إن العلاقة بين مصر وبريطانيا زواج كاثوليكي لا طلاق فيه.[1](أمين عثمان، خطبة في حفل خريجي كلية ڤيكتوريا، ٧ فبراير ١٩٤٠)
كان أمين عثمان وزير مالية حكومة الوفد من ١٩٤٢ إلى ١٩٤٤. اتهم السادات باغتياله، وقت أن كان ضابطًا صغيرًا بالجيش في عهد الملك فاروق. وكما يظهر جليًا من الاقتباس السابق، كان أمين عثمان داعمًا للاحتلال البريطاني، ويود أن يظل الإنجليز دائمًا في مصر. يهمنا هنا، في تحليل مفردات الخطاب السياسي، أنه يستخدم مفردات اجتماعية مثل: زواج كاثوليكي لا طلاق فيه
، بينما يخاطب شعبًا مصريًا يُسمح فيه بالطلاق، سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا. (فمسيحيو مصر أرثوذكس، ليسوا كاثوليك).
بطريقة أوضح، كان معروفًا في المجتمع المسلم، الذي ينتمي أمين عثمان إليه، أن الزواج الأرثوذكسي، مثله مثل الزواج المسلم، ليس أبديًا، وقد ينتهي بالطلاق. لذلك، لو وصف علاقة مصر وبريطانيا بأنها زواج، أو حتى زواجًا أرثوذكسيًا بين مسيحيي مصر (الأقباط)، لرد أحدهم “نطلقهم، لا مشكلة”. ولذلك اختار “زواجًا كاثوليكيًا”، وهو ما لا يؤمن به حتى مسيحيو إنجلترا أنفسهم (الأنجليكان). وباختصار، الكاثوليك هم الطائفة الوحيدة التي لا يوجد فيها طلاق لأي سبب.
لماذا لا يُسمَح بالطلاق لدى الكاثوليك؟ هذه قصة تاريخية طويلة، ربما الكاثوليكي المعاصر لا يعرفها!
لستُ أُريد التوسع في الشق الديني، لكن من المهم هنا الإشارة إلى أن الكاثوليك كانوا الطائفة الأكثر انغلاقًا وتطرفًا في القرون الوسطى. كانت المسيحية هناك سلفية جهادية، والإمبراطورية الرومانية نفسها كانت دينًا ودولةً ومتداخلة اجتماعيًا، وتحكم الناس بسلطة المقدس. الكاثوليكية القديمة، عبر ناس مثل القديس أوغسطين (أواخر القرن الرابع)، أدخلت تراثًا عنيفًا على المسيحية مستمدًا من الفيلسوف سيسرو ونظرية الحرب العادلة [2]؛ لأن قبلها كانت المسيحية تحظر حمل السلاح [3]، أو التجنيد [4]، ولو حتى دفاعًا عن النفس [5].
ما يهمنا أكثر هو الشق الاجتماعي، والقديس أوغسطين نفسه مكتوب اجتماعيًا في اعترافاته الشهيرة. ويمكن تحليل ملخصها بأنه كان في علاقة عاطفية رضائية مع فتاة، ولم ترض أم أوغسطين بها. حدثت بين أوغسطين وحبيبته مشاكل، فَتَطلّقا، فانقلب على النساء عمومًا وقرر الرهبنة. وأعتقد يمكن أن تتخيل كيف أي جماعة متشددة سترحب بـ”العربيد التائب” الذي قرر أن يسلك طريق الرهبنة ويكتب ضد النساء، ويستخدم الدين في ذلك.
يجب على الأزواج الامتناع عن المتعة طوال السنة.
من المؤكد أنه كلما أمتنع أحدهما عن الآخر ، كان ذلك أفضل لهما.
لا يتعلق الأمر بالتخفيف من الرغبة والاكتفاء بالعلاقة الجسدية من أجل التناسل، بل المقاومة قدر الإمكان، وعدم الوقوع في فخ النشوة الجنسية، فالروح والجسد متناقضان، ولا يجب السعي لإيجاد التوازن بينهما بل الانصراف إلى الأمور الروحية قدر المستطاع.[6](القديس أغسطينوس، كتاب “وقت لتبادل القبل” لجان لوي فلاندران – بحث عن أصول الأخلاق الجنسية الغربية)
والقديس أوغسطينوس هنا لا يخترع ابتداعًا، بل يسير على خطى سلفه القديس إيرونيموس (جيروم)، الذي كان يحرم الحب بين المتزوجين، ويرى فيه شهوة جنسية لا تليق بالكاثوليكي المنضبط، وتُعد خطيئة.
