كل من يطالع تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ بداياتها وصولًا إلى انتخاب البابا تواضروس الثاني عام 2012، يجد تنوعًا في طرق اختيار 118 بطريركًا قبطيًا، وقد اتسمت هذه الطرق في جوانب معينة بالتفرد في تاريخ المسيحية. وتتضمن الدراسات المتاحة حول تقاليد اختيار بطاركة الكنيسة القبطية في الأغلب تعميمات، بدلًا من التركيز على التحليل الإحصائي الدقيق. ولذا تركز هذه الدراسة على علاج هذا القصور من خلال إجراء تحليل تاريخي وكمي لطرق اختيار البطريرك على مدار قرابة ألفي عام من تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وقد تم تحديد طرق الاختيار الثمانية التالية حسب ترتيب تواترها: إجماع الآراء بين رجال الدين والعلمانيين، وانتخاب كهنة الإسكندرية، وتعيين السلف، وانتخاب العلمانيين، وإقامة قرعة هيكلية بين المرشحين النهائيين، وتدخل الحكومة، وتعيين أو رؤية إلهية، وانتخاب الأساقفة.
وعلى الرغم من تنوع طرق الاختيار، ومن التجارب الاجتماعية والسياسية التي شهدها الأقباط، ظل الزخم الديمقراطي يفرض نفسه. وتتناول هذه الدراسة تمحيصًا نقديًا لقانون انتخاب البطريرك المعمول به حاليًا، الصادر في مصر عام 1957، الذي ينظم عملية إقامة القرعة الهيكلية بين أفضل ثلاثة مرشحين.
مقدمة
على امتداد تاريخ الكنائس؛ الأرثوذكسية والكاثوليكية، كانت رسامة بطريرك أو بابا جديد نقطة تحول في الحياة الكنسية. إذ إن المرشح الذي يقع عليه الاختيار لهذا المنصب -وهو أعلى وأرفع درجة كهنوتية في الكنيسة- يمكن أن يشغله لعقود، ويكون له دورٌ فعالٌ ومحوري في التوجيه اللاهوتي والاجتماعي والسياسي للمجتمع المسيحي الذي يشرف عليه. ولذا، فقد خضعت عملية الاختيار دائمًا لقوى سياسية واجتماعية داخلية وخارجية، وشهدت تباينًا ملحوظًا بين الكنائس المختلفة، وتطورت تطوّرًا كبيرًا بمرور الوقت. ويُعدّ تاريخ بطاركة الإسكندرية، الذي يمتدّ لألفي عام، مثالًا بارزًا على ذلك، جديرًا بالاهتمام على المستويين البحثي والمسكوني.
من الأهمية فهم الأبعاد التاريخية واللاهوتية لمنصب بطريرك الأقباط، وتأثيرها على عملية الاختيار. ويرجع الأقباط تعاقب بطاركتهم إلى مرقس الإنجيلي. وقد قام بطريرك الإسكندرية، خاصة في القرون الخمسة الأولى، بدور رئيسي كبير في تشكيل المسيحية من خلال التفسير اللاهوتي وقيادة المجامع المسكونية. يضاف إلى ذلك أن بطريرك الأقباط كان الزعيم الروحي لأكبر طائفة مسيحية في إقليم الشرق الأوسط، التي عانت طويلًا من الاضطهاد الديني والعرقي. وعلى مدار الخمسين عامًا السابقة، ازداد هذا الدور اتساعًا مع تنامي دور الكنيسة القبطية ككيان عالمي من خلال الجاليات المهاجرة حول العالم.
تتطرق هذه الدراسة [1] إلى طرق اختيار البطاركة الأقباط البالغ عددهم 118 بطريركًا. تسعى الدراسة لاكتشاف موضوعات مثل إجماع الآراء والديمقراطية، والخضوع للإرادة المتصورة لله. وقد تكررت الإشارة في كتاب تاريخ البطاركة
-وهو من أوائل المؤلفات المتاحة التي تناولت التاريخ القبطي- إلى إجماع “الشعب” باعتباره أحد طرق اختيار البطريرك. ومن ناحية أخرى، تستعرض الدراسة قانون انتخاب البطاركة المعمول به حاليًا، الصادر عام 1957، وتناقشه بطريقة نقدية في ضوء التقاليد الكتابية والرسولية والآبائية والتاريخية التي قد تدعم فلسفته ومواده.
تتضمن الدراسات المتاحة، في أغلب الأحيان، تعميمات حول تقاليد اختيار بطريرك الأقباط. ويتضاعف هذا القصور بسبب الافتقار حتى الآن إلى عمل يتناول هذا الموضوع بِواسع النطاق، بأسلوب منهجي ونقدي وكمّي. ومن هذا المنطلق، تطرح هذه الدراسة تحليلًا مدعومًا بِتمحيص إحصائي اجتماعي وعلمي لطرق اختيار البطاركة، مجيبةً على عدة تساؤلات، منها: هل كانت هذه الطرق بسيطة أم معقدة؟ ديمقراطية أم ديكتاتورية؟ سرية أم شفافة؟ دينية أم جماعية؟ وإلى أي مدى كانت بمنأى عن المناورات السياسية والقوى الخارجية؟
منهجية البحث
في خضم السعي لتحقيق هذه المهمة، بُحث في طرق اختيار جميع البطاركة (118 بطريركًا)، وحُددت المبادئ والتقاليد ذات الصلة، ومن ثم تم حصر ثماني فئات منفصلة لهذه الطرق. ولا عجب أن نجد العديد من الانتخابات البطريركية التي تمت بأكثر من طريقة، وتُرد هذه الانتخابات تحت الطريقة المُستخدمة بدقة. وفي كل حالة، ينبغي التمييز بين اختيار البطريرك وطقس الرسامة أو التكريس الذي يتم بوضع الأيدي عقب عملية الاختيار.
