة الخماسية التي كان الأنبا غريغوريوس احد أعضائها فترة نفي البابا إلى ديره، لإدارة شؤون الكنيسة حتى تحل هذه الأزمة.

وعودة إلى المكتبة..
وفي آخر الرف وفي الزاوية البعيدة، كانت هناك كتابات البابا شنودة -ربما لا يكون ذلك مقصودًا- ولكن الأكيد أن وجود هذه الكتب على قلتها لطرفين ندر وجودهما معا في مكان واحد إلا عند من لا علم له بالأحداث والمواقف ومعاني هذه الكتابات في خارج كل ما هو روحي تأملي إنشائي انتشائي، ت، فيأخذ مثل هؤلاء الكتب على سبيل البركة والتبرك، وكله كلام ربنا وتأملات روحية في بساطة يحسدون عليها فعلا. أما عن الأفكار وما بين الرجلين من اتهام لكل منهما للأخر في العقيدة ذاتها وخلف كل منهم مريدين ومؤيدين وأتباع وتبع، ومناضلين ومجاهدين حراس عقيدة ومنافحين ضد هجمات عدو الخير الذي يريد زعزعة العقيدة مستخدمًا هؤلاء، ولكل فريق هؤلاء هم اتباع الآخر ومن استحسن تعاليمه.

ولكن وربما لحسن الحظ أو سوءه فإن ميزان القوى والخوف من إحداث شرخ في الكنيسة اجبر كل منهم مع الحد الأدنى من البراغماتية إلى “اللغوشة” على الموضوع وتحجيمه وحصره في أضيق الحدود مع اعتراف كل منهم بحدود عمله ومراكز نفوذه لحين جولة أخرى تتغير فيها المواقع ومواضع الهيمنة. ولكن لم يمنع ذلك بالتأكيد من بعض الضربات تحت الحزام لكل منهم للأخر أو من اتباعهم المقربين الذين أحيانا يفوقون أساتذتهم عدوانية وشراسة.

ورغم قلة الكتب بوجه عام في مقابل زيادة مهولة مرعبة في مكتبات الكنائس الآن للصور والإيقونات، بل اجتياح واكتساح الرفوف بتماثيل بأحجام وخامات مختلفة –لم تكن على أيامنا أصلا– بل للبابا شنودة بهذه المناسبة تسجيل صوتي يتحدث فيه عن وسطية الأرثوذكس في مقابل تطرف ي يعتبر التصوير وثنية، في مقابل تطرف كاثوليكي عاد إلى التماثيل بشكل عبادات وثنية، فرغم قلة الكتب كانت الكتب المعروضة أكثر لو استثنينا بعض الكتيبات القليلة للأطفال برسوماتها وألوانها الناطقة عن نفسها وموضوعاتها، فان المكتبة احتلها اسمان، يبدو لكل داخل أنهما عمودان في الكنيسة ولاهوتيان قام عليهما البناء فاستقام، وتركا تراثا مشتركًا يثري المكتبة القبطية، وانضما إلى خالقهما بعد أن زادت سحابة الشهود واتسعت في السماء وعلى الأرض ظلال غنى وفيء منعش في شمس العالم الحارقة، واحة سلام وبأي منهما اقتديتم اهتديتم.

كذلك قد نجد صورة للبابا شنودة على أنه حبر الأمة المنزه عن كل غرض لمصلحة الوطن والإنسان، وبجانبه الشيخ الشعراوي إمام الوسطية الجميل نموذج الإسلام الوسطي في اجمل عهوده، عهد الصحوة الإسلامية المباركة في أوج تألقها. فماذا نقول عن هذه الصور وهذا التواجد بين أضداد صاروا واحدًا في بناء وهمي قائم كله على تصور مخالف تمامًا لما حدث وقيل وفعل على الأرض، وكل عاقل تابع يعرف بطلان كل ذلك وانه تزييف لتاريخ ووعي وإهدار للتجربة الإنسانية بحلوها ومرها لصالح رؤية رومانسية كاذبة كاذبة كاذبة حد الوقاحة بقدر ما يتصور البعض أنها تصالحيه هادئة ملهمة.

وهنا السؤال والدعوة للتفكير، هل نزعج الناس بالحقيقة قبل أن يعاد كتابة ما حدث ولم يعد حاضرا ومات شهوده فيصير تاريخ زيفه حقيقة، وحقيقته درب من التخمين الذي اغلبه شطط حتى يكاد زيف التاريخ بجانبه أكثر إنصافًا من شططه؟

أم نزعج الناس بالحقيقة التي يراها البعض الآن زيف رغم كل ما رأيناه ورأوه هم بأعينهم، والكتابات والتسجيلات قائمة، ولكنهم عشقوا ما كانوا يتمنون لا ما كانت الأمور والأشخاص عليه، وأرعبتهم الحقيقة فكَذَبوا من يذكرهم بان رومانسيتهم بيت عهارة يتصورنه قدس أقداس هم فيه العاهرة والقواد، الكاهن والفاجر؟

كل أكاذيب الماضي إن صدقها شعب صارت عنه وعنده الحقيقة، وفعلت فعل الحقيقة لان زيفها لا شاهد عليه، وما لا شاهد عليهم وان حدث هو والعدم سواء. فهل نصنع أكاذيبنا ما دامت مفيدة أم نستمر في محاولة الاقتراب من الأحداث بأكثر شكل ممكن من الموضوعية قدر قدرة البشر على الاستيعاب والعرض والفهم بموضوعية نسبية كوننا بشر، أم أننا بذلك نضر المجتمع ونسيء للحاضر ونحجب شمس الزيف المريح عنهم؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ارنست وليم

إرنست وليم

[ + مقالات ]