تأجج الرغبة الجنسية بين الزوجين خطية.[7](القديس جيروم، القداسة في المسيحية بين المتزوجين، للقمص صليب حكيم)
هذا المسار اللاتيني اللاجنسي المتطرف اجتماعيًا، سيصل أقصاه مع القرون الوسطى، وفي عام ١٢٥٤، ستظهر جماعة كاثوليكية اسمها الولدينسيين وتقول:
إن المتزوجين يخطئون بشكل مميت، إذا اجتمعوا بدون أن تكون الذرية هدفهم.[8](Michael Thomsett, Heresy in the Roman Catholic church: A history)
التعبير السابق يعني ببساطة تجريم العلاقات الزوجية لأي سبب سوى الإنجاب! ورغم أن هؤلاء المتطرفين لم يأتوا بشيء جديد عن خط التطرف السابق، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية اهتمت بالولدنستيين لأسباب تتعلق بالتحكم الاجتماعي، فلما وجدت هذا الكلام ينتشر بين الناس، الذين شعروا في زيجاتهم أنهم يرتكبون خطيئة، فجاءوا للكنيسة ليعترفوا ويتوبوا، ليصبحوا قطيعًا من المواشي اللطيفة، المسالمة، السهلة القيادة من أعضائها التناسلية. فقررت بالتالي التدخل اجتماعيًا في هذه المنطقة الجنسية الحساسة، لكن كأداة تحرر جنسي! يعني الكنيسة ستعارض الولدنستيين وستُنشئ سرين مسيحيين جديدين هما: سر الزواج وسر الاعتراف!
نعم، فهذان السرّان الحديثان ينزلان كومبو مع بعض. عرّفت الكنيسة الكاثوليكية عبر مجمع فلورنسا عام ١٤٣٩ الزواج
بأنه سرّ مقدس
، ووصفته بأنه؛ لا يُمكن حله
. ومن ثم يكمل المقطع: على الرغم من أن الفصلَ بينَ السريرِ أمرٌ قانونيٌّ بسببِ الزنا، فإنه ليسَ منَ القانونيّ عقدَ زواجٍ آخرَ؛ لأن رابطةَ الزواجِ المعقودِ بشكلٍ قانونيّ: هي قائمةٌ [دائمة].
باختصار، عقد الكاثوليك صفقة مع الولدنستيين: أنا أحرمك وأهرطقك إن لم تعترف بأن الزواج “سرٌّ مقدس”، لكن الزواج الذي أُعقِده سأجعله أبديًا أزليًا سرمديًا إلهيًا، لا يُحلّ حتى بسبب الزنا، ويضرب به المسلمون، أمثال أمين عثمان، المثل عام ١٩٤٠ في العلاقات القائمة على الاحتلال! فماذا يكون الزواج في نظر اللاجنسيين والمتطرفين سوى احتلال وامتلاك وتصرّف في أجساد الآخرين؟
خطبة أمين عثمان وتأثيرها لم ينتهِ في جامعة فيكتوريا. في الحقيقة، أريدك أن تتخيل مشاعر أرثوذكسي متطرف غيور على كنيسته حين يجد مسلمًا يضرب المثل بالزواج الكاثوليكي لا الأرثوذكسي! بعيد عنك نارٌ قايدة! لماذا لا يصل تطرفنا المحلي إلى العالمية ويضرب به المثل يا مسلمين؟
وهنا سأكتفي لأن أشير لأساطين التطرف والاستنساخ الطائفي من القديسين المحليين:
القديس حبيب جرجس:
كان ثعلبًا طائفيًا، ويرى أن تجربة الكاثوليك في مجمع فلورنسا للخصاء والتحكم الاجتماعي لن تكون مؤثرة بدون سرّ الاعتراف الذي أُقرّ في نفس المجمع. فالاِعتراف السري هو ما يُخضع الخروف الكاثوليكي، فيُفصح عن بلاويه فيبقى مكسور العين أمام الكاهن أصلًا، وهو أهم كآلية تحكم اجتماعي. لذلك، سيستورد مفهوم الأسرار الكاثوليكية ويحقنه في الخروف الشرقي، ويعمل له تأصيلًا شرعيًا نصيًا من الكتاب والسنة!