كان على رأس المصادر التي تم الرجوع إليها “الموسوعة القبطية”، المتاحة الآن كجزء من “موسوعة كليرمونت القبطية” على الإنترنت على الموقع التالي: www.cgu.edu/cce؛ وكتاب الليتورجيا القبطية “السنكسار” (R. Coquin and A. Atiya, CE: 2171-90)؛ وكتاب “تاريخ البطاركة”، وهو من أكثر المراجع التي تم الاستشهاد بها في المؤلفات التاريخية القبطية المتاحة (J.D. Heijer, CE: 1239-42)؛ وكتاب “باباوات مصر”، الذي يتألف من ثلاثة مجلدات، بقلم ستيفن ديفيز (2004)، ومارك سوانسون (2010)، ومجدي جرجس وبيترنيلا فان دورن هاردر (2011).
كان على رأس المصادر التي رُجع إليها الموسوعة القبطية
، المتاحة الآن كجزء من موسوعة كليرمونت القبطية
الإلكترونية [2]، وكتاب الليتورجيا القبطية السنكسار
[3]، وكتاب تاريخ البطاركة
، وهو من أكثر المراجع استشهادًا في المؤلفات التاريخية القبطية [4]، وكتاب باباوات مصر
[5].
تعذر تحديد طرق اختيار 25 من أصل 118 بطريركًا، لعِلة قصور المصادر المتاحة. كما لم يُكتشف، لنفس السبب، أي طرق اختيار جديدة تتجاوز الفئات الثمانية المبينة أدناه. وقد تبين خلال البحث أن سيرة أغلب البطاركة لا تذكر طريقة اختيارهم، أو أنها مبسطة للغاية إن وُردت. لذا، يبقى هذا البحث مفتوحًا للاستكمال. وفيما يلي أهم النتائج المتوصل إليها بشأن الانتخابات الـ93 المعروفة.
طرق اختيار بطريرك الأقباط
1. انتخاب بإجماع الآراء بين رجال الدين والعلمانيين:
من بين 93 بطريركًا، عُرفت طرق اختيار 45 منهم، حيث رُسّموا بعد التوصل إلى إجماع بين رجال الدين والعلمانيين. لم تُسجّل في المصادر سوى عبارة عامة تصف تلك الانتخابات: اختار الأساقفة والكهنة والقادة العلمانيون [الاسم] بالإجماع
، أما تفاصيل العملية فلم تُسجَّل، وكانت، كما هو متوقع، تختلف من بطريرك إلى آخر.
كان البطاركة الثلاثة الأوائل الذين انتُخبوا بهذه الطريقة هم: كلاديانوس (Celadion)، البطريرك التاسع (157-167). يوليانوس (Julian)، البطريرك الحادي عشر (180-189). أثناسيوس الأول (Athanasius I)، البطريرك العشرون (328-373). ويتضح جليًا أن ترسيخ تقليد إجماع الآراء وتطبيقه على أوسع نطاق سمحت به الديناميكية الاجتماعية والسياسية وحركة الانتقال في ذلك الوقت، مما استغرق أجيالًا عديدة.
ومن الديناميات المثيرة للاهتمام في هذا التطور انتقال الكرسي البطريركي (الباباوي) من الإسكندرية إلى القاهرة خلال العصر الفاطمي -تحديدًا خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر- تناوب الكهنة والأراخنة (القادة العلمانيون) في الإسكندرية والقاهرة على اختيار خريستودولوس (Christodoulus) (1047-1077)، وكيرلس الثاني (Cyril II) (1078-1092) على التوالي [6].
وخلال النصف الأول من القرن العشرين تم تنظيم إجماع الآراء من خلال إنشاء مجمع انتخابي يضم فئات معينة من الناخبين، بما في ذلك الأساقفة والكهنة والقادة العلمانيين؛ وفاز كلٌّ من الباباوات المختارين -يوأنس التاسع عشر (John XIX)، البطريرك 113 (1928-1942)، ومكاريوس الثالث (Macarius III)، البطريرك 114 (1944-1945)، ويوساب الثاني (Yusab II)، البطريرك 115 (1946-1956) – بفارق كبير.
- إجمالي عدد البطاركة لهذه الطريقة: 45 بطريركًا.
- ترتيب البطاركة: 9، 11، 20، 22-24، 28، 36، 37، 42، 43، 45، 47، 51، 53، 54، 55، 61، 62، 63، 66-69، 72، 73، 76، 80، 81، 83، 87، 95، 100-102، 106-115.
2. انتخاب من جانب كهنة الإسكندرية
حتى عهد ديمتريوس الأول (Demetrius I)، البطريرك الثاني عشر (189-231)، كان أسقف الإسكندرية هو الأسقف الوحيد في مصر كلها، وترأس مجلسًا ضم اثني عشر كاهنًا، وعند وفاته، انتخب الاثنا عشر خليفةً له من بينهم، ثم وضع الأحد عشر الآخرون أيديهم عليه (M. Shoucri, “Patriarchal Election” CE: 1911-2). ويتوافق هذا مع أدب الكنيسة القديم الذي يصف الدور البارز، بل والحاسم، لكهنة الإسكندرية، في انتخابات معظم أساقفة الإسكندرية، حتى انتخاب البابا ألكسندروس الأول (Alexander I)، البطريرك التاسع عشر (312-326) [7]، [8].
