المقال رقم 21 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

نستكمل شرح صلاة الرب يسوع المسيح إلى الآب في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر. واشرنا في المقال السابق أنها تستعلن حقيقة الإيمان المسيحي من جهة طبيعة الرب يسوع المسيح -الله الذي ظهر في الجسد- (تيموثاوس الأولي ٣). فلا يمكن فهم هذه الصلاة إلا علي ضوء سر التجسد الإلهي الذي فيه تم أتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص/أقنوم “أبن الله” الذي هو في نفس الوقت “أبن الإنسان”.

”مِن أجلهم أنا أسأل … مِن أجل الذين أعطيتني لأنهم لك“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٩)

واضح أن صلاة المسيح “أبن الله” إلي أبيه الصالح، وبالذات في هذا الإصحاح هي “مِن أجل” خلاص البشر “ذرية داود”، لأنه هو أصلُهم بكونه “أبن الإنسان”، وقد حَلَّ بينهم في ملء الزمان المخلوق عندما صار واحداً منهم ”أنا أصل و ذرية داود“ -كما شرحنا في المقال السابق-. وهذا يلغي الاستدلال الخاطئ أن صلاة المسيح إلى الآب من أجل الإنسان تتعارض مع ألوهية المسيح.

”أنا أظهرت أسمك للناس“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٦)

الرب يسوع المسيح هو ليس مجرد واحدٌ مِن الأنبياء كما تقول بعض الأديان عنه، لأن ”الله، بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في أبنه… الذي به أيضا عمل العالمَين، الذي هو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته“ (عبرانيين ١)، فالمسيح هو “كلمة الله”. وبهذا نفهم أن كلام الله لنا ليس حروف بل يحمل الحضور الحي والفعلي لشخص الله الفاعل في تاريخ الإنسان (الله… كلمنا … في أبنه).

وهكذا أيضاً “أسم الله”. فنجد أن الرب يسوع المسيح يكشف لنا في (يو ١٧ : ٦) أن شخصه الحي هو الاستعلان الحقيقي لأسم الله، وقد أظهره للناس بحضوره الحيّ الفعَّال في تاريخ الإنسان عندما تجسد ”الله ظهر في الجسد“. وبهذا فإن المناداة باسم الله وكلمته هو أستحضار فعلي واستعلان متجسد لكيان الله الحي في شخص يسوع المسيح  بين البشر ”إن أجتمع اثنان أو ثلاثة بأسمي فهناك أكون في وسطهم“.

يستكمل الرب حديثه عن البشر والإنسان

” كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك. والآن علِموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك. لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم [أنا]، وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت مِن عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٧-٨)

كانوا لك
هو تصريح يكشف عن مكانة الإنسان عند الله في تدبير الخلق. فالإنسان مخلوق إلهي، أراده الله أن يكون في شركة حب معه بملء حرية الإنسان وليس بالغصب عنه. فالقصد من الخلق هو أن يكون الإنسان لله عن حب وليس أستعباد ”لا أعود أسميكم عبيداً لكني قد سميتكم أحباء” (يوحنا ١٥).

وأعطيتهم لي
ثم تدخَّلت إرادة الله الخيِّرة عندما عبث الإنسان – بغواية – في تدبير الخلق. فكان تالياً لتدبير الخلق عندما تغرَّبت الخليقة عن الله بسقوط . إن كان دليلاً علي حرية أرادة الإنسان في الاختيار فلم يجبره الله علي البقاء في شركة الحياة معه، ولكن في نفس الوقت  لم يتخل عنه. بل أفتقد الإنسان في غربته بأن تجسد أبن الله كإنسان مثلنا. وجدير بالذكر أن ناسوت الرب يسوع يضم كل البشرية لأنه ناسوت متحد بلاهوت المسيح الغير محدود. كانوا لك“ = تدبير الخلق؛ ”وأعطيتهم لي“ = تدبير الخلاص.

وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني
الرب يوضح أن عودة الإنسان إلي شركة الحياة مع الله مرتبطة بإيمان الإنسان بتدبير الخلاص الذي تم بإرسالية الآب لابنه الوحيد.

”وكل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي. وأنا مُمَجَّد فيهم“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ١٠)


يستمر حديث الرب (يو ١٧ : ٦-٩) عن الذين يؤمنون به، وعن مكانتهم لدي ، و المجد الذي أعدَّه لهم، بالاتحاد ببشريته المتحدة بلاهوته.

وقد يتساءل البعض أنه يكفي القول “أنهم للابن”، فالآب لم يتجسد بل الابن. ولكن قول “أبن الله” أن البشرية المتحدة به في تجسده إنما هي للآب أيضاً لأن اتحادهم في شخص المسيح، وهبهم – بالتبعية – حياة الشركة مع الآب والثالوث. فالمسيح هو الوسيط والطريق الوحيد لنا إلي الله : ”لأنه يُوجَد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس : الإنسان يسوع المسيح“ (تيموثاؤس الأولي٢).

”ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك. أيها الآب القدوس أحفظهم في أسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ١١)

ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك
فقد كانت أحداث الصليب والقيامة قريبة. فأشار الرب إلي صعوده المُزمَع أن يكمله إلي السماء، ودخوله  إلي حضرة الآب لابساً ناسوت الإنسان.

وربما كان هذا هو سبب قول المسيح ل بعد قيامته من الأموات ”لا تلمسيني“، لأن بشريتنا الجديدة في المسيح يسوع القائم من بين الأموات التي نالت فيه التبرير والتقديس، لم تكن قد صعد بها ودخل إلي حضرة الآب بَعد ليقبلها في وجه أبنه الحبيب الوحيد الجنس. وبالتالي، فإن بشرية مريم المجدلية لم تكن قد قَبِلها الآب بَعد. هذا نفهمه من تكملة  قول المسيح لمريم المجدلية ”لا تلمسيني لأني لم أصعد بَعد إلي أبي “.

إن قول المسيح ”ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك …“ يتكلم عن دخوله المُزمَع إلي الأقداس السماوية حاملاً علي يديه، ومقدِماً لأبيه السماوي بشريتنا التي تبررت وتقدست فيه ليصالحنا مع الثالوث الأقدس بعد غربتنا الطويلة منذ أن خرج أبونا آدم وأمنا من هناك بالمعصية. فالقول ”أنا آتي إليك“ تشير إلي صعود بشرية المسيح، أما لاهوت المسيح فهو يملأ السماء والأرض، ولم يحدث أن أنفصل عن لاهوت الله في أثناء التجسد. وقد أكد ذلك تصريح المسيح عن لاهوته وناسوته في تعبير واحد ”ليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء أبن الإنسان الذي هو في السماء“ (إنجيل يوحنا ١) حيث نجد اللاهوت والناسوت متحدان في كل حركة صعود ونزول. وربما نلمح هنا  إشارة مستترة عن شخص (أبن الإنسان)، وأنه سابق ل من العذراء مريم : “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل أبن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأُعطِيَ سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض” (سفر دانيال ٧).

وعندما تم قبول الآب للإنسان في وجه المسيح المتجسد عند دخوله ببشريتنا إلي الأقداس، حينئذ زالت العداوة وأنشق حجاب هيكل اليهود من الوَسَط أثناء صلب وقيامة المسيح، لأن المسيح بذلك قد فتح لنا الطريق مرة أخري إلى الآب.
لذلك يكتب الإنجيل أن مريم المجدلية لمست المسيح، بينما أنجيل آخر يقول أنه منعها أن تلمسه. هذا ما أشار إليه قول الرب ”أيها الآب القدوس أحفظهم في أسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن “. فقد تحقق لنا في المسيح نحن البشر أن نصير “أهل بيت الله” ومحسوبين من الخليقة الجديدة للإنسان في المسيح يسوع ولسنا بَعد مِن بشرية الإنسان العتيق آدم الأول بعد سقوطه. فقد صارت بشريتنا واحدة مع بشرية المسيح.

إن أهمية اتحادنا بناسوت المسيح تظهر في تأكيد المسيح عليه إلي الدرجة أن جعله في مقابلة ومشابهة لوحدانية لاهوته مع لاهوت أبيه  ”ليكونوا واحداً كما نحن “.
ولكن يجب الانتباه أنه عندما يتكلم المسيح “أبن الله الوحيد الجنس” عن كونه واحداً مع الآب في اللاهوت فهذا أمر لا يخص – بطريق مباشر – اتحادنا بناسوت المسيح بسبب تجسده.

”أما الآن فإني آتي إليك. وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ١٣)

إن فرح الرب يكمل بخلودنا الأبدي في ملكوت أبيه. لقد تهلل الرب باقتراب تلك الساعة في ختام أرسالية التجسد الإلهي بصعوده الوشيك إلى الآب، حاملاً بشريتنا فيه بصفته “أبن الإنسان”، ليقبلنا أبيه الصالح في وجه “أبن الله” الحبيب.

”قدسّهم في حقك. كلامك هو حق “.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ١٧)

 ”ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ١٩)


إن الفرح (يو ١٧ : ١٣) والمجد (يو ١٧ : ١٠) بعودة الإنسان إلي الشركة  في مجال حياة ثالوث الله الواحد القدوس هو سبب ونتيجة التجسد الإلهي ”الله ظهر في الجسد“. لأن به تحقق التبرير والتقديس والمجد لطبيعتنا البشرية في ناسوت المسيح ”ولأجلهم أقدس أنا ذاتي“. فصرنا مقبولين عند الله الآب في وجه أبنه يسوع المسيح.

وتأسيساً علي تجسد المسيح “كلمة الله” وحق الله (أنا هو الحق)، نفهم طلبة المسيح إلي أبيه الصالح من أجلنا ”قدسهم في حقك (المسيح). كلامك (المسيح) هو حق “.

والسُبح لله.
بقلم د. رءوف ادوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (١)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٣)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٢) 1
[ + مقالات ]