ساعة واحدة هي جل ما طلبت في ضيعة جثسيماني من تلاميذك المختارين، ابتعدت نحو رمية حجر من الثلاثي المقرب لقلبك بطرس ويعقوب ويوحنا، وطلبت فقط ساعة واحدة يقضونها معك بروح نشيط أيها البار. في ليلة آ المقدسة، والظلام يُحيط بك، خرج المخلص وهو عالم بكل ما يأتي عليه (يوحنا ١٨) ليُعين هذا العالم البائس، طالبًا بعض السهر من أصدقاء مسيرته الذين دعاهم مرة يا أحبائي ومرة يا أولادي (يوحنا ١٣). لم يسهر أحد مع البار في ليلة الصراع المرير، أخذ التلاميذ سنة النوم، وأنقض الخونة كأسد مزمجر على فريسته، ومن حلفَ بأغلظ الأقسام أن يتبعه وإلى السجن وحتى الموت انكسر حينًا أمام الحشد، والجالس على كرسي الولاية ارتعش من سطوة الرعاع مع أنه عالم بكونه أُسلم حسدًا، حتى عُلق مَن السماء والأرض في قبضته على خشبة في ظُلمة لفّت الأرض من وقت الساعة السادسة حتى الساعة التاسعة. مُزين السماوات بحُسن النجوم، مؤسس الأرض بروح فيه وحيدًا، مُهانًا، مُجدفًا عليه، ومشكوكًا فيه من أقرب ١٠ قضى بينهم سنوات خدمته ما خلا حبيبه صغير السن يُوحنا!

حين انسحب عمالقة الإيمان من المشهد الحالك السواد، كان هناك من لا يرهبن موت أو ألم أو حراس هيكل ولا جنود وثنيين. هل كانوا مُساقات من العاطفة؟ أم فاح طيبُ السيد بين ضلوعهن الهشة؟ أكانوا بكامل قواهن العقلية؟ أم خلعن مخاوفهن أمام جلال الصليب؟ بمراجعة سريعة لأناجيل الساعة الحادية عشر من صلوات الجمعة العظيمة للكنيسة الأورثوذكسية نجد “جوقة النائحات” كالتالي:

وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد، وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه. وبينهن ، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي

(إنجيل متى ٢٧ : ٥٥ و٥٦)

وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.

(إنجيل مرقس ١٥ : ٤٠ و٤١)

وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذلِكَ.

(إنجيل لوقا ٢٣ : ٤٩)

طوباهن، طوباهن من اشتقن إلى بهائك أكثر من كل شيء أيها المسيح إلهنا، طوباهن من استحققن وسام الشجاعة عن جدارة، طوباهن من عرضن أنفسهن للأخطار والأهوال حين انسحب أقوى الشجعان؛ لذا استحققن معرفة موضع دفنك، وصار لهن قبرك سماءً مفتوحة تشهد عن أنوار القيامة، بل صرن مبشرات القيامة في زمن لا تؤخذ فيه بشهادات ناقصات العقل!

السلام للتي بكرت جداً، والظلام باق، تسعى، يقودها الحب، تطلب تكريم من تحبه، فوجدها ووجدته. التلاميذ رأوا القبر قبراً فارغاً؛ وهذه رأته سماء مزينه بالملائكة. هؤلاء لما دخلوا القبر ما طلبوا شيئاً؛ وهذه تشبثت ببكاء تطلب من تحبه، حتى استعلن لها صاحبه في ملء الحياة وقوتها. هؤلاء عادوا صامتين من القبر إلى حيث أتوا؛ وهذه تسمر قلبها ورجلاها في الحجر كالحجر، تتأوّه، والدموع ملء عينيها، فاستحقت أن ترى مجد الله! السلام لمبشرة صهيون، أول من قطف من ثمرة ، وأعطى التلاميذ، فأكلوا، وانفتحت أعينهم، وعاينوا النور، وادثروا بثوب الخلاص. السلام لمن استؤمنت، أول من استؤمنت على رؤية الرب المُقام، وعلى سماع اول كلمة من فيه. السلام لمن تسجل اسمها، أول ما تسجل في سفر الخلود وسجلات ملكوت السموات. بوركتِ يا مجدلية الأناجيل الأربعة، وبوركت دموعك وجرأتك ولجاجتك وأمانتك للجسد. شهوة اشتهبتِ تكريم الحبيب الميت، وتطييب الجسد، فاستحققتِ حبّ الحي ونوال رائحة المسيح الزكية ببشارة الحياة.

(الأب )

آه يا سيد، يا من أسلمت نفسك الحبيبة لأيد أعدائها، يا من أبطل عز الموت بصليبه، يا ذا القدرة المنيعة، يا من مضى إلى الجحيم بالنفس التي أخذها من طبيعة وجعلها واحدة معه، يا من رآه البوابون الأشرار وقوات الظُلمة فهربوا في جزع ولم يطيقوا الثبوت أمام قوة جبروته، تطلع اليوم وانظر؛ فقد استباحوا كلماتك وعمل فدائك العظيم، تعال وانظر فقد ضربوا بـ”لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.” (غلاطية 3: 28) عرض الحائط وها هم الآن بجبروت يُشيدون الحواجز أمام من عشقنك، يُفرضون حفرة عميقة بين النساء والرجال.

لسنا واحدًا فيك يا سيد؛ فهم يروننا “مربوطين بالأدناس” والدنس ليس فينا بل في نظراتهم المستبيحة، أنهم ينكرون علينا محبتنا لك ويُخرسون ما تبقى منا لأنهم الأقوى والأقرب إلى مذبحك! هم يرون فينا الشهوة ورمز السقوط بينما ترفع أنت مريم العذراء أعلى من الطغمات السمائية أذ هي المجمرة الذهب النقي وعنبرها هو مخلصنا. أنهم يُثقلن على ضمائرنا بأعباء لا يمسسنها بأطراف أصابعهم، هم مهووسين بأجسادنا وملابسنا وشعورنا وما فوقنا وما تحتنا حتى غاب ظلك عنا، وتخبطنا في ظلام الجهالة الأولى، محرومات منك، ومن نعمة خلاصك، مُثقّلات بأجساد خلقتها أنت دون رغبة منّا، حتى هذا جعلونا نحتقره ونبغضه. أنهم يمرون بصفوفنا يتأكدون من أغطية الرأس وطول الكم ونبرة الصوت، ويتركون عنهم أثقال المحبة والإيمان والعدل والرحمة.

والآن يا سيد، فإن عزائي وأقنوم رجائي أنك ثابت لا تتغير ولا يشوبك ظل دوران، أنت من كفكف دموع أرملة نايين، والتقى السامرية على بئر يعقوب، وفتح ذراعيه لمريم أخت لعازر، وقبل طيب الناردين كثير الثمن المخلوط بدموع امرأه… أنت يا سيد تبقى وكرسيك إلى الأبد، أحكم لي بعدلك ممن لم يدركوا أسرار الله ولم يفكروا في راحة النفوس التي لا عيب فيها أكثر من تمسكهم بالسلطة والثقافة المحيطة. أما أنا فأنتظر الرب، وأتمسك بالله مخلصي، فيستجيب لي إلهي، ولا يفرح بي أعدائي، وإن جلست في الظلمة فالرب يُضيء لي.

إمضاء ابنة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

سارة قسط
[ + مقالات ]