وعلى مدى عدة قرون بعد ذلك، وحتى في حضور أساقفة مصريين “وضعوا أيديهم” ورسموا بابا الإسكندرية، تشير المؤلفات إلى أن كهنة الإسكندرية أدّوا دورًا رئيسيًا في انتخابه، بيد أن هذا الدور تراجع تدريجيًا عقب انتقال مقرّ البطريركية إلى القاهرة في القرن الحادي عشر. ومع ذلك، لم ترد سوى اثنتي عشرة حالة مؤكدة لانتخاب الكهنة في كتاب تاريخ البطاركة
أو الموسوعة القبطية
، وقد يفوق العدد الفعلي للحالات المؤكدة ذلك بكثير، خاصةً أن هذه الدراسة لم تتمكن من كشف طرق اختيار خمسة وعشرين بطريركًا، وربما يكون بعضهم قد انتخبهم الكهنة في الأساس.
- إجمالي عدد كهنة الإسكندرية: 12 كاهنًا.
- ترتيب البطاركة: 5-8، 10، 13-16، 18، 25، 34.
3. التعيين أو التزكية من قِبَل السلف:
هناك تسع حالات صار فيها أحد المرشحين بطريركًا بناءً على تعيين سلفه أو توصيته أو دعمه الضمني. وكانت أولى هذه الحالات حالة أنيانوس (Anianus)، البطريرك الثاني (68-85). احتاج القديس مرقس (St. Mark) إلى سيامة قائد مخلص جدير بالثقة لرعاية كنيسة الإسكندرية التي كانت قد تأسست حديثًا، بينما كان يقوم بالتبشير في مناطق أخرى. وكانت هذه هي الممارسة الرسولية [9].
الحالة الثانية كانت حالة بطرس الأول (Peter I) (300-311) الذي اختاره سلفه ثيوناس (Theonas) (282-300) [10]. كان بطرس ابن أحد كهنة الإسكندرية، ووالداه تحت الرعاية الشخصية والرعوية للأسقف ثيوناس (Theonas) [11]، وتشير تقاليد الكنيسة إلى أن بطرس كان على صلة وثيقة على المستوى الشخصي بثيوناس، الذي كان كثيرًا ما يُشار إليه باسم والد بطرس
والأب الذي ربّاه
[12]. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن بطرس الثاني (Peter II)، البطريرك الحادي والعشرون (373-380)، عيّنه سلفه الموقر أثناسيوس الأول (Athanasius I) [13].
وهناك ست حالات أخرى كانت لتوصية البطريرك السابق أو دعمه الضمني أثر بالغ على انتخابهم. وكانت أمنية البطريرك الأخيرة وهو على فراش الموت تساعد على تقديم مرشح، ويُنظر إليه بعد ذلك على أنه من بين المرشحين الآخرين. وكان عدد كبير من المرشحين أيضًا من تلاميذ البطريرك السابق، وبفضل العلاقة الوثيقة التي تربط بينهم اكتسبوا مكانةً بارزةً وخبرةً واسعةً في الشؤون البابوية، وهو ما كان يؤخذ في الاعتبار في كثير من الأحيان على أنه تزكية ضمنية لترشيحهم، وقد منحتهم هذه الظروف أفضليةً على غيرهم من المرشحين، وساعدت على تعزيز إجماع عام في الآراء. على سبيل المثال، خدم بنيامين الأول (Benjamin I)، البطريرك الثامن والثلاثون (622-661)، أندرونيكوس (Andronicus) (616-622)، مما مهد الطريق لانتخابه بطريركًا [14].
ومع ذلك لم يُطبق مبدأ تزكية أحد السلف أو تعيينه لمرشحٍ منذ اختيار غبريال الخامس (Gabriel V)، البطريرك الثامن والثمانين (1409-1427)، أي منذ ما يتجاوز ستة قرون [15]، وهو ما يتماشى مع روح الديمقراطية التي تمت بعد ذلك في الكنيسة القبطية.
- إجمالي عدد التعيين أو الموافقة من قبل السلف: وعددهم 9 بطاركة.
- ترتيب البطاركة: 2، 17، 21، 38-40، 49، 50، 88.
4. الانتخاب من جانب العلمانيين وحدهم:
عندما طلب التلاميذ من الكنيسة اختيار سبعة شمامسة فَاختَارُوا أيُّهَا الإخْوَةُ مِنْ بَينِكُمْ سَبْعَةَ رِجَالٍ لَهُمْ سُمْعَةٌ حَسَنَةٌ وَمُمتَلِئِينَ مِنَ الرُّوحِ وَالحِكْمَةِ فَنوكِلَ إلَيْهِمْ هَذِهِ الخِدْمَةَ
[16]، وضعوا مبدأً للانتخابات القبطية لجميع رتب رجال الدين عبر التاريخ، وأقدم مثال على ذلك هو أبيليوس (Abilius)، البطريرك الثالث (85-98)، الذي، وفقًا للتقليد، رُسمه الرسول لوقا بعد نحو خمسين عامًا فقط من بدء التقليد الذي ينص على اختيار الشعب ورسامة الكنيسة [17]، [18].
هناك سبع وقائع أخرى وردت في المؤلفات انتخب فيها العلمانيون البطريرك الجديد، على ما يبدو دون مشاركة رجال الدين. وليس من المستغرب أنهم كانوا يختارون في بعض الأحيان علمانيًا أو شماسًا، وليس راهبًا أو كاهنًا، ومن الأمثلة على ذلك يوأنس السادس (John VI)، البطريرك الرابع والسبعون (1189-1216)، الذي كان علمانيًا [19].
وفي بعض الحالات، تشير المؤلفات تحديدًا إلى أن أراخنة الكنيسة، وليس “الشعب”، هم الذين انتخبوا البطريرك.
