كان الوقت نحو مغيب الشمس.
كنت جالسا في غرفة مظلمة نوعا ما، ثم قام ذلك العظيم من جلوسه ليوقد لنا شمعة تبدد الظلام الذي أخذ يزحف إلينا تدريجيا.
تراه قصيرا في بنيانه الجسماني، يبدو مجهدا على الدوام، ولكن له بريق في عينيه يقدم معنى جديدا للبأس، فيه قوة وجلد لا يليقان بصغر جسمه.
يحيط به ضي الألوهة كما لو كان متسربلا به، بل كما لو كان متحدا بمنبع الضياء نفسه!
ملامحه تنطق بفرعونية أصيلة ضاربة في جذوره، في الحقيقة، هو يبدو كما لو كان أحمس القاهر وقد خرج توا من مياه النيل العظيم.
بل هو أحمس القاهر فعلا، ولكن في ميدان غير الميدان ومعركة تحديد مصير مختلفة.
طرق الباب راهب مصري الملامح أيضا ليسأله: “أترغب في الطعام أنت وضيوفك يا أبانا؟”.
“أبانا”، اللقب الأكثر توددا وحبا لقلب الجالس على كرسي الرسول مرقس، مبشر مصر ومؤسس الكنيسة في الإسكندرية.
وهو، مَن أنا ضيفه، له من روح الثيؤريموس وعنفوان المعمدان وقوة بولس وبراءة إسطفانوس.
أشار مضيفي للراهب بأن “لا”، ثم أعقبها: “لدينا الكثير والكثير لنناقشه، شكرا لمحبتكم في مجمع الدير”.
انصرف الراهب في هدوء، واستدار مضيفي نحوي مبتسما: “حسنا أيها الباحث عن المعرفة، نلتقي مجددا”.
منذ التقيت به أول مرة في لقاء المعلم مع الشيخ نيقوديموس، وأنا أتوق لهذه الجلسة، فقط لم أتوقعها هنا في صحراء صعيد مصر.
كنت أتصور أن نلتقي في الإسكندرية، مدينة الكرسي الرسولي، حيث يليق بالبابا أن يكون، خاصة بعد إعلان الإمبراطور للتسامح الديني وانتهاء زمن اضطهاد الدولة.
كنت كالعادة، مخطئا!!!
لم تمر سنوات معدودات على لقاء قسطنطين به في نيقية، إلّا وقد أصبح غريمه اللدود ويكاد يكون عدو الإمبراطورية الأول!
لم يكن لسانه هو المطلوب، بل رأسه نفسها!!!
هذه المرة، كان الهروب إلى أديرة الصعيد في مصر.
جلست أمامه لا ألوي على شيء، فقط منتظرا أن يبوح لي بأسراره الخفية في ملخص شاف وكاف.
“حسنا، هي قضية خلاصية واحدة: أنا، الإنسان، حب الله الأزلي الأبدي، من أجلي كان، كل ما كان وباتحادي به يتم كل ما سيكون”.
“إن كان أعداء المسيح، الأريوسيين، صادقين؛ فإن الله يكون كاذبا!”.
“إن كان الكلمة ليس من نفس جوهر الله الآب، فلا قيمة لخلقة جديدة ولا داعٍ له أن يلبس جسده الخاص لكي يخلقنا فيه من جديد بعد أن يميت الموت بموته”.
“هو أعطانا الذي له عندما أخذ الذي لنا، أخذ ضعفنا وموتنا ليُخرج منه حياة أبدية للبشرية كلها فيه”.
“به نتأله أي نصير بشر كاملين حسب مقاصد الله لنا في الأساس، لذا فحينما كان الموت عائقا في طريق تألهنا؛ ظُفُر به على الصليب نيابة عنا، لقدرته هو الخالق الوحيد أن يضخ الحياة الأبدية دما جديدا فينا”.
“ولأنه دمه وجسده، لذا فقد أودعهم الكنيسة التي رواها بعمل روحه القدوس، لكي تنجب بهم إخوة له فيه بمسرة الآب”.
“صدقني ليس الموضوع عسيرا إذا ما اختبرته، لكنه كارثي إذا ما أسلمته لسلطان العقل فقط!”.
“العقل الساقط يا صديقي، غير المستنير بعمل الروح لا يُدخلنا إلى عمق غنى محبة الله”.
هذا الرجل متصل بمصدر طاقة لا ينضب!!!