استخدام ق. حبيب جرجس لكتابات غربية في زمن قلت بل تكاد اندثرت فيه القدرة على الاطلاع على الكتابات الآبائية» … «استخدام رجال التعليم في الكنيسة نفس الكتابات الغربية في زمن ملأت فيه كتابات الآباء مكتبات الكنيسة أمر غير مفهوم وعلامة استفهام يجب البحث بأمانة عن جواب لها. الدفاع المستميت عمن أتوا من بعد ق. حبيب جرجس واستخدموا ذات المصادر دون العودة للآباء هو أمر من أعجب ما يكون.[9](نيافة الأنبا سوريال، في كتابه عن حبيب جرجس)
القديس نظير جيد:
وهذا القديس لن نستطيع التكلم عنه بأريحية، ولن نوفيه حقه مهما كتبنا، لأننا في مجتمع غير حرّ، وغير نقديّ. يكفي القول إن الرجل كان هتيفة مظاهرات مكرم عبيد، الذي اختار أمين عثمان مديرًا لمكتبه في الحادي عشر من يناير عام ١٩٣٠.
الجزء القادم عن نظير جيد هو من تلخيصي لـ ٣ مصادر، وسأتركهم تحت النص:
انضم “نظير” إلى حزب الكتلة الوفدية بقيادة الزعيم القبطي مكرم عبيد باشا وأشترك في تفنيد الدعاية الانتخابية لمصطفى النحاس، فألف مكرم عبيد “الكتاب الأسود” وألف نظير جيد قصائد هجاء وقصائد أخرى للحماس الوطني.
في ١٣ نوفمبر في “عيد الجهاد” كان نظير جيد ذاهبًا لمكرم عبيد في مكتبه ليلقى أمامه قصيدة، وكان مكرم عبيد يعقد اجتماعًا كل شهر تقريبًا في ميدان باب الحديد، فكان نظير يلقى خطبة حماسية وطنية في هذا الاجتماع، وكان عنوان إحدى خطبه: “الرسالة الموجهة إلى رفعة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا”، قال فيها:
الشعب منك تبرم..
وللإله تظلم..
وأنت في الحكم تلهو..
وفي الملأ تتحكم..
تلهو وتظهر نبلاً..
حتى أنبرى لك مكرم..
فقام مكرم عبيد باشا من مقعدة وحضن نظير جيد، وكان عدد كبير من الحاضرين من شباب الأزهر فبدأوا يقولوا “الله أكبر” ويصفقوا وألقوا بعمائمهم في الهواء، وكان مكرم عبيد يعرفه شخصيًا وخلع عليه لقبًا هو: شاعر الكتلة الوفدية.
وكان البوليس السياسي حاضرا أثناء إلقاءه هذه القصيدة وفي اليوم التالي هاجم البيت وكسروا الأثاث وقطعوا المراتب والأغطية (اللحفة) يبحثون عن أشعاره المكتوبة وكان نظير يحفظ أشعاره في ذهنه فصعب عليهم أن يمسكوا مستندًا يدينوه به في ذلك الوقت. [10]، [11]، [12]
وباختصار، القديس نظير جيد ليس تربية كنائس، بل تربية حواري السياسة والنفاق والمتاجرة بالشعارات والاسترزاق منها. في المشهد السابق وحده، نرى قصيدة ركيكة جدًا، لكنها في فن الهجاء، أي الهجوم على الخصوم، ألهبت قلوب المؤيدين حتى ألقى بعضهم عماماتهم في هستيريا النفاق الجماعي لكلامٍ فنيّ بمستوى قصيدة الستموني الشهيرة؛ آه يا قفا!
سيصبح نظير بطريركًا على كرسي مار مرقس الأرثوذكسي، وسيستكمل طريق معلمه القديس حبيب جرجس في القيادة الاجتماعية والتحكم الجنسي والنفسي في الشعب. ويصدر القرار الباباوي الشهير بعد أربع أيام فقط من توليه السلطة، وسيصبح اسم هذا القرار
لا طلاق إلا لعلة الزنا
أشهر من أن يُنسب لنظير. وستنمو الأجيال الصغيرة المغسولة دماغيًا والمختطفة ذهنيًا معتقدةً أن هذا هو كلام المسيح ذاته.