وفي الحقيقة وقعت الفترة الأكثر أهمية التي طبقت فيها هذه الطريقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما كان الأراخنة الأقباط هم القادة الفعليون للمجتمع القبطي، فكانوا بالتالي في مواقع تمكنهم من التأثير بشكل حاسم على عملية اختيار البطريرك [20]، [21].
وهناك مثال بارز آخر هو حالة البطريرك بطرس السادس (Peter VI)، البطريرك رقم 104 (1718-1726)، الذي اختاره بعناية
الأرخن لطف الله أبو يوسف
نظرًا لإعجابه بتقشف بطرس وزهده كراهب في دير القديس بولس [22]، [23].
- إجمالي عدد العلمانيين وحدهم: 8 بطاركة.
- ترتيب البطاركة: 3، 19، 44، 70، 74، 77، 103، 104.
5. إقامة القرعة الهيكلية بين المرشحين النهائيين:
حظيت إقامة القرعة الهيكلية كطريقة لاختيار رجال الدين بدعم من الكتاب المقدس، وكتابات آباء الكنيسة، والدراسات المعاصرة. على سبيل المثال، جادل رئيس الأساقفة باسيليوس (Basilios) بأن جيروم فهم وأدرك أن كلمة رجال الدين
مشتقة لغويًا من الكلمة اليونانية Cleros
، التي تعني القرعة أو الميراث [24]. وفي الآونة الأخيرة، أيّد دينيس ماكدونالد (Dennis MacDonald) الرأي الذي ينطوي على أن تقليد إقامة القرعة الهيكلية، كما وصفه الرسول لوقا لأول مرة في سفر أعمال الرسل، إصحاح 1، كان في الواقع موروثًا عن التقاليد اليهودية واليونانية، حيث كان يستخدم غالبًا لأغراض توزيع الممتلكات توزيعًا عادلًا، واختيار الكهنة والقضاة [25]. ومما لا شك فيه أن إقامة القرعة الهيكلية سمةً من سمات الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد [26].
كما ورد في سفر أعمال الرسل، خاطب بطرس تلاميذ السيد المسيح، الذين كانوا حوالي 120 أخًا وأختًا
[27]، ودعا إلى إجراء عملية انتخابية لتحديد من سيخلف يهوذا (Judas): “متياس” أم “يوسف”؟ في منصب الرسول الثاني عشر. وتُوِّجت العملية بإقامة القرعة الهيكلية [28].
وبذلك أرست القيادة المسيحية الأولى سابقةً لبعض الانتخابات البطريركية القبطية. ولقد تمت سبع وقائع على الأقل أُقيمت فيها القرعة الهيكلية بين المرشحين النهائيين. وكان أول تطبيق لهذه الطريقة عند انتخاب البطريرك الرابع، كردونوس (Cerdo) (98-109)، الذي رُسِم بعد نحو 65 عامًا فقط من اختيار التلاميذ لمتياس (Matthias) بإقامة القرعة الهيكلية، وقد ورد وصف اختيار كردونوس بإقامة القرعة الهيكلية في كتاب “تاريخ البطاركة”، وهي مفهومة بوضوح كعملية تُوجِّهها إرادة الله، كما نُفِّذت من خلال القساوسة والأساقفة [29]، [30].
ومع أنه يوجد احتمال كبير أن تكون طريقة إقامة القرعة الهيكلية قد طبقت في بعض الحالات الخمس والعشرين المجهولة، فإن المثال الثاني لم يظهر في المؤلفات المتاحة لهذه الدراسة إلا بعد ستة قرون في حالة يوأنس الرابع (John IV)، البطريرك الثامن والأربعين (775-799)، الذى طبقت طريقة إقامة القرعة الهيكلية في انتخابه نتيجةً لحالة السخط الشديد التي سادت عندما رفض مؤيدو المرشحين البطريركيين الثلاثة التزحزح عن مواقفهم [31]. أما بالنسبة للبابا ميخائيل الخامس، البطريرك الحادي والسبعين (1145-1146)، فقد أُقيمت القرعة الهيكلية في ظل عدم وجود خيار واضح [32].
ويشير “مارك سوانسون” إلى أن أحد أوضح البيانات الموثقة بشأن إقامة القرعة الهيكلية لاختيار البطريرك كتقليد راسخ جاء في عامي 1216-1217، عند اقتراح هذه الطريقة (ولكن لم يتم تطبيقها) للاختيار من بين المتنافسين بعد وفاة يوأنس السادس (John VI) (2010: 86-88). وكان أحد المرشحين هو “داود الفيومي”، الذي أصبح فيما بعد كيرلس الثالث (Cyril III) (1235-1243)، ويرد أدناه كمثال على تدخل الحكومة في اختيار البطريرك. وقد أدرج هذا التقليد رسميًا في قانون انتخاب البطريرك لعام 1957، الذي انتُخب بموجبه البابا كيرلس السادس (Pope Cyril VI) (1959-1971)، والبابا شنودة الثالث (Pope Shenouda III) (1971- 2012)، والبابا تواضروس الثاني (Pope Tawadros II) (2012 حتى الآن)، وفي كل حالة من هذه الحالات، أُقيمت القرعة الهيكلية بين ثلاثة مرشحين نهائيين بعد وضع أسمائهم على المذبح في قداس.
- إجمالي عدد إقامة القرعة الهيكلية: وعددهم 7 بطاركة.
- ترتيب البطاركة: 4، 48، 71، 105، 116، 117، 118.