ربما لا يعلم هو بما سيأتي، ولكنني أعلم ما سيكتب في السنوات القليلة المتبقية:
(لاحظ أنه شيخا الآن، إذن فنحن في زمن النفي الثالث حيث يبلغ سنه الآن نحو ستين عاما)
+ رسائله إلى سرابيون، النائب الباباوي، عن الروح القدس، التي ستشكل نواة الدفاع عن لاهوت إقنوم الرب المحيي.
+ المقالات الأربع ضد الأريوسيين، التي تعد الضربة القاضية لهذه البدعة المريرة.
+ دفاعه عن هروبه.
+ عن المجامع.
ولا ننسى أنه قبل النفي، بعدة سنوات كان قد كتب إلى الراهب أمونيوس رسالة عن الجسد والإفرازات والطهارة، رسالة من القرن الرابع تدين ضمائرنا في القرن العشرين وما تلاه.
ثم في سنوات خريف العمر، كانت:
+ الرسالة إلى أبيكتيتوس، والرسالة إلى أدولفيوس اللتان كان تمهيدا للكتابين التاليين.
+ الرد على أبوليناريوس، دفاعا عن تكامل وحقيقية تجسد الابن الوحيد.
هذا الرجل يعيش في كونٍ مركزه الابن المتجسد، ويدور في فلك ثابت حول عظمة الاتحاد به والوجود فيه وبه!
هو متأله بالحق والنعمة، قولا واحدا لا رجعة فيه.
“ريتشارد جيبون”، مؤرخ أوروبي في عصور لاحقة للكبير وغير محسوب على المسيحية مطلقا!
لم يتوان عن الهجوم على الكنيسة ورجالها أيا كانوا، ولكن أمام تنين الآباء المجنح.. كان ينحني احتراما وإجلالا لما قام به.
قطعا لا أتداخل في مجريات الأحداث ولكن كم وددت لو قلت له ذلك، بل وأكثر:
بعد نياحته، سيقول عنه غريغوريوس النزينزي (اللاهوتي) أن: “مَن يمدح أثناسيوس إنما يمدح الفضيلة ذاتها”.
لا أعتقد أنه سمع في حياته بأن كتابه العظيم (تجسد الكلمة) سيصبح على الدوام من أعظم ما كُتب عن تجسد الابن الوحيد ومقاصد الله العظيمة للإنسان.
ستصبح مقولة “وأنا ضد العالم” أشهر شعار للوقوف إلى جانب الحق وعدم الحياد عن الصواب.
هل أخبره بأنه المحسوب ضمن الآباء الكبار معلمي العقيدة الذين تؤخذ منهم التعاليم مباشرةً دون إجماع؟
كنت في حالة من الفرح غير موصوفة؛ أنا أجالس الرسولي واستمع لتعاليمه مباشرةً من فمه المبارك.
والآن تظهر مساحة الغرفة أكثر، كما لو كنت بالتدريج أتعرف على محيطي أكثر فأكثر.
لاحظت ذلك الشيخ المسن يجلس بجانبي، في اهتمام شديد يستمع للمعلم الكبير كأنه يتشرّب منه التعليم والتسليم.
هل كان في حالة من الدهش أو الهذيذ كما علّم عنه لاحقا؟ ربما، لا أعلم، ولكن غير مستغرَب على كلام أثناسيوس أن تتشربه بروح الصلاة.
كان تأثره بوحدانية الجوهر الإلهي بين الآب والابن وصدق الاختبار في حياة الرسولي، الذي لم يكن مدافعا عن إيمان لفظي بل عن حياة اختبارية، يظهر جليا على محياه.
في صوت طفولي نوعا ما سمعته يتمتم بصلاة قصيرة، مناجاة هي بالأحرى:
“آه، يا ربي يسوع
ولادك يا الله، إخوتك يا ربي يسوع، أصبح ممنوع عليهم أن يؤمنوا بالتأله!
التأله اللي هو غاية الحياة المسيحية وهدف كل تدبير الخلاص، كنز روح الله القدوس الذي يُخفى في جسد بشريتنا.
حاليا يا رب أصبح من يتبع كلام معلمنا وكبيرنا، البطل المدافع والرسولي، الناس التي تؤمن بتعاليمه التي كاد أن يدفع حياته ثمنا لها.. أصبحوا مبتدعين وهراطقة!!
آآآآآه، يا مرارة ما عشت!”
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