6. تدخل الحكومة:
منذ تنصير الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، وحتى ما بعد الفتح العربي لمصر عام 639 ميلاديًا، كان تأكيد حاكم مصر لاختيار البطريرك إجراء شكليًا [33]. ورغم من أن الحكومة لم تكن عادةً تتدخل في شؤون الكنيسة الداخلية، إلا أنها بسطت نفوذها في بعض الأحيان على مسألة اختيار البطريرك بدرجات متفاوتة.
هناك ستة اختيارات لبطاركة كان للحكومة أو للحاكم فيها تأثير واضح، إن لم يكن فرضًا فعليًا مباشرًا، على نتيجة الانتخاب. على سبيل المثال، نُصِّبَ ديسقوروس الثاني (Dioscorus II)، البطريرك الحادي والثلاثون (515-517)، في بادئ الأمر تحت رعاية السلطات الحكومية، لكنه حصل لاحقًا على تنصيب كنسي أكثر ملاءمة [34].
وكان من أكثر الاختيارات المؤسفة المعروفة ما حدث بالنسبة إلى كيرلس الثالث ابن لقلق (Cyril III Ibn Laqlaq)، البطريرك الخامس والسبعين (1235-1243)، فقد طعن معظم الأساقفة ورجال الدين والأراخنة في ترشيحه، لكنه لجأ إلى المناورات السياسية، وتقديم الهدايا في بلاط الملك الكامل، وإلى تعزيز علاقته مع ابن الميقات، كبير كتبة السلطان الأقباط. وكان للحاكم أيضًا مصلحة في استمرار هذه الحالة من الجمود. وبعد انقضاء 19 عامًا مؤلمة، انتصر ابن لقلق والحاكم في النهاية عندما لم يكن باقيًا على قيد الحياة إلا اثنين فقط من الأساقفة لإجراء الرسامة، بَيْدَ أنه قد أرغم على رد الجميل للحاكم بدفع أموال من الذهب، ونتيجة لاحتياجه لجأ إلى السيمونية والضرائب على رعيته [35].
ومن الأمثلة المؤسفة الأخرى على التدخل الحكومي حالة يوأنس السابع (John VII)، البطريرك السابع والسبعين (1262-1268 و1271-1293)، وغبريال الثالث (Gabriel III)، البطريرك الثامن والسبعين (1268-1271). فلقد اختير غبريال بإقامة القرعة عام 1261، لكن الوزير ألغى النتيجة عقب تلقيه رشوة قدرها خمسة آلاف دينار؛ ولما تعذر على يوأنس دفع غرامة قدرها خمسين ألف دينار فرضها السلطان المملوكي على الأقباط، قام بعزل يوأنس وأعاد غبريال للرسامة عام 1268. لكن غبريال عجز بدوره عن دفع الغرامة الباهظة، فعزله السلطان وأعاد يوأنس مرة أخرى ليشغل منصب البطريرك حتى عام 1293 [36].
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا كان تأثير الحكام على اختيار معظم البطاركة ضئيلًا أو معدومًا، فقد كان يحلو لبعض الحكام لاحقًا عزل البطريرك ووضع شروط قاسية لإعادته لمنصبه. ومن الأمثلة على ذلك توتر العلاقات الذي حدث لفترات معينة بين البابا شنودة الثالث وكل من الرئيسين أنور السادات (1970-1981) وحسني مبارك (1981-2011)، فعلى الرغم من أن الكنيسة اعتبرت أن تعيين الرئيس السادات للبابا شنودة بطريركًا عام 1971 إجراء شكليًا، أصدر الرئيس السادات مرسومًا في 5 سبتمبر 1981 بوضع البطريرك قيد الإقامة الجبرية في أحد الأديرة، وتعيين مجلس بطريركي يضم خمسة أساقفة للإشراف على الكنيسة، وفي 6 أكتوبر 1981 اغتيل الرئيس السادات وخلفه الرئيس مبارك، واستغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات للتفاوض على شروط عودة البابا شنودة إلى مقعده البابوي، التي تضمنت قبوله تعيينًا جديدًا من قبل مبارك بدلًا من إلغاء المرسوم الصادر عن الرئيس السادات. وبالإضافة إلى ذلك وافق البطريرك على عدة شروط مقابل إطلاق سراحه، منها قيامه بزيارات منتظمة إلى الدير، ومغادرة القاهرة يوم الجمعة (اليوم المقدس عند المسلمين)، والموافقة على عدم الاحتجاج ضد الحكومة، وهذا الشرط الأخير جعل الأقباط بلا مدافع كنسي عن حقوق الإنسان القبطي [37].
- إجمالي عدد تدخل الحكومة: بعدد 6 بطاركة.
- ترتيب البطاركة: 27، 31، 33، 41، 75، 78.
7. التعيين الإلهي أو الرؤية الإلهية أو العلامة الإلهية:
على مر التاريخ كان مؤيدو هذه الطريقة يستشهدون برواية لوقا التي تفيد بأنه ما دام الرسل والإخوة يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: خَصِّصُوا لِي بَرنَابَا وَشَاوُلَ لِكَي يَقُومَا بِالعَمَلِ الَّذِي سَبَقَ أنْ دَعَوتُهُمَا إلَيْه
[38]، [39]. واستنادًا إلى ذلك يقضي التقليد القبطي بأن القديس مرقس الرسول كان بقيادة الروح القدس لتأسيس كنيسة الإسكندرية وكان أول بطريرك لها.
ومن أشهر الأمثلة على رؤية إلهية تؤدي إلى اختيار بطريرك، اختيار البطريرك ديمتريوس الأول (Demetrius I)، البطريرك الثاني عشر (189-231). وتقول القصة إن الأسقف يوليانوس (180-189) رأى في منامه رؤيا أعلمه فيها ملاك بأن خليفته سيأتيه بعنقود عنب في صباح اليوم التالي، وهو أمر بعيد الاحتمال تمامًا لأنه كان خارج موسمه، وحدث في اليوم التالي أن وجد ديمتريوس، وهو مزارع، عنقود عنب في غير أوانه فحمله إلى يوليانوس على فراش موته، وتم ترسيمه في الحال [40].
وهنالك مثال آخر هو ترشيح خائيل الأول (Kha'il I)، البطريرك السادس والأربعين (744-767)، بعد حلم رآه أحد الشمامسة، وأخذ الأساقفة ورجال الدين والأراخنة في الإسكندرية ترشيحه بعين الاعتبار لأن مداولاتهم السابقة بشأن أسماء أخرى لم تحقق الإجماع [41]. أما في حالة بنيامين الثاني (Benjamin II)، البطريرك الثاني والثمانين (1327-1339)، فقد أيدت نبوءة للقديس برسوم العريان (توفي عام 1317) ترشيحه، ومن ثم لم يلق ترشيحه أي معارضة من قبل رجال الدين أو العلمانيين [42].
وأخيرًا، أدى تفسير حدث ما على أنه علامة إلهية إلى اختيار البطريرك الرابع والستين. إذ تلقى مجلس الانتخاب في الإسكندرية، الذي لم يبتّ في الأمر بعد، نبأ يفيد بأن أحد التجار الأثرياء قد تبرّع بالمال للحاكم بأمر الله (996-1021) لضمان صدور مرسوم بتعيينه بطريركًا. وحدث أن ذهب كاهن متواضع، يعمل خادمًا لمجلس الانتخاب، لاستعادة جرة خل من أعلى الكنيسة حيث عُقد الاجتماع، وفي أثناء نزوله على السلم انزلق وسقط، لكن الجرة لم تنكسر ولم ينسكب الخل. الأمر الذي رآه الأساقفة معجزة وعلامة لهم لانتخابه، فسارعوا إلى تكريسه قبل وصول التاجر من القاهرة بمرسوم الخلافة. وأصبح رجل الدين البابا زكريا الشهير (Pope Zacharias) (1004-1032). وردًا على ذلك، وعلى سبيل الانتقام، أصدر الحاكم بأمر الله مرسومًا بهدم الكنائس في جميع أنحاء البلاد، وأمر بسجن زكريا لمدة ثلاثة أشهر، بل وأمر مرتين بإلقائه للأسود، إلا أن “البطريرك القديس” نجا بمعجزة في كل مرة [43].
- إجمالي عدد التعيين الإلهي، أو الرؤية الإلهية، أو العلامة الإلهية: وعددهم 5 بطاركة.
- ترتيب البطاركة: 1، 12، 46، 64، 82.
8. الانتخاب من جانب الأساقفة وحدهم:
الحالة الوحيدة في المؤلفات المتاحة التي انتخب فيها الأساقفة البطريرك دون أي إشارة إلى مشاركة الكهنة أو العلمانيين هي حالة يوساب الأول (Yusab I)، البطريرك الثاني والخمسين (830-849). ورغم أن تطبيق هذه الطريقة يبدو حالة فريدة في الكنيسة القبطية، إلا أنها صارت الطريقة السائدة في تقاليد مسيحية أخرى، مثل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، حيث يعقد الكرادلة الناخبون مجمعًا بابويًا لانتخاب البابا التالي.
- إجمالي عدد الأساقفة وحدهم: عدد 1 بطريرك.
- ترتيب البطاركة: 52.
- إجمالي عدد غير معلوم للباحثين: وعددهم 25.
- ترتيب البطاركة: 26، 29، 30، 32، 35، 56-60، 65، 79، 84-86، 89-94، 96-99.
مناقشة قانون انتخاب البطريرك لسنة ١٩٥٧:
عقب ثورة يوليو 1952 أعلن بعض القادة الإصلاحيين في حركة مدارس الأحد صراحةً عداءهم لعدد من الأساقفة المحافظين، وربما كان ذلك تأثراً بالثورة المصرية التي أطاح فيها ضباط الجيش الشباب بالنظام الملكي، إلا أن هذا العداء الصريح حدا بمجمع الأساقفة إلى استبعاد إمكانية تقلد أحد مرشحي الحركة منصب البابا عقب وفاة البابا يوساب الثاني في نوفمبر 1956. وقد كان مرشحو مدارس الأحد الثلاثة الذين ظهروا آنذاك من مواليد الأعوام 1919 1920 و1923، ولم تتجاوز خبرة كل منهم في الرهبانية تسع سنوات، مما حفز مجمع الأساقفة إلى تغيير قانون الانتخابات ليقتصر الترشيح على من تتجاوز أعمارهم الأربعين عامًا، وأمضوا مدة لا تقل عن 15 عامًا في الرهبانية [44].
وقد ظهر دافع آخر عندما اتضح أن مختلف الأطراف داخل المجتمع القبطي لن تقبل بعملية الانتخابات بنظام الأغلبية البسيطة المنصوص عليها في القانون المعمول به حاليًا، ما لم يضمن فوز مرشحهم. وقد سعى مجمع الأساقفة والمجلس الملي العام إلى تهدئة الوضع، وتعزيز الوحدة داخل الكنيسة، من خلال إعادة إدخال نظام القرعة كخطوة أخيرة في عملية الاختيار، وأصدر الرئيس جمال عبد الناصر القانون الجديد في 3 نوفمبر 1957 [45].
وبموجب هذا القانون يتم ترشيح المرشحين وانتخابهم بطريقة تتسم بالديمقراطية في جميع خطوات العملية [46]. إذ يتم ترشيح المرشح من خلال تزكية من ستة أعضاء على الأقل من مجمع الأساقفة، أو من اثني عشر عضوًا من أعضاء المجلس الملي العام الحاليين أو السابقين (معظمهم من الأعضاء العلمانيين)، ولا يجوز لأي مرشح تقديم أكثر من تزكيتين [المادة 4].
بعد ذلك تقوم لجنة الترشيح، التي تتألف من قائمقام البطريرك رئيسًا، وتسعة أساقفة وتسعة أعضاء من المجلس الملي العام، بإعداد قائمة نصف نهائية بالمرشحين اللائقين، على ألا يقل عددهم عن خمسة ولا يتجاوز سبعة، وتتضمن مهام هذه اللجنة أيضًا فحص مؤهلات المرشحين المتقدمين والاعتراضات المقدمة ضدهم [المادة 6].
ويتولى مجمع انتخابي -كان يضم 2410 قبطيًا عند إجراء انتخابات عام 2012- تصنيف المتأهلين إلى نصف النهائيات، ويُختار الناخبون الذين يضمون الكهنة والأراخنة بجميع الأبرشيات (مع عدد أكبر من الإسكندرية والقاهرة)، وأعضاء المجلس الملي العام، ووزراء الأقباط السابقين والحاليين، وأعضاء حاليين في البرلمان، ومجموعة من ممثلي الكنيسة الإثيوبية [المادة 9]. وأخيرًا بعد إقامة احتفال خاص بالقداس الإلهي تُقام القرعة الهيكلية بين أفضل ثلاثة مرشحين نهائيين [المادة 18].
لقي قانون عام 1957 عند صدوره معارضة شديدة، لا سيما من قِبَل حركة مدارس الأحد التي كان يقودها العلمانيون، التي استُبعد مرشحوها، حتى أن بعض المعارضين طالبوا بإجراء تصويت شعبي يشارك فيه جميع الأقباط بدلًا من نظام المجمع الانتخابي، وقد بلغت المعارضة ذروتها في عامي 1957 – 1958، لدرجة أن تطبيق القانون لأول مرة استغرق قرابة 18 شهرًا، بينما ظل المقعد البطريركي شاغرًا، وعاودت المعارضة الظهور مرة أخرى خلال انتخابات عامي 1971 و2012 [47].
وظهرت معارضة أخرى من النخبة المثقفة من اللاهوتيين، الذين عارضوا إقامة القرعة الهيكلية، واستندوا في تبريرهم إلى أن الرسل لم يلجأوا إلى إقامة القرعة الهيكلية إلا لأنهم لم ينالوا الروح القدس حينها [48]، بينما حَلَّ الروح القدس على الناخبين الحاليين.
على أنه رغم المقاومة والاعتراضات المذكورة أعلاه، لا يزال غالبية الأقباط يؤيدون إقامة القرعة الهيكلية كوسيلة لتدخل العناية الإلهية [49]، ويطلبونها تعويلًا على مراجع كتابية [50]، بالإضافة إلى اقتناعهم بأن الروح القدس له دور في الأحداث، كما كان الحال فى العهد القديم ومع الآباء الرسل قبل يوم الخمسين [51].
وتجدر الإشارة إلى أن نجاح وهيبة البابا كيرلس السادس، الذي انتخب بإقامة القرعة الهيكلية بينما كان ثالث المرشحين في الانتخابات، وكذلك البابا شنودة الثالث والبابا تواضروس الثاني، وقد كان كلاهما في المرتبة الثانية في الانتخابات، قد أضفيا المزيد من الشرعية على هذه الطريقة، وعززا شهادات فاعليتها في أذهان الأقباط [52].
يضاف إلى ذلك أن انخرط الأقباط كان عميقًا في الانتخابات البطريركية لعام 2012، حيث يعتقدون أن لهم تأثيرًا في مسارها ونتائجها، حين استجابت غالبية الأقباط لدعوة الكنيسة لثلاث فترات صوم وصلاة، مدة كل منها ثلاثة أيام. وقد كان للنقد العام للمرشحين دور واضح في العديد من القرارات التي اتخذتها لجنة الترشيح، مثل استبعاد أساقفة الأبرشيات من القائمة نصف النهائية.
الخاتمة
توضح هذه الدراسة، التي تناولت طرق اختيار البطاركة الأقباط، سمات وتنوع التقليد الديمقراطي السائد الذي مارسته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ بداياتها. وقد اختلفت الطرق المُستخدمة لاختيار البطريرك باختلاف الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية. ومن الجدير بالملاحظة أن مبدأ الإجماع، على مستوى معين، هو القاسم المشترك بين غالبية اختيارات البطاركة الثلاثة والتسعين المعروفة لدى الباحثين. وقد تطور هذا التقليد القبطي العريق من مصادر كتابية ورسولية، وكذلك من المفاهيم الكنسية الخاصة بالأرثوذكسية والأرثوبراكسية.
وتعويلًا على ما تم التوصل إليه من نتائج، التي تُشكّل إطارًا قابلًا للتحسين والتنقيح مع اكتشاف المزيد من المصادر [53]، فإنّ طريقة الاختيار الأكثر شيوعًا كانت إجماع الآراء بين رجال الدين والعلمانيين، وقد طُبّقت في انتخاب خمسة وأربعين بطريركًا. كما استُخدِمت سبع طرق أخرى بين الحين والآخر، فاستُخدِمت كلّ طريقة من مرّة إلى اثنتي عشرة مرّة. ومن الواضح أنّ هذه الطرق، نادرة الاستخدام باستثناء طريقة إقامة القرعة الهيكلية التي لا تزال مستمرّة حتى وقتنا الحاضر، لا تُمثّل تقاليدًا ثابتةً أو سائدةً؛ وفي أفضل الأحوال كانت استجاباتٍ عمليةً للظروف السائدة، وفي أسوأها لم تكن سوى ممارساتٍ غير تقليديةٍ لم تصمد أمام اختبارات الأرثوذكسية والديمقراطية وتاريخ الكنيسة. والجدير بالذكر أنّ أكثر الطرق بُعدًا عن الديمقراطية -وهي التعيين من قبل السلف، وتدخّل الحكومة، وعمل الأساقفة بمفردهم- لم تُمارَس منذ عدة قرون.
للأسباب الواردة أعلاه، يمثل قانون عام 1957 عملية ترشيح وانتخاب متطورة وشفافة من قِبل رجال الدين والعلمانيين. ولإضفاء مزيد من الصبغة الديمقراطية على هذا القانون، عيّن البابا تواضروس الثاني لجنة لدراسة القانون والتوصية بتعديلاته بعد توليه منصبه بفترة وجيزة عام 2012. وفي 20 فبراير 2014، وافق مجمع الأساقفة على المسودة الجديدة التي أعدتها اللجنة. وقد تمحورت التغييرات المقترحة حول معايير تأهيل المرشحين، ولجنتي الترشيح والانتخاب، والناخبين، وإشراك الراهبات، وجميع الكهنة المكرسين، والمجالس الملية من جميع الأبرشيات في المجمع الانتخابي. وقد كان هذا الإشراك يتم سابقًا بحسن نية من لجنة الانتخابات أو أساقفة الأبرشيات، الذين كانوا يختارون بأنفسهم الممثلين الانتخابيين بالاختيار الشخصي المباشر.
تعكس مبادرة البابا تواضروس لمناقشة نقاط القوة والضعف في قانون عام 1957، في حد ذاتها، النبض الديمقراطي في عملية انتخاب البطريرك القبطي، التي تعود إلى ألفي عام. ورغم نواقص القانون الحالي والتعديلات المقترحة عليه، لا يزال لهما دور محوري في الحفاظ على ديمقراطية الكنيسة وممارساتها. ومن المرجح أن تواصل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية -التي وصفت عن حق بأنها أقدم مؤسسة ديمقراطية في مصر- تعديل نفسها نحو إشراك أعضائها بشكل أكثر شمولًا في اختيار وريثها للكرسي المرقسي.
مراجع:
مجلة الدراسات القبطية
، المجلد 16 (2014) 139-153 – doi: 10.2143/JCS.16.0.3066725.- فيبي أرمانيوس،
المسيحية القبطية في مصر العثمانية
، نيويورك 2011. - عزيز سوريال عطية،
الموسوعة القبطية
، نيويورك 1991، متاحة الآن على رابطموسوعة كليرمونت القبطية
(www.cgu.edu/cce). - Davis, Stephen J.،
البابوية القبطية المبكرة: الكنيسة المصرية وقيادتها في أواخر العصر القديم
، القاهرة 2004. - Den Heijer, Johannes
وادي النطرون وتاريخ بطاركة الأسكندرية
. - ماجد ميخائيل ومارك موسى (محرران)،
المسيحية والرهبنة في وادي النطرون
، القاهرة 2009، ص. 24-42. - Haas, Christopher
الإسكندرية في العصر القديم: الطوبوغرافية والصراع الاجتماعي
، بالتيمور 1997. - Guirguis, Magdi and van Doorn-Harder, Nelly
نشوء البابوية القبطية الحديثة: الكنيسة المصرية وقيادتها منذ العصر العثماني حتي الآن
، القاهرة 2011. - Guirguis, Magdi
أثر الأراخنة على أوضاع القبط في القرن الثامن عشر
، AnIsl 2000، ص 34, 23-44. تاريخ بطاركة الكنيسة القبطية بالأسكندرية
: ترجمة وتحرير إيفيت باسل توماس ألفريد PatrOr 1.2, 1.4, 5.1, 10.5، باريس 1904، ص. 15.تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية (تاريخ الكنيسة المقدسة)
: ترجمة وتحرير أوزوالد هوج إيوارت بورميستر وآخرون، 3 مجلدات، Textes et Documents de la SAC 2.1-3, 3.1-3, 4.1-2، القاهرة 1943، ص. 74.- Meinardus, Otto F. A.
مصر المسيحية: الإيمان والحياة
، القاهرة 1999.المسيحية القبطية في ألفي عام
، القاهرة 1970. - MacDonald, Dennis R.
هل يقلد العهد الجديد هوميروس؟ أربع حالات من أعمال الرسل
، نيوهافن 2003. - Saad, Saad Michael and Saad, Nardine M.
انتخاب البطاركة الأقباط: تنوع التقاليد
– Bulletin of Saint Shenouda the Archimandrite Coptic Society – 6 – 20-32. - Saad, Saad Michael
الحياة المعاصرة للكنيسة الأرثوذكسية القبطية في الولايات المتحدة
، دراسات في المسيحية العالمية، 16 -207-25. - العصر الحديث (1952-2011):في لويس فرج (محرر):
التراث المسيحي القبطي: التاريخ والإيمان والثقافة
، لندن 2014، ص. 87-102. - Swanson, Mark N.
البابوية القبطية في مصر الإسلامية
، 641-1516، القاهرة 2010. - Watson, John H.
بين الأقباط
، برايتون، المملكة المتحدة 2000. - Werthmuller, Kurt.
الهوية القبطية وسياسات الدولة الأيوبية في مصر 1218-1250
، القاهرة 